X
جديد الموقع
حزب الله يهنئ الشعب الفلسطيني على كسر قيود الاحتلال عن المسجد الأقصى المبارك
حزب الله: ما قام به أبناء عائلة الجبارين في القدس درس لأحرار الأمة..
الإمام الخامنئي: الجرائم بحق الشعب الايراني لن تزيده إلا كرهاً للادارة الأميركية وأذنابها بالمنطقة كالسعودية
بيان صادر عن حزب الله تعليقاً على اقتحام النظام البحراني لمنزل آية الله الشيخ عيسى قاسم
حزب الله يدين بأشد العبارات : الحكم ضد آية الله الشيخ عيسى قاسم جريمة
السيد حسن نصر الله يهنئ الشيخ روحاني بإعادة انتخابه رئيسا للجمهورية الاسلامية

مختارات :: يا إلهي ماذا فعلنا؟"..

img

ولد عصر الذرة في السادس من آب 1945 عند الساعة الثامنة وأربع عشرة دقيقة صباحاً، مع إلقاء قنبلة على هيروشيما.

وقع هذا الحدث الرهيب، وأوقع معه نحو ثمانين ألف ضحيّة.لكن الحدث البارز من أطلال الحدث، هو يوميّات الشاهد الحيّ على فظاعة ما جرى في ذلك اليوم، والأيام التي تبعته:الدكتور ميشيهيكو هاشيّا الذي كان آنذاك مدير المستشفى في وزارة البرق والهاتف، وقد دوّن على الورق كل ما شهده ومرّ به.كانت فكرةٌ واحدة تدور في رأسه: فهمُ ما حصل حوله من أحداث، لم يسبق له أن شهد مثلها من قبل.

واليوم ستّون عاماً مضت، قبل أن تظهر يوميّات الدكتور هاشيّا، التي تعتبر أول عمل وثائقي عن بداية عصر، ولد بكارثة، والله أعلم كيف سينتهي.


عندما أتى الجحيم من السماء..

- 6 آب 1945:

السماء صافية تماماً والشمس تلقي بأشعتها على أشجار حديقتي. هذا ما كنت أتأمّله صبيحة ذلك اليوم، مسترخياً على شرفة منزلي ومرتدياً ملابس خفيفة.

فجأة ظهر بريق ساطع، تبعه بريق آخر. كان أول ما خطر على فكري، أنه بريق مصباحٍ على المغنيزيوم أو بريق أحد الباصات الكهربائية. إلاّ أن الظلال والانعكاسات من حولي إختفت كلها، ولم أعد أرى الاّ سحابة من الغبار كانت تغلّف هضبة من الأخشاب المحطمة، إرتفعت عليها إحدى زوايا منزلي.

بدأت أركض من دون وعي، أو على الأقل حاولت ذلك. فالركام متناثر من حولي والصعوبة كبيرة في الوصول الى الحديقة. كنت أشعر بضعف غير طبيعي، وأضطر للتوقّف من حين الى آخر حتى ألتقط أنفاسي.

وهنا تنبّهت أنني كنت عارياً كما خلقتني يا رب. أين ذهب سروالي والبنطال الذي كنت ألبسه؟ ما الذي حصل؟؟

وأخرجني من ذهولي، إحساسي بالدم الساخن وهو يسيل على جنبي وفخذي وخدّي الممزّق. وفجأة أدركت أن زوجتي لم تظهر بعد. وبقيت أناديها، الى أن خرجت بحالة مزرية من وراء الأغصان المتداخلة. وتنفّست الصعداء. وأمسكتها من يدها ثم خرجنا الى الشارع لا ندري ماذا نفعل أو أين نذهب. كانت المنازل تتهاوى الواحد تلو الآخر من حولنا، والحرائق تندلع في كل مكان. كنّا نسير من دون انتباه على رأس ضحيّة من هنا، أو يد ضحيّة من هناك.

أول ما ورد على فكري أمام هذا المشهد المروّع، الوصول الى المستشفى الذي كنت أعمل فيه مديراً. ولكن، لم نكن قد ابتعدنا زوجتي وأنا، مسافة ثلاثين خطوة، حتى توقّفت. لم تعد ساقاي قادرتين على حملي. كنت ألهث من شدة التعب وأشعر بظمأ غير طبيعي. ألقيت بنفسي على الأرض وطلبت من زوجتي أن تكمل الى المستشفى وحدها. فرضخت للأمر وتابعت طريقها على أمل أن تجد من يساعدني.


 

الفيلم المرعب

 

بقيت لوحدي. كان كل شيء يجري من حولي وكأنه مشاهد بطيئة من فيلم مرعب. الظلام شبه تام ودمي يسيل من ساقي بغزارة. كنت أرى ظلالاً لأشخاص أقرب الى الأشباح، يهيمون في الشارع، وقد أبعدوا أذرعتهم عن أجسادهم، حتى لا تحتكّ حروقهم ببعضها. مرّت بالقرب مني إمرأة تحمل طفلها بين ذراعيها. كان الإثنان من دون ملابس. ثم مرّ رجل كان هو أيضاً عارياً، ثم تبعته إمرأة، ثم رجل آخر. كان هؤلاء كلهم يسيرون بصمت مطبق. هذا الصمت الذي يغلّف كل شيء، ويذكّر بكابوسٍ لا ينتهي. تمكّنت من الضغط على جرحي الذي كان ينزف بغزارة. ثم استجمعت ما بقي لي من قوّة ولحقت بزوجتي الى المستشفى.

كانت النيران قد بدأت تندلع في المبنى، ولا بد من إخلاء المرضى سريعاً. كنت أصرخ من دون وعي: النار، النار، المستشفى يحترق، ورأسي تدور وقواي تخونني، وشعرت أن نهايتي اقتربت ولم أعد أحس بشيء.

عندما استرديت وعيي، كنت لا أزال في الهواء الطلق خارج المستشفى، وكان الدخان لا يزال يتصاعد من الطابق الثاني، لكن الحريق كان قد توقّف. وسمعت الطبيب ساسادا يقول لي وهو يأخذ لي النبض:

"تشجع دكتور، سوف ننجو. يقولون أن شمال المدينة إحترق بكامله!". وبالفعل، كانت النيران قد التهمت الحيّ الشمالي كله، وأصبحت هيروشيما صحراء. في الشرق كما في الغرب، كانت الأبنية على الأرض، والشوارع خالية إلاّ من الأموات. البعض بقي في الوضعية التي كان عليها، لحظة فاجأه الموت. الضحايا كانوا يبدون متجمّدين أكثر منهم أمواتاً. بعضهم كان متقوقعاً على نفسه، كما لو أنه تلقّى ضربةً من يدٍ عملاقة ألصقته بالأرض. لم يمضِ وقت طويل حتى أدخلوني الى مبنى المستشفى وبدأوا بمعالجة جروحي التي تجاوزت الأربعين. غبت عن الوعي للمرة الثانية. وعندما أفقت كانت الشمس قد غابت لكن الأفق بقي بلون النار التي كانت تلتهم ما تبقى من المدينة.

 


أصوات الألم والأنين

- 7 آب 1945:

إستيقظت على أصوات الأنين والألم. أناسٌ يتوجّعون، نساءٌ يبحثن عن أولادهنّ، رجال فقدوا عائلاتهم. كان المستشفى، المبنى الوحيد تقريباً الذي بقي واقفاً في هذه الجهة من المدينة وكل من استطاع أن يجرّ نفسه اليه، كان يأتي بحثاً عن ملجأ يأويه. عدد الأشخاص تجاوز المئة والخمسين. كانوا في كل مكان: في ممّرات المستشفى، في الحديقة، وحتى في المراحيض. البعض منهم توفي خلال الليل. أما الأحياء الباقون فقد أصيبوا كلهم بعوارض استفراغ وإسهال. وما زاد في الطين بلّة، أن هؤلاء كانوا يقضون حاجتهم حيثما قبعوا، لعدم تمكّنهم من النهوض بسبب إحساسهم بالضعف الشديد. وغنيّ عن القول ان التنظيف من بعدهم كان مستحيلاً في مثل هذه الظروف.

دخل الى القاعة الدكتور تابوتشي، وهو صديق قديم. كان يحمل على وجهه ويديه حروقاً طفيفة. سألته عمّا حصل، قال:

"كنت أقلّم الأشجار في حديقتي عندما وقع الانفجار. كان هناك بريق أبيض يعمي البصر، تبعته موجة من الحرّ المستعر، رمت بي على الأرض من شدة عصفها. ولحسن الحظ أننا لم نصب، زوجتي وأنا، بأي جروح. ولكن كان عليك أن ترى ما حصل بمنزلنا. كان مدمّراً من الداخل والخارج. لم يبق منه سوى جدرانه التي مالت بشكل غير طبيعي. كنا نشاهد مئات الأشخاص المصابين بجروح، يحاولون الهرب. كان المشهد لا يحتمل: وجوههم وأيديهم محترقة، تتدلّى منها قطع كبيرة من الجلد الممزق. كانوا أشبه بالفزاعة. لقد بقوا يتوافدون جماعات كالنمل طوال الليل. في الصباح وجدتهم ممدّدين على جهتي الطريق على بعد مئات الأمتار من منزلي. لم يتمكّنوا  من الذهاب بعيداً، فوقعوا في مكانهم الواحد فوق الآخر، مكدّسين بشكل كان يتعذّر علينا المرور من دون أن ندوس على جثثهم.".

وهنا تدخل الدكتور كاتسوتاني: "هذا الصباح عندما مررت على الجسر، رأيت مشهداً لا يصدق. كان هناك رجل جالساً على دراجته. كان يبدو وكأنه يتأمل الأفق البعيد وهو متكئ على سياج الجسر. لكنه في الواقع كان ميتاً. لقد حوّله الانفجار الى تمثال.. من كان ليصدق أن أموراً كهذه يمكن أن تحصل؟".

وبقي الدكتور كاتسوتاني يردد عبارته الأخيرة لأكثر من مرتين أو ثلاث، كمن يريد أن يقنع نفسه بأن ما يقوله صحيح. ثم تابع:

"كان في النهر مئات أو ربما ألوف الجثث لأشخاص رموا أنفسهم في الماء هرباً من ألسنة النار. لكن المشهد الأكثر رعباً والذي أثار في نفسي الاشمئزاز، كان منظر الجنود. لا أعلم بالضبط كم شاهدت منهم. كانت أجسادهم قد احترقت بالكامل من الرأس حتى الأوراك، ولم يعد هناك من جلد يغطّي اللحم الذي بدا رطباً وكأنه مكسوٌ بالعفن. لا بد أن المساكين كانوا يعتمرون خوذاتهم لأن شعرهم لم يكن محترقاً. لكنهم كانوا من دون وجه. العينان والأنف والفم، كانت كلها تشكّل فجوة واحدة. أما الأذنان فكانتا تبدوان ذائبتين. أحد هؤلاء الجنود، وهو أيضاً من دون وجه، كان لا يزال حيّاً. وقد طلب مني ماءً لكي يشرب. كانت أسنانه المكشوفة  تبدو ناصعة البياض بشكل غريب. كنت أقف عاجزاً أمام هذا البائس. وكل ما تمكّنت من فعله هو أن أضمّ يديه لبعضهما وأصلّي من أجله".


ما لم يكن في الخيال

كان عددٌ من الأشخاص قد أحاط بالدكتور كاتسوتاني وهو يصف ما شاهد من أهوال لا تصدّق. وسأله أحدهم عمّا كان يفعله حين وقع الانفجار:

كنت أهِمُّ بإشعال سيجارتي بعد أن تناولت الفطور، عندما ظهر بريق أبيض تبعه صوت انفجار هائل. وأدركت للتو أن شيئاً رهيباً قد حصل في هيروشيما. صعدت للحال الى سطح منزلي وشاهدت فوق المدينة سحابة سوداء هائلة الحجم. وركضت بأقصى سرعة الى أقرب مركز عسكري، لكي يرسلوا مساعدة على الفور. وهل أقول لكم ماذا أجابني ضابط الخدمة هناك؟ قال: لا تهتمّ فلن يضير هيروشيما إلقاء قنبلة أو قنبلتين..".

من خلال الروايات التي كنت أسمعها، بدأت أتخيّل مدينة هيروشيما بمظهرها الجديد. في المستشفى، كانت الأمور تسير من سيء الى أسوأ. الكل لا يزال يعاني من الاستفراغ والإسهال. كان هناك دفقٌ مستمرٌ لأشخاص يحاولون معرفة ما حصل لعائلاتهم. كانت الظلمة تعمّ المكان، ولم يكن هناك من ضوء سوى نور الحرائق المندلعة في محيط المستشفى.
حاولت ترتيب الأفكار في رأسي لمعرفة ما حدث: ما هو نوع القنبلة التي ضربت هيروشيما؟ لقد كنت متأكداً من أمر واحد: قبل سماعي صفارة الإنذار بنحو خمس أو ست دقائق، تبين لي أن هناك طائرة واحدة في الجو، لا أكثر. وتذكرت أنه خلال فترة هذا النهار، كان زواري في المستشفى يتحدثون عن متفجرة حديثة وعن سلاح سري أو قنبلة خاصة. ولكن ماذا يعني ذلك؟

مهما يكن من أمر، فإن مدينة هيروشيما قد دمّرت بالكامل، ومعها القوات العسكرية الموجودة فيها. لقد خسرنا الحرب، وسوف نشاهد قريباً الأميركيين يقفون على أبوابنا، وفي داخل هذا المستشفى أيضاً.


رائحة الاجساد المتفحمة

- 8 آب 1945:

تم نقلي مع مرضى آخرين، الى الطابق الثاني من المستشفى. وللمرة الأولى، أصبحت أدرك، بعدما نظرت من نافذتي الى البعيد، ما كان أصدقائي يتحدثون عنه: في قلب المدينة، وعلى بعد ألف وخمسمئة متر تقريباً، شاهدت أنقاض أكبر مبنيين يقفان وحيدين على ركام المدينة، التي أصبحت صحراء من بقايا القرميد والآجر. لم تكن كلمة "دمار" كافية على الإطلاق للتعبير عما كانت عليه حال هيروشيما.

هذا المساء حمل النسيم معه رائحة أجساد متفحمة. كانوا يحرقون جثث الضحايا.

- 9 آب 1945:

عوارض الإسهال والاستفراغ المصحوبة بالدم، تتزايد بين المصابين. هناك أيضاً حالات من النزيف تحت الجلد. نحن الأطباء نقف عاجزين أمام هذه العوارض المرضيّة التي لم تكن ناتجة بمعظمها عن أي حروق أو جروح.

بدأت أميل، وسط كل هذا، الى الاعتقاد بأن سبب هذا النزيف الغريب هو التعرض لتغير مفاجئ في الضغط الجوي كما يحصل عند الصعود فجأة الى أماكن مرتفعة، أو الغوص بسرعة في أعماق المياه. وكنت أعلم من جهة ثانية أن أحد العوارض التي يسبّبها التغير المفاجئ في الضغط الجوي، هو فقدان السمع المؤقت. وتذكرت أني لم أسمع، في يوم الكارثة، أي شيء يشبه الانفجار. وتذكرت أيضاً عندما كنت أسير في الشارع، وكان كل شيء يجري من حولي كما في فيلم صامت. وهذا ما حصل أيضاً مع كل الذين استجوبتهم في ما بعد.
في مقابل ذلك، كان كل من شاهد الانفجار عن بعد، قد سمع دويّه الهائل.

-10  آب 1945:

اليوم تمكّنت من مغادرة الفراش. وأخيراً أصبحت قادراً على المشي. جاءني بعد قليل من يقول لي أنه لم يعد لدينا أدوية. إنه اليوم الرابع للكارثة ولم نتلقّ بعد أي مساعدة من الخارج.

- 11 آب 1945:

الشائعات تدور حول إعلان روسيا الحرب علينا، وبدء قوّاتها بغزو "منشوريا"، لم يعد لدينا أي أمل بالنصر. أحسّ بثقل كبير على صدري. في المساء وردتنا أنباء عن استخدام السلاح السرّي على ناغازاكي هذه المرة.

- 12 آب 1945:

أتى لزيارتي صديق قديم هو النقيب البحري فوجيهارا. وخلال حديثه معي، علّق فجأة بقوله:
"
إنها أعجوبة أنك ما زلت على قيد الحياة".

ثم أضاف:

"القنبلة الذرية شيء رهيب.".

وصرخت مذعوراً: "قنبلة ذرية..".

"نعم، انها قنبلة ذرية. لقد أفادني بالمعلومات أطباء المستشفى البحري في أيواكوني، حيث تجري دراسة الحال الصحية لعدد من الناجين من كارثة هيروشيما وكان أول ما تبيّن للأطباء هناك، النقص الهائل في كريات الدم البيضاء..

الامبراطور يعلن خسارة الحرب

- 15 آب 1945:

تمّ استدعاؤنا لاجتماع في أحد مكاتب الوزارة، حتى نستمع الى تصريح هام سوف يعلن في الإذاعة. ولحسن الحظ أن أحدهم قام بتصليح جهاز الراديو الذي تضرر بفعل الانفجار. لم يكن الصوت واضحاً. وكل ما تمكنا من سماعه عبر نوبات التشويش والقرقعة، هو أنه علينا "تحمُّل ما لا يحتمل"..

عندما انتهى البث، توجه السيد أوكاموتو مدير عام الوزارة نحونا بالقول: "كان ذلك صوت الامبراطور نفسه، وهو يعلن للأمّة أننا خسرنا الحرب.".

وهنا صرخ أحد الحاضرين:

"جنرال توجو أيها الغبيّ الأحمق. أغرز خنجراً في بطنك ومُت".

- 18 آب 1945:

عارض جديد ظهر اليوم بين المصابين. كثيرون بدأوا يفقدون شعرهم، وأصبح لون بشرتهم بشعاً.
لو كنت فقط أملك مجهراً لكي أجري فحص دم لهؤلاء، علني أجد سبباً لهذه الظاهرة المرضية الجديدة.

- 19 آب 1945:

كنت على وشك أن أنام عندما خرق الأجواء صراخ حاد. كانت هذه إحدى مريضاتنا. لقد أصيبت بنوبة عصبية. أعطيتها حقنتين من المورفين حتى تهدأ.

كل المصابين الذين عالجنا حروقهم وجروحهم، والذين كانوا يتماثلون الى الشفاء، يظهرون الآن عوارض جديدة أكثر خطورة، تؤدي بهم الى الموت الواحد تلو الآخر. إننا نقف عاجزين أمام هذا الواقع الذي يدعو الى اليأس.

لقد كان عدد الوفيات في الأيام الاولى للكارثة، يصل الى المئات. لكنه تضاءل في ما بعد. والآن ها هو يتزايد من جديد.

عوارض الإصابات

- 20 آب 1945:

وأخيراً وصلني المجهر الذي طلبته من طوكيو. وعلى الفور أجريت فحصاً لدم ستة من المصابين. كان عدد الكريات البيضاء في دمهم يقارب الثلاثة آلاف فقط (العدد الطبيعي يتراوح بين الستة والثمانية آلاف).

بعد قيامي بفحص الدم لأكبر عدد ممكن من المرضى، تبيّن لي أن عدد الكريات البيضاء نزل عند بعضهم الى الألفين، وفي بعض الحالات الى الخمسمئة...

- 30 آب 1945:

لائحة الموتى تطول كل يوم. والسبب هو دائماً نزيف داخلي يصيب عضواً في الجسم. كان أكثر الأعضاء الداخلية تضرراً، الكبد والطحال. كانا يبدوان في كل عملية تشريح، أصغر حجماً من الحجم الطبيعي، لا سيما الطحال.

- 4 أيلول 1945:

زارني أحد الأصدقاء، السيد هاشيموتو، وروى لي ما شاهده من الكارثة:

"كان الباص الكهربائي قد غادر المحطة لتوه، عندما سمعت دويّاً هائلاً. إنقطع التيار وتوقف الباص. كان الركاب يقفزون الى الأرض مذعورين. ثم رأيت سحابة هائلة الحجم ترتفع فوق هيروشيما. كانت تظهر على جانبيها سحب أصغر حجماً. كانت جميلة جداً مثل شاشة من الذهب. والواقع أني لم أشاهد في حياتي أروع من ذلك المنظر، الذي فاق بجماله كل وصف.

- 8 أيلول 1945:

تبيّن لي بشكل عام أن المصابين الذين يظهرون العوارض الصحية الأكثر خطورة، كانوا الأقرب من بؤرة الانفجار. والعكس صحيح. إنما هناك عدد من الحالات الاستثنائية. فبعض الذين كانوا قريبين جداً من مركز الانفجار لم تبدو عليهم سوى عوارض خفيفة.

بعد دراستي لكل حالة على حدة، وجدت أن السبب في ذلك يعود الى وجود هؤلاء صدفة في مأمن من الإشعاعات، وراء جدران من الباطون أو ببساطة، وراء أشجار ضخمة.

رفع دعوى...كلمات بلا معنى

- 20 أيلول 1945:

كنت آخذ قسطاً من الراحة بعد وجبة الغداء عندما أتى موظف يقول لي أن ضابطاً أميركياً يقف على باب المستشفى. وكان جوابي على الفور من دون تفكير:

- ­ "تجاهله".

- ­ "لا تقل مثل هذا الكلام أرجوك"، قال لي الموظف. "يجب أن تذهب لرؤيته". ولم يكن قد أنهى كلامه، حتى سمعت خطوات على الدرج، ثم ظهر ضابط شاب أنيق الهندام.

طلب الضابط الاميركي أن أطلعه على ما يدور في المستشفى. بعد ذلك سألني فجأة وهو ينظر من النافذة:

-  "وأنت دكتور، ما رأيك بما حدث؟".

أجبته من دون تردد: "أنا رجل بوذي. تعلمت من صغري الإذعان لما يحصل. لقد خسرت منزلي وصحتي. لكني أعتبر نفسي محظوظاً، لأن السماء أبقت على حياتي وحياة زوجتي.
-  "
لا أستطيع أن أشاطرك الرأي"، قال لي الضابط الشاب بلهجة عميقة يشوبها الحزن. "لو كنت مكانك لأقمت دعوى على البلد المسؤول مطالباً إياه بتعويض عن العطل والضرر".
ثم بقي الضابط يتأمل لفترة، بقايا مدينتنا المنكوبة، قبل أن ينصرف. وبقيت كلماته الأخيرة ترنّ في أذني:

رفع دعوى على البلد المسؤول... رفع دعوى على البلد المسؤول...

كان لدي شعور، بأن هذه الكلمات سوف تبقى إلى الأبد من دون معنى بالنسبة لي.

الولد الصغير[1](Little Boy)

"الولد الصغير" هو إسم القنبلة الذرية التي تلقتها مدينة هيروشيما اليابانية. "يا إلهي ماذا فعلنا؟"، هكذا صرخ مساعد الطيار الذي ألقى القنبلة.

كانت القنبلة الذرية تحوي طنين من اليورانيوم وكانت تغطيها مجموعة شتائم، موجهة الى اليابانيين.

الجحيم الآتي من فوق

أطلق انفجار القنبلة الذرية، زوبعة من الحر الملهب، أحرق مدينة هيروشيما. وقد أخذت السحابة الذرية شكل فطر، وصل ارتفاعه الى عشرة آلاف مترً خلال ثلاث دقائق. وبعد ساعات قليلة من الإنفجار، إنهمرت على المدينة أمطار سوداء. ثلاثة وثمانون ألف شخص قضوا على الفور. ولحق بهذا العدد في ما بعد، ثلاثة وخمسون ألف آخرين بسبب الإشعاعات الذرية التي يمكن أن يمتد تأثيرها الى مئة وخمسة وسبعين عاماً.

السباق المحموم

لم ينسَ العالم المحرقة الذرية التي ضربت اليابان منذ ستين عاماً. مع ذلك فهو يستمر في سباقه النووي المجنون: نحو ألف ومئتي مليار دولاراً أميركياً، تنفق سنوياً في مجال تطوير الأسلحة النووية. فما هو الهدف من تكديس مئة وخمسة وخمسين ألف قنبلة نووية، أصغرها أقوى بمئة وخمس وستين مرة من قنبلة هيروشيما الذرية؟ وما الهدف من بناء ترسانة نووية قد تحصد اذا جُنّ جنونها، ما يقارب العشرة أو الخمسة عشر مليون ضحية بين قتيل وجريح ومعوق؟ ما هو الهدف من استماتة الدول، الواحدة تلو الأخرى، للانضمام الى سباق محموم في مجال التسلّح النووي؟ والى متى سوف تبقى أرضنا وشعوبها، رهينة أصحاب النفوس المريضة بحب السلطة؟.

*صورة لأحد الناجين من كارثة هيروشيما.

 



[1] عن مجلة:  Science & Vie - Aout 2005

 

تعليقات الزوار


الغوث الغوث ياصاحب الزمان

يا مولانا ياصاحب الزمان أدركنا و أغثنا من دوي النفوس الشريرة، فقد تكاثرة و تكالبت فمتى يكون الفرج ياسيدنا

2013-08-08 15:56:59
مواقيت الصلاة

بتوقيت بيروت

الفجر
5:33
الشروق
6:46
الظهر
12:23
العصر
15:32
المغرب
18:16
العشاء
19:07