حيث إن ارتفاع أسعار النفط يعود بالنفع على المملكة العربية السعودية من الناحية المادية، فلماذا إذن توافق على أي اتفاق يؤدي إلى انخفاض الأسعار؟ وحول هذه المسألة، نشرت مجلة «فورين بوليسي» تقريرًا أعدَّه كولم كوين، كاتب النشرة الإخبارية في المجلة الأميركية.
رهان بايدن في السعودية
استهل الكاتب تقريره بالقول إن الرئيس الأميركي جو بايدن وضع حدًّا للتكهنات بشأن رحلته المقررة إلى السعودية من خلال تأكيده أنها ستحدث بالفعل، مع توقُّعات بأن يقوم الرئيس الأميركي بالرحلة في إطار جولة في منطقة الشرق الأوسط خلال الفترة من 13 إلى 16 يوليو (تموز) وتشمل التوقف في إسرائيل.
ومن المقرر أن يقوم بايدن بتلك الرحلة رغم احتجاجات جماعات حقوق الإنسان وعدد من الشخصيات البارزة داخل الحزب الديمقراطي (حزب بايدن نفسه)، الذين يرون أن الزيارة الرئاسية ستمنح السعودية مباركة ضمنية لسجلِّها في انتهاكات حقوق الإنسان. ومن جانبها، قالت تريتا بارسي، نائبة الرئيس التنفيذي لمعهد كوينسي لفن الحكم الرشيد: «رحلة بايدن أشبه ما تكون بحزمة إسعافات أولية للجرح الغائر الذي باتت تعاني منه العلاقات الأميركية السعودية».
وأضافت تريتا في تصريحها الذي أرسلته عبر البريد الإلكتروني للمجلة «من الواضح أن أميركا عليها العمل من أجل إقامة علاقات صحية أكثر مع السعودية، ولكن هذا ببساطة غير ممكن ما لم تعالج الولايات المتحدة أوجه القصور العميقة في جوهر تلك العلاقة، والتي ترتبط بغض طرف الولايات المتحدة عن دعم السعودية للإرهاب الجهادي وانتشار الوهابية وغيرها من الأنشطة المزعزعة للاستقرار في المنطقة».
بايدن يتراجع عن تعهداته الانتخابية
يوضح التقرير أن زيارة بايدن للسعودية تُعد تراجعًا عن تعهده بجعل السعودية «منبوذة» خلال حملته الانتخابية، كما أنها تصطدم بقوة مع تحركاته التي اتخذها في أوائل فترة رئاسته لتجميد مبيعات الأسلحة وسحب الدعم الأميركي للحرب في اليمن. ومع ذلك، كان ذوبان جليد العلاقات المتوترة سيحدث حتى قبل ارتفاع أسعار النفط، وذلك مع استضافة واشنطن سرًّا الأمير خالد بن سلمان، شقيق ولي العهد، العام الماضي.
وعلى الرغم من أغصان الزيتون التي يلوِّح بها البيت الأبيض، لا يزال هناك اشمئزاز في واشنطن من مقتل الصحافي السعودي المعارض، جمال خاشقجي، على أيدي عملاء سعوديين، (وهي عملية الاغتيال التي كشفت الاستخبارات الأميركية عن أنها نُفذت بأمر من ولي العهد الأمير محمد بن سلمان). وهذا ما تجلى بوضوح في الآونة الأخيرة بعد الإعلان عن إطلاق اسم جمال خاشقجي على الشارع الذي تقع فيه السفارة السعودية في الولايات المتحدة.
ويلفت التقرير إلى أن بايدن استبدل التهدئة بالخطاب المتشدد، حاله في ذلك حال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي فعل ذلك من قبل، على أمل أن يكون استعراض التقارب كافيًا لإقناع ولي العهد السعودي، الذي كان منبوذًا في السابق، بمباركة زيادة إنتاج النفط للمساعدة في استقرار أسعار النفط العالمية، بالإضافة إلى انخفاض أسعار البنزين في الولايات المتحدة.
انتظار خروج بايدن من البيت الأبيض
وألمح التقرير إلى أنه مع اقتراب انتخابات التجديد النصفي الأميركية، وضعت إدارة بايدن المخاوف الاقتصادية المحلية على رأس أولوياتها، وبدأت في مهاجمة شركات الطاقة المحلية التي تسعى لجني الأرباح في ظل ضغوط الأسعار. وبعد خطاب ألقاه عن خططه لكبح جماح التضخم يوم الجمعة، قال بايدن إن «شركة إكسون (شركة نفط وغاز أميركية) كسبت أموالًا طائلة هذا العام».
ويمضي التقرير موضحًا أنه إذا كان واضحًا سبب احتياج بايدن إلى السعودية في هذه المرحلة، فلا يبدو واضحًا ماهية السبب الذي يجعل السعودية تحتاج إلى بايدن، لا سيما في ظل ارتفاع أسعار النفط التي تنعش الاقتصاد السعودي وتسهم في دعم خزائن المملكة. ويبدو هذا الأمر جليًّا، لا سيما أنه للسعوديين ببساطة، إذا كانت استطلاعات الرأي دقيقة، انتظار خروج بايدن من السلطة.
وينوه التقرير إلى أنه من المقرر أن يكون النصف الثاني من فترة رئاسة بايدن أصعب من النصف الأول، إذ يُرجَّح أن يسيطر الجمهوريون على مجلس النواب، إن لم يسيطروا على مجلس الشيوخ، في نوفمبر (تشرين الثاني) القادم. وسيكون لهذا الأمر آثاره الخاصة في السياسة الخارجية، كما أوضحت دانييل بليتكا، زميلة معهد «أميركان إنتربرايز» في مقالها المنشور في مجلة «فورين بوليسي» الأسبوع الماضي.
التخلي عن الديمقراطية وشرعنة الاستبداد
ويرجح الكاتب أن تكون الولاية الثانية للرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، في عام 2024، وهو احتمال قائم، بمثابة الكرز على الكعكة بالنسبة للرياض، التي لن تتوقع حدوث أي من الخلافات التي اتسمت بها العلاقات بين الولايات المتحدة والسعودية في عهد بايدن. وعلى الرغم من الاستثمارات العسكرية الضخمة، لا يزال الأمن مصدر قلق كبير للسعوديين، ومع ذلك، فإن الالتزام الدفاعي الواضح للولايات المتحدة من شأنه أن يوفر مبدأ المنفعة المتبادلة التي تريدها السعودية من واشنطن.
وفي هذا الصدد، تحدث ستيفن كوك، خبير شؤون الشرق الأوسط في مجلس العلاقات الخارجية، إلى مجلة «فورين بوليسي» قائلًا: «هناك شيء تلو الآخر يزعزع إيمانهم بفكرة أن المنقذ سيظهر في النهاية، إن السعودية تبحث عن شيء آخر غير الكلمات التي ستقنعهم بأن الأميركان ملتزمون بأمنهم». ويبدو أنه من غير المرجح أن يكون الطريق ذا اتجاه واحد، إذ يتوقع كوك أن يضغط بايدن على السعودية لتقطع على نفسها التزامات بشأن مسألتين صعبتين لكي توفر له غطاءً سياسيًّا لدى الكونجرس: وهما تحسين سجلَّها في مجال حقوق الإنسان، بالإضافة إقامة علاقات مع إسرائيل
ويؤكد التقرير أنه إذا كانت رحلة بايدن تركز على زيادة الإنتاج فحسب، فقد ينتهي بها الأمر إلى أن تكون هباءً منثورًا، مع ترك سوق النفط المتأزم في حالة من الركود. وقال دانييل ييرجين، مؤرخ النفط ونائب رئيس مجلس إدارة شركة «إس آند بي غلوبال» لشبكة «بلومبرغ»: «يتلخص الأمر في أن السعودية والإمارات ليس لديهما كثير من النفط يمكن أن يحدث تغييرًا كبيرًا في السوق. إن حالة العرض ضعيفة جدًّا».
كتب جانان جانيش في صحيفة «فاينانشيال تايمز» البريطانية: «هذا هو الوقت المناسب لبايدن كي يذهب في رحلته إلى السعودية ويتخلى عن الديمقراطية المُبالَغ في تبسيطها لصالح تأطير الاستبداد من جديد. إن الغرب منغمس في صراع ضد نظامين استبداديين محددين. وهذا الصراع ليس ضد الاستبداد نفسه مثلما قد يعتقد بعض الناس. إن التحدي المتمثل في روسيا والصين (الجمهوريون الأميركيون يضعون إيران في المرتبة الثالثة) مروِّع بالقدر الكافي والأمر لا يحتمل الدخول طواعيةً في مواجهة ضد نمط كامل من الحكم الاستبدادي (السعودي)»، وفق ما يختم الكاتب.
بتوقيت بيروت