التعبئة التربوية في صيدا أطلقت دورات الدعم العلمي لطلاب الشهادات الرسمية
وطنية - اطلقت التعبئة التربوية ل "حزب الله" في منطقة صيدا دورات الدعم العلمي لطلاب الشهادات الرسمية، بمشاركة طلاب من صيدا وحارة صيدا والغازية وقناريت وعنقون وحومين التحتا ورومين واركي.
وبلغ عدد المشاركين 287 طالبا من الشهادتين المتوسطة والثانوية، ورافقت الدورات ورش تربوية متخصصة، بإشراف المسؤول التربوي محمد زراقط.
إنهيار البلد... مساوئ على الطبقة المتوسطة والفقيرة والجامعة اللبنانية خصوصاً
النهار - غفران جنيد ــ يعيش لبنان منذ 2019 أزمات متتالية؛ لكن اشتدت حدة هذه الأزمات في الأيام الأخيرة؛ حيث وصل الدولار مقابل الليرة إلى 38 ألفاً، وهو رقم قياسي لم يسجله لبنان من قبلً.
مع هذا الارتفاع، حسب البنك الدولي منذ يوم واحد، ارتفعت اللحوم بنسبة 137% والبطاطا بنسبة 60,2% والأجبان بنسبة 53% والخبز والمعجنات بنسبة 34%.
هذه الارتفاعات جميعها أدت إلى صدمة كبيرة للبنانيين، خصوصاً في كل نواحي البلد من شماله إلى جنوبه.
وقد انعكس هذا الارتفاع على المواصلات والاتصالات، والمتضرر الأكبر هي المؤسسات الرسمية واللبنانيون عموماً، مقابل عدم زيادة الأجور للبنانيين، حيث الحد الأدنى للأجور هو مليونا ليرة لبنانية فقط بعد التعديل عليه، بعد أن كان 650 ألف ليرة فقط.
هذان المليونان لا يكفيان أبداً لعائلة صغيرة بعد الارتفاع الكبير بالدولار والمواد الغذائية؛ لنأخذ مثلاً فقط قارورة غاز واحدة التي بلغ سعرها 500 ألف ليرة، أقله في آخر تحديث لها، إضافة إلى الفاتورة الغذائية الشهرية والبنزين وغيرهما؛ كل هذا يتعدى المليونين بمرة أو مرتين أو أكثر حسب حجم العائلة.
وأهم شيء تقدمه العاىلة هذه لأولادها هو التعليم ليصلوا إلى الجامعة اللبنانية، حيث أصبحت أيضاً تعاني العديد من المشاكل. ويذكر هنا أن غالبية طلابها هم من الطبقة المتوسطة والفقيرة، أي لا يتعدى معاشهم الشهري مليوني ليرة لبنانية.
من هذا المعاش سوف يضطرون إلى دفع بدل النقل الذي احتسبه بعض الطلاب في الامتحانات فقط (أي ٣ أيام من عكار إلى طرابلس) مليوناً ونصف المليون، أي يبقى للعائلة نصف مليون لبقية الشهر.
ماذا يفعلون في نصف مليون في ظل هذه الأزمة العصيبة؟ هل من مجيب لنداء الطلاب الذي يرفعونه يومياً على مواقع التواصل؟ هل من حل لهؤلاء الطلاب؟ هل من يستمع إليهم؟
الإجابة طبعاً لا. وبالإضافة إلى ذلك إصدار قرار لم يطبق بعد هو دفع التسجيل بالدولار، وكأنه لم يكفهم بدل النقل؟ وكأنه لم يكفهم أنهم ليس لديهم جامعات في بلدتهم؟
كل هذا وحمّلوا أعباء الجامعة وانهيارها وإصلاحها للطالب عبر اقتراح من هذا النوع.
هذه الأزمة تخطت حدودها مع الطبقة الفقيرة والمتوسطة، حيث أصبح الوالد يفكر ألف مرة قبل أن يرسل أولاده إلى الجامعة اللبنانية التي يفترض أن تكون مجانية.
إنها جامعة الوطن.
لكن كما يقال: "إن انهار التعليم لن يبقى بلد..."، لكن هل هذا ما يريدونه؟
رسالة استقالة في سبيل الفلسفة والجامعة والإنسان
"النهار" ــخالد كموني* ــ علَّمتنا الفلسفة أن الحياة مظهرُ الإرادة الحرَّة، كي نكون شيئًا في هذا الوجود. إن الفلسفة هي نضال النفوس الشريفة في إثبات قيُّوميَّة العقل فوقَ أي اعتبار، هكذا وضعتنا العبارات في واحة المعنى، نختار ما يحاكي أخلاقيَّة الحضور الاجتماعي، ونثور في وجه كلِّ من تسَوِّلُ له نفسه أن يمسَّ كرامةَ الإنسانِ في العيش الحر. هذا العيش الذي يجعلُ الرأيَ بمستوى الكينونة العارفة والحضور الواعي في الوجود.
إن ما جرى في الجامعة اللبنانية هو قصدِيَّة الإفساد، هذا الفعل الشنيع الذي أودى بمصير ما يقرب من تسعين ألف طالبٍ وأربعة أو خمسة آلاف أستاذ وعامل ومدرِّب، وغيرهم مِمَّن انتمى إلى هذا الصرح الوطني العظيم. هذه الجامعة ليس فيها مَن يعرِفُ قيمةَ المقام الذي يقيم فيه؛ إن إدارة الجامعة يجب أن تُدرِكَ أن مقامَ العلم هو مبعثُ القرار وليس مصفاةَ قرارات الإدارة السياسية للبلاد، بخاصَّةٍ أننا محكومون من ساسةٍ لا يعرفون إلى الضمير نهجًا ولا إلى القانون دربًا ولا إلى الحق وسيلة.
إن إدارات الجامعة وعماداتها ورئاستها، كلها مناصب ملك الطوائف اللبنانية، توزَّع على أديان الأمة ومِلَلِها بالتساوي، فإذا اختلَّ ميزانُ تعيين واحدٍ من هذه المجموعة، فإن تعطيل الجامعة بأسرها أمرٌ حتمي وعادي بالنسبة إلى هذه الزمر.
إنَّ المِلَّةَ أهمُّ من كلِّية الآداب والعلوم الإنسانية، ومن قسم الفلسفة فيها، ومن محاضرات العلم كلِّها، فأن توزَّع الساعات على الأساتذة بالتساوي، يعني في مفهوم هذه الإدارات الحكيمة ألا يأخذ السنّيّ أكثر من المسيحي أو الشيعي أكثر من الدرزي أو الماروني أكثر من الكاثوليكي وهكذا، مع اختلاف ساحات التنافس، بحسب الموقع الجيو-طائفي للكلية. أما أن يُنظَر إلى أستاذ الفلسفة أنه متخصص في الحداثة أو فلسفة السياسة أو فلسفة اللغة أو التاريخ أو غير ذلك، فهذا إن روعِيَ فقد يأتي في مرتبةٍ لاحقةٍ في إشغال المقام. بَعدَ أن يكون قد تلوَّث الحضور العفوي البريء للأستاذ بين زملائه وأقرانه.
أما أجْرُ الساعةِ للمتعاقدين واحترام نوعية العمل، فإننا منذ ثورة 17 تشرين اللبنانية المجيدة، التي انفجرت في وجه العصابات الحاكمة في بلادنا، لأنها نهبت الأخضر واليابس، فقد بقي كما هو يتراوح بين الستين ألف ليرة لبنانية والمئة وعشرين ألفًا أو ما يقاربها، في الوقت الذي كانت ترِدُ فيه الجامعة اللبنانية أموالًا من عائدات الفحص المخبري لفيروس كورونا (pcr)، إضافة إلى المساعدات والهبات وغيرها من الموارد، التي لسْتُ معنيًا بتفصيلها والبحث فيها وفي مساربها وهدرها، فأنا لست خبيرًا اقتصاديًا، وليس من واجبي سوى التعليم بكرامة والعطاء بأمانة.
وقد نفَّذ الأساتذة المتعاقدون إضرابًا مُحِقًّا لأجل إقرار ملف التفرغ وتثبيتهم في وظيفتهم في الجامعة، فلم يستمع إليهم أحدٌ، بل إن العمادات العلمية في الكليات أصرَّت على استكمال الدروس، ومارست ضغطًا على الأساتذة بفكِّ عقودِهم، لا بل خرَّبَت العملية التعليمية، بفرضها تطبيق المناهج الجديدة، التي لم تُدرَس بالكامل مِن قبل اللجان التي وضعتها للمناقشة. فلقد فُرِضَت هذه المناهج بالقوة، في الوقت الذي كنا نطالب فيه بإقامة مؤتمر علميِّ يناقش التوصيفات الجديدة، ويطلب من أستاذ كلِّ مادةٍ التحضير لمادته وإجراء أبحاث واستطلاعات في الجامعات المحلِّية والعربية والدولية لتطوير المُعطى... كل ذلك لم يؤخَذ في الاعتبار.
ثمَّ إن عمادات الكليات ورئاسة الجامعة وإدارات الكليات، لم تقف في صف الأستاذ الجامعي بغير الخطابات، هذا إن فعلت، بعدَ طول انتظار، بل تصرَّفت بفوقيَّة واستعلاء غير مبرَّرين، فأنا لا أفهم ما وظيفة هؤلاء غير الحفاظ على مقام الأستاذ الجامعي وعيشه الكريم؛ لماذا لا يقف هؤلاء في وجه السياسيين ويفرضون عليهم عدم المساس بمستحقات الأستاذ الجامعي، لماذا لم يطالبوا برفع أجر الساعة قبل أن تسبقهم طاولات القمار في كازينو لبنان، لماذا لم يحترم هؤلاء كرامة 86 ألف طالبٍ ومعلميهم بأن يسكنوا هذه الجامعة اللبنانية بأمن وأمان؟
ولا أدري، وربما من سخرية القدر، أرى الجامعة بين الحين والآخر، تطالعنا بنيلها جوائز دولية على حسن إدارتها وعلى تحقيقها معايير دولية في كذا وكذا! غريب؟!
ويُطلَب في الأخير، بعد أن يئس الأستاذ من مماطلاتهم وفشلت بعض النفوس ولحقت قرارات المكاتب التربوية في أحزابها "الحاكمة" أو "المتسلِّطة"، أن نرجِع إلى التعليم، بالشروط نفسها، وبعقد المصالحة نفسه، الذي نقبض بموجبه مبالغ زهيدة كل سنتين مرة؛ فلعِلمكم إن تعليم 250 ساعة مثلًا، يعني عقد "مصالحة" بقيمة 20 أو 22 مليون ليرة، أي ما لا يجاوز الـ 800 دولار أميركي في السنة، تُدفَع كل سنتين مرة.
لكل هذا وغيره من الموبقات، أنا أرفض الاستمرار في التعليم داخل الجامعة اللبنانية، فأنا أستاذ الفلسفة، الذي أرى في مادة الفلسفة جوهرَ الصِّدق بين أفكاري وكلماتي، الذي أحاكي فيه وجدان الطلاب وعقولهم المنفتحة على الواقع بعزيمة العيش وإرادة التغيير والقدرة المتوقِّدة على بناء المجتمع وصناعة التقدُّم وملء الحياة.
فأنا أقدِّم استقالتي من الجامعة اللبنانية كي أبقى مخلصًا للفلسفة ولأفكاري، وغير مستَعبَدٍ لأحدٍ يحاوِل أن يستخفَّ بالحرية والكرامة والعطاء.
وأدعو كل طلابي إلى رفض أي علمٍ مهترئ، وإلى الثورة على جامعتهم في سبيل الجامعة، لأن العلم وظيفته تغيير الرؤية إلى العالم، فإن لم تجدوا في أنفسكم ما يحفزكم لتغيير آرائكم كلما استدعتكم لحظة الحقيقة والتجديد، فاعلموا أن ما بين يديكم ليس علمًا؛ إن الفلسفة نظرية العلم، لذا إن مسؤولية تقديمها وتفعيلها في الرؤوس، هي مسؤولية مقاومة الجهل وتحرير الإنسان من التخلف والاندثار والضمور.
*أستاذ في الجامعة اللبنانية
شباب حول العالم جمعتهم الصحافة في لبنان
غيدا كنيعو ــ شباب لبنان الكبير ــ أقام معهد البحوث والتدريب الاعلامي في الجامعة اللبنانية الأميركيّة برعاية السفارة الأميركية في لبنان، حفله الختامي بنسخته الثامنة لأكاديمية التربية الاعلامية والرقمية، التي استضافت ٧٥ مشاركاً من لبنان، مصر، فلسطين، العراق، الأردن، الجزائر، تونس وألمانيا.
وفي حديث لـ "لبنان الكبير" تقول سالي فرحات من فريق البيداغوجيا في الأكاديمية: "ان الهدف الأساس للأكاديمية نشر التربية الاعلامية في العالم من خلال جمع صحافيين، ناشطين واعلاميين من مختلف الدول على مدى تسعة أيام في لبنان. وخلال مدة التدريب في الأكاديمية، يقوم دكاترة في مجال الاعلام بورشات عمل يستفيد منها المشاركون".
وتوضح فرحات أن "الأكاديمية تهدف أيضاً الى تعريز مفهوم الثقافة الاعلامية وتعمل على إيصال مفهومه. أمّا عن المشاركين فهم من مختلف الدول ومعظمها العربية، فيقوم المشاركون بحمل ما تعلّموه في الثقافة الإعلامية لنقلها الى بلادهم والتدريب في الخارج". وتعدد المواضيع التي تتطرّق اليها الأكاديمية، ومنها: تمكين الشباب والمرأة، محو الأميّة الاعلامية الى التغطية الاعلامية الإخبارية لحقوق الانسان والدعاية في الفيديو والأفلام.
وتعتبر أنه "على الرغم من الأوضاع الصعبة التي يعيشها لبنان الا أن هذه الأكاديمية تبعث الأمل خصوصاً في مجال الصحافة، اذ أنّها تساعد قسماً كبيراً من الشباب على اكتساب المهارات الجديدة، وتحفّزهم على العمل في هذا المجال".
أمّا عن المشاركين، فتشير ربى حداد من لبنان، الى أنّ هذه التجربة زادت من خبرتها في التّعامل مع حالات صعبة عدة في المجتمع اللبناني. فهنالك أشخاص يخافون الكلام لأنهم يعيشون ظروفاً صعبة. وترى أن التربية الاعلامية مهمّة جدّاً لأنها تلعب دوراً في ايصال المعلومات بشكل سليم. وتقول: "لقد تعرّفنا أيضاً على شباب من مختلف البلدان، واستطعنا تعريفهم على لبنان وثقافتنا الجميلة".
وتؤكد المشتركة مريم سعود من الجزائر أنّ الأكاديمية حقّقت لها أمنيتها بزيارة لبنان عبر فرصة المشاركة فيها، فهي لطالما أحبت زيارة هذا البلد. وتصف التجربة على المستوى الأكاديمي بأنّها كانت جميلة جداً، فقد استفادت من المعلومات المقدمة في ورشات العمل، وكوّنت وجهة نظر جديدة وأسلوباً جديداً في التعامل مع الأخبار الصحافية، لافتة الى أنّها ستنقل المعلومات التي تلقتها الى بلدها لكي ينقلها بدوره الى المهتمين.
اتحاد لجان الاهل في المدارس الخاصة يدعو الى الغاء الشهادة المتوسطة لهذا العام
وطنية - دعا اتحاد هيئات لجان الاهل في المدارس الخاصة في بيان، الى الغاء الشهادة المتوسطة لهذا العام، ووجوب الفصل في الامتحانات الرسمية بين الشهادة الثانوية والشهادة المتوسطة، واعتبر ان "مبررات إلغاء الشهادة المتوسطة هذه السنة المضطربة والاستثنائية اهم من حجج الابقاء عليها، فالاولوية هي للامتحانات التي تجرى في المدرسة والاهتمام بكافة المواد. اضف الى ذلك ان سلامة الاولاد الصحية والجسدية والنفسية هي الاساس ويجب عدم زيادة الضغط عليهم مع كل المشاكل التي يعيشونها".
وتمنى الاتحاد "البدء بتطبيق المنهج الجديد الذي تعمل عليه وزارة التربية والنظر الى هذا الملف بعين علمية وبناءة بعيدا من المناكفات السياسية ذات الآثار الهدامة بخاصة وان المنهج الحالي المعتمد منذ 1997 اصبح بعيدا من الواقع وما يدرسه اولادنا في الجغافيا والتربية الوطنية لا ينطبق مع واقع لبنان وبتنا نخجل من اولادنا ولا نتمكن من التبرير البتة".
وختم داعيا وزير التربية في حكومة تصريف الاعمال عباس الحلبي الى "اصدار قرار سريع يقضي بإلغاء امتحانات الشهادة المتوسطة والاكتفاء بالعلامات المدرسية لهذه السنة".
فتيان الشقاء والعنف بمجتمع العمران العشوائي: تأريخ دامٍ للخراب
محمد أبي سمرا ــ المدن ــ انتهت الانتخابات وانتهى انصرافُنا إليها وغرقُنا في شؤونها. وها نعود إلى تفاصيل حياتنا التي انصرفنا عنها في أرجاء هذه البلاد.
كانت مادة هذا التحقيق الأساسية قد جُمعت قبل 20 سنة، لكن الظاهرة التي يتقصاها ويتناولها لا تزال حيّة على حالها في يومياتنا الراهنة، بل تتناسل وتتسع وتتزايد: زمر من فتيان الشوارع، تسيُّبهم وعنفهم اليومي في أحياء العمران والاجتماع العشوائيين في ضاحية بيروت الجنوبية، وسواها من أحياء بيروت والمدن اللبنانية. والفتيان أولئك الذين يروي هذا التحقيق مقتطفات من وقائع حياتهم، صاروا اليوم بين الثلاثين والأربعين من أعمارهم. ولما زرتُ قبل أيام الحي الذي تعرفت إليهم فيه، علمت أن بعضهم تزوج وغادر إلى بلدات جنوبية. وواحد منهم قتل في سوريا قبل سنوات. وآخر اختفى أثره، وقال أحد عارفيه إنه ربما هاجر بحرًا في زورق من زوارق الغرق والموت. واثنان أو ثلاثة منهم انتقلوا من الحي، بعدما انتموا إلى حركة أمل وحزب الله.
سامر وزمرته
تعرّفت إلى سامر سنة 2002، عندما كان مع زمرة فتية من مجايليه بين 14 و16 سنة من أعمارهم يُكثِرون الوقوف على ناصية شارع أمام بوابة مدرسة رسمية، كنتُ أدرِّس فيها بضاحية بيروت الجنوبية. كانوا يتنقلون متبطلين هائمين في بعض شوارعها، ويقيم أهلهم في حيّين من أحياء العمران العشوائي الناشئة فيها عشيات الحروب الأهلية بلبنان (1975 - 1990) وفي أثنائها وبعدها: حي فرحات وحرش القتيل المتصلين والمتداخلين على طرفها الشمالي الغربي في نطاق منطقة الغبيري البلدي. ويتصل الحيّان الشيعيّان بمخيمي شاتيلا وصبرا للاجئين الفلسطينيين، ويجمع بينها كلها نشأتُها أثناء حروب وانتفاضات مسلحة ومقاتل أهلية وهجرات بواعثها كثيرة ومتنافرة، يختلط فيها، منذ العام 1948، المحلي اللبناني والملبنن، بالإقليمي الفلسطيني والسوري. لكن حادثتين كبريين حولتا المخيمين الفلسطينيين إلى خرائب:
- اجتياح الجيش الإسرائيلي بيروت واحتلالها وترحيله مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية وقيادتها منها صيف 1982، ورعايته ما اشتهر بـ"مجزرة صبرا وشاتيلا" المروعة. تتراوح إحصاءات قتلاها الفلسطينيين واللبنانيين بين 750-3500 من رجال ونساء وأطفال أُعدموا رميًا بالرصاص ليلًا، بعد اغتيال بشير الجميل قائد ميليشيا القوات اللبنانية المسيحية، عقب انتخابه رئيسًا للجمهورية في 23 آب 1982. واتهم بارتكاب المقتلة جهاز الأمن والمعلومات في ميليشيا القوات إياها يقوده إيلي حبيقة، وجيش لبنان الجنوبي المرابط بإمرة الجيش الإسرائيلي في الشريط الحدودي الجنوبي المحتل منذ سنة 1976.
- حروب ما سميت "حرب المخيمات" (1985 - 1988) ومقاتلها. بادرت إليها منظمة أو حركة أمل الشيعية برعاية نظام الأسد السوري، للقضاء على بقايا فلسطينيين تسلحوا وتخندقوا في مخيمي صبرا وشاتيلا وسواهما من مخيمات الفلسطينيين بلبنان، تحت لواء منظمة فتح بقيادة ياسر عرفات وأركانه المرحَّلين من بيروت إلى تونس والمقيمين فيها. وكانت تلك الحرب حلقة في سلسلة طويلة من الصراعات الدموية بين الأسد وعرفات للسيطرة على مناطق لبنان الأسلامية. ومنذ التسعينات تحولت خرائبُ المخيمين البيروتيين مأوى أخلاطٍ من عمال وعاملات أجانب من سيرلانكا وبنغلادش وأثيوبيا.. إلى جانب سوريين فروا من الترويع والقتل في ديارهم أثناء الثورة السورية على نظام الأسد بعد العام 2011.
على باب مدرسة المجتمع العشوائي
عندما التقيت سامرًا، كانت قد مضت أقله سنة على انقطاع معظم فتيان تلك الزمرة عن متابعة تحصيلهم التعليمي في مدارس رسمية أو خاصة شبه مجانية، قريبة من مساكن أهلهم. بعضهم زاول أو كان لا يزال يزاول موقتًا وعلى نحو متقطع، أعمالًا لا تحتاج إلى إعداد وتأهيل مسبقين. آخرون منهم لم يزاولوا عملًا أو مهنة قط، وانساقوا إلى تسكع وحياة يومية متسيِّبة وشقيَّة في شوارع وأحياء غير بعيدة كثيرًا من أحياء سكن أهلهم، وانضووا في زمر قائمة أو أنشأوا زمرًا جمعتهم.
زمرة سامر أدمن فتيتها (بين 8 و14 فتىً) اللقاء والتجمع بين الساعة الثالثة والخامسة والنصف بعد ظهر كل يوم أمام بوابة المدرسة الرسمية المتوسطة المختلطة (دوام بعد الظهر) في محلة الغبيري. وهذه واحدة من محطات تسكعهم الشقيِّ اليومي. أما تلامذة هذه المدرسة (نحو 600 تلميذ وتلميذة) فأكثر من 60 في المئة منهم يقيم أهلهم في حي فرحات وحرش القتيل وغيرهما من أحياء مماثلة، كالجناح والأوزاعي وبئر حسن وشاتيلا، المبنية مساكنها عشوائيًا على أملاك خاصة أو عامة صودرت واحتلت. وهذه وسواها من أمثالها هي أحياء ضواحي الضاحية الجنوبية التي نشأت وتضخمت في زمن الحرب وبعدها في التسعينات من القرن العشرين، عقب إخلاء خرائب وسط مدينة بيروت وسواه من أحيائها من المهجرين "المحتلين". وشأن فتيان الزمرة، تصدر الأغلبية الساحقة من تلاميذة المدرسة الرسمية عن بيئة أهلية شيعية، من سماتها الأساسية التهجير والبناء العشوائي الفوضوي الناشئ في الحروب. والأحياء هذه معاقل جمهور حركة أمل وحزب الله بعدها ومقاتليهما. وعلى واحدة من لافتاتها الكثيرة المنصوبة بين السفارة الكويتية وما كان يسمى مستديرة المطار قبل الحرب ونشوء مجتمعات التهجير الكثيفة في الضاحية الجنوبية، كتبت أمل أنها وُلدت "من أبٍ بقاعي وأم جنوبية".
اتخذ سامر وزمرته من التجمع أمام بوابة المدرسة محطة يومية لأنشطتهم الشقية العنيفة لأسباب شتى: قبل تخليهم عن التعلُّم كان لهم فيها أتراب وأشباه يشاطرونهم السكن في حي فرحات وحرش القتيل. وشطر من أترابهم القدامى يسيرون مثلهم على طريق الرسوب المدرسي، تمهيداً لانقطاعهم عن التحصيل الدراسي، واكتمال تسيّبهم وشقاوتهم وانضمامهم إلى زمر الفتيان القائمة، أو التئامهم في زمر جديدة مماثلة. فسامر وزمرته تعارفوا وتحولوا فتية شوارع أشقياء في مطالع مراهقتهم، عندما كانوا بعدُ على مقاعد الدراسة في بدايات المرحلة المتوسطة. واتخاذهم بوابة المدرسة الرسمية في الغبيري محطةً لشقاوتهم اليومية، إمارة على صلتهم السابقة بالبيئة المدرسية التي انسلخوا عنها، وعلى نزوعهم إلى مشاكسة تلميذاتها المقيم بعضهن في الأحياء التي يقيم فيها فتيان الزمرة الراغبين في استعراض فتوتهم أمام أنظار الفتيات التلميذات. فيتشاجرون ويتعاركون مع تلاميذ ينبرون إلى الذود عن زميلاتهم من فتيات المدرسة. ولسامر وزمرته موعدان اثنان في الشارع قرب مدخل المدرسة الضيق، والمقفلة بوابته الحديد التي يقف خلفها دائمًا حارس يفتحها للداخلين والخارجين من التلامذة والمدرسين. الموعد الأول لتلاقي الزمرة وتجمعها يبدأ بين الثانية والنصف والثالثة بعد الظهر، حين يخرج التلاميذ والتلميذات إلى الملعب في استراحة مدتها عشرون دقيقة تتوسط الدوام المدرسي اليومي بين الثانية عشرة و45 دقيقة ظهرًا والخامسة والنصف مساء.
تحرُّشٌ مسرحيّ عنيف
ما أن يبدأ فتية الزمرة بالتوافد تباعًا حتى يبدأ تصايحهم وتشاتمهم وصخبهم في الشارع أمام بوابة المدرسة المقابلة لملحمة يقلّ زبائنها بعد الظهر، وفي جوارها محال لأنواع من الخردة وبقايا أدوات معدنية صدئة محطمة، تُخزَّن أكوامها في محلين يجلس أمامهما على جانبي الشارع الخالي من الأرصفة، رجال وفتية يدخنون نراجيل بين سيارات متوقفة وعابرة. لا يبدو مشهد فتية الزمرة دخيلًا على المكان، بل يجانسه. فالصخب الذي يحدثه وقوفهم وتصايحهم وتبادلهم الشتائم والكلمات والصرخات والحركات البذيئة الاستعراضية العنيفة شبه المسرحية، لا تثير استنكار أحد أو استياءه وتذمره. فما يحدث في الشارع الضيق بين المدرسة المهترئة البناء والوظيفة التعليمية والتربوية وبين البنايات السكنية المقابلة المقنّعة شرفاتها بستائر بلاستيكية، من طبيعة الحياة اليومية وبداهاتها العادية.
فجأة ينتقي واحد من فتية الزمرة عابرًا ما، يدرك بخبرته وسليقته وإدمانه العيش في الشارع، أنه قادر على استضعافه والنيل منه، فيتحرش به ويشاكسه، وغالبًا ما يكون سوريًا يدفع عربة خضار. والتحرش بالعابرين المستضعفين ومشاكستهم يفتعلان مشهدًا مسرحيًا يؤديه فتية الزمرة: يصرخ أحدهم من بعيد بزميله المتحرش، فيشتمه ويتوعده قائلاً له أن يترك الشخص العابر وشأنه. لكن صرخته الرادعة هذه، فيما هي تتقنع دور حماية ذاك الشخص، تتضمن أيضًا كلمات بذيئة تسخر منه وتهينه. فالفتى الذي يحاول ردع زميله المتحرش يصرخ قائلاً: تركو وليه، شو بدّك فيه، ما لقيت غير هالخرا التعبان تبلّ إيدك فيه؟! فيجيبه المتحرش صارخا: ك... أختو وأخت اللي بيشد ع مشدو، ويهم بضرب الشخص العابر. وفي هذه اللحظة يهجم بعض من فتية الزمرة على زميلهم المتحرش، فيما يتدخل آخرون منهم لتهدئة غضب المهاجمين. ولا يكتمل المشهد إلا بتناول واحد من فتية الزمرة جنزيرًا معدنيًا صدئًا أو قضيب حديد من مخزن الكسر القريب، ويروح يلوّح به راكضًا نحو أقرانه المتحلقين حول الشخص الغريب الخائف والحائر ماذا يفعل وسط الزمرة التي يحاصره فتيانها مقهقهين صارخين.
أما إذا صادف أن مرت في الشارع فتاةٌ سافرة وفي ملبسها شيء من إثارة وفي مشيتها بعض من خفر أو خجل، فسرعان ما يطلقُ فتىً أو اثنان العنان لصرخات إعجاب وكلمات استهجان بذيئة، إن لم تجفل الفتاة العابرة وتروّعها، فإنها تتركها في حالٍ من الشعور بالعري والمهانة وسط الشارع وأمام عيون المارة والرجال والفتيان المستأنسين بكركرات نراجيلهم على جانبي الطريق.
سأم رجال الأمن واستنكافهم
تحدث مثل هذه المشاهد قبل خروج تلامذة المدرسة وتلميذاتها من قاعات التدريس فيها إلى ملعبها في وقت الاستراحة، لتبدأ مشاهد أخرى أثناءها وتختلف حوادثها من نهار إلى آخر، وغالبًا ما يكون مسرحها سور المدرسة وملعبها وبوابته. لا يقوى الحارس البوّاب على منع بعض التلاميذة المشاغبين الأشداء من الخروج إلى الشارع، للقاء زمرة الفتيان الأشقياء الذين يدخل بعضهم إلى الملعب، رغم إرادة الحارس. فهذا وسواه من نُظار المدرسة ومعلميها لا يقوون على منعهم. وهم يدركون جميعًا أن لا إجراء يمكن أن يُصلح ما أفسده الدهر والإهمال. يتمكن الحارس أحيانًا من التترس بجسمه خلف البوابة وإبقائها مقفلة، فيتسلق بعض فتية الزمرة سور المدرسة ويقفزون إلى ملعبها. يحدث هرج ومرج في الملعب، سرعان ما يتطور إلى عراك بين الفتية "الغرباء" وبعض التلامذة. وفي مرات كثيرة لم يتوقف العراك إلا بعد استدعاء رجال الأمن الداخلي من مخفر الغبيري القريب. وهؤلاء يقتصر عملهم على أداء دور شبه مسرحي: يتراكضون في الملعب بين جموع التلامذة المتراكضين صارخين، فيما ينسل فتيان الزمرة هاربين. لكن تكرار مديرة المدرسة استدعاء رجال أمن المخفر، حملهم على الاستنكاف عن الحضور إلى المدرسة سئمين من تكرار ذاك المشهد.
الموعد الثاني لحضور سامر وزمرته وتجمُّعهم قرب المدرسة، يبدأ في الساعة الخامسة بعد الظهر ويستمر حتى الخامسة و45 دقيقة، منتظرين خروج التلاميذ والتلميذات وانصرافهم إلى بيوتهم في الخامسة والنصف. نحو 600 تلميذ وتلميذة يخرجون متلاصقي الأجسام متصارخين وبعضهم متضاربين في تدافعهم الخانق من بوابة ضيقة لا تتسع لخروج أكثر من تلميذ واحد في اللحظة الواحدة. فتية الزمرة يقفون على ناصية الشارع ينتظرون تلميذات ليشاكسونهن، أو تلاميذ ليطاردونهم ويضربونهم وسط ازدحام سيارات يتعذر سيرها في الشارع الضيق المختنق بمئات أجسام التلاميذ والتلميذات المتحاشرين للخروج من البوابة، والمتراصة أجسامهم وأجسامهن في الشارع. المشهد مقلِق، بل مخيف لشدة ما يبث شعورًا بانعدام الأمن الجسماني، وسط تحاشر هذه الأجسام الصاخبة المتوترة. وقد تنبعث منها قسوة وعنف يطلقهما في أي لحظة فتية الزمرة وشلل من التلاميذ في عراكهم وسط الحشد البشري الكبير. ويستطيع المُشاهِد بسهولة أن يحدس أو يتخيل أن المتزاحمين في هذا الحشد في الشارع الضيق، لا تقل حياتهم في بيوتهم وأزقة أحيائهم العشوائية كما في مدرستهم عن مشهدهم هذا صخبًا وفوضى وازدحامًا وعنفًا قابلًا للانفجار. وهو انفجر مرات كثيرة، ما دامت طاقته وليدة الحشد، كامنة فيه وتلابسه ملابسة حميمة في الشارع الضيق.
فتىً جانحٌ يفقد ذاكرته بشارع الحمراء..وتحقيق تربوي بحادثة قتل
محمد أبي سمرا ــ المدن ــ بعد حلقة أولى عن فتيان التسيُّبِ والجنوح في الشوارع في بيئة العمران والاجتماع العشوائيين، وأفعالهم على بوابة مدرسة رسمية، هنا حلقة ثانية عن تبدل سلوكهم وفقدانهم لغتهم وذاكرتهم وعنفهم بعد خروجهم من بيئتهم الأليفة.
سامر وجنزارة
بعد انتهاء عراكهم في الشارع أمام بوابة مدرسة الغبيري الرسمية غروبَ نهار، اقتربتُ من سامر الذي كان لا يزال يهدّئ غضب أحد أقرانه في الزمرة، محاولًا أن ينتزع من يده قضيب حديد يرفعه ملوحًا به في الهواء في مشهد استعراضي شبه مجاني. قلتُ له إنني أريدُ محادثته، هو أو أي من أقرانه في الزمرة. التفتَ إليّ واندفعتْ من فمه أصوات لم أفهم منها سوى كلمة أستاذ. خرج صوته من فمه متحشرجًا، حارًا، خشنًا، ثخينًا، عنيف النبرة، ومتخثرًا في حلقه وحنجرته. صوتٌ طلع من جسمه الفتيِّ القصير المدكوك العضلات، كأنه جسم رجل ضُغِطَ ليظل في حجم جسم صبي صغير الحجم، ثُبِّتَ في مرحلة المراهقة. وصوت فطريٌ خام، يشخب مندفعًا من حنجرة صاحبه برِّيًّا ممتلئًا بطاقة أو عزيمة نيِّئة فجة. هي طاقة قسوة وعنف وشراسة وليدة طبيعة لم يروّضها اجتماع ولا تواصل ولا مخاطبة في أماكنَ وأوقات حياة عادية وأدوارها. صوت هو سليل حياة شوارع صاخبه وأزقة اسمنتية كامدة. حياة لم تختبر ولم تعرف إلفة الحياة في البيوت. وصوت يوحي أنه يطلع من دغل في غابة من اسمنت بلا طلاء، أو من فوهة بئر جفَّ ماؤها.
وقال سامر بصوته هذا أن أطلبَ من "جنزارة" أن يحادثني، وأشار بيده إلى فتىً نحيلٍ أسمرَ البشرة، كان لا يزال يقف قرب بوابة المدرسة. حسبتُ أن ما تلفظ به (جنزارة) لقبٌ تعارفت الزمرة على تسمية ذلك الفتى الشَّقيِّ به، ربما لأن جلده شديد السمرة التي شبهوها بالصدأ الذي يكسو المعدن. وفي نهار سبتٍ مدرسي مضى رأيتُ الفتى إياه يجلسُ وحيدًا على سطح غرف إيواء أطفال الروضة، المشيّدة عشوائيًا في طرف الملعب خلف مبنى المدرسة المتهالك. كانت الساعة في نحو الحادية عشرة قبل ظهر ذاك السبت. شمسُ أواسط حزيران لاذعةُ، والعام الدراسي مشرف على نهايته، وتلامذة الصف الأخير من المرحلة المتوسطة يتلقون دروسًا إضافية صباحية. بدا لي الفتى الأسمر الجالس وحيدًا على السطح في لذع الشمس، موحشًا كئيبًا ويبعث مشهدُه على الشفقة والرثاء. ثم تخيّلت أنه يقدّد جسمه ويشويه ويضاعف سُمرة جلده، كما تقدّد روحَهُ الوحشةُ والخواء والبطالة، فتتركُ فيها شعورًا مضنيًا بالعزلة والهباء. وتخيلته استفاق من نوم شريدٍ على مقعد خشبي على رصيف شارع، فملأ ضجيج السيارات والعابرين ولذع الشمس جسمه وحواسه، فقام مذعورًا عن المقعد ومشى هائمًا لا يدري إلى أين يذهب. ساقته قدماه إلى المدرسة التي لم يتعوّد أن يأتي اليها في مثل هذا الوقت الصباحي، فوجدها خالية خاوية. تسلق السور وصعد إلى ذاك السطح، حيث جلس لا يدري ماذا يفعل وماذا ينتظر، كمن يحدق في وحشة أطلال.
بعدما سمّى سامر الفتى الأسمر بذلك الإسم الذي حسبته لقبًا له، فكرتُ أن لزمرة فتية الشوارع ذائقةٌ لغوية رفيعة في ابتكار كلمات وأسماء وألقاب تناسبُ الأشياء وملامح البشر وحركاتهم وأشكالهم. كلماتٌ تنبئُ خشونتُها البرِّية عن أنها مستلةٌ على نحو فطري وغريزي من معدن حياتهم اليومية المتسيبة، لتسمّي الأشياء بأسماء لصيقة بمادتها وأشكالها. لكني علمتُ في ما بعد أن لفظة "جنزارة" ليست لقبًا للفتى الأسمر، بل هي كنيته العائلية، من غير زيادة ولا نقصان.
واقتربتُ في غروب النهار من جنزارة المنتحي جانبًا، وسألته إن كان يستطيع محادثتي وقتًا قصيرًا، فقال إنه غدًا في الخامسة والنصف سوف يلقاني هنا ويذهب معي أينما أريد. سألته أين كان قبل مجيئه إلى هنا، فقال إنه أمضى نهاره كله يسبح في البحر. أي بحرٍ؟ سألته. الأوزاعي، الأوزاعي، قال. ولما سألته إن كان يعمل، أجاب إنه بعد أيام سوف يبدأ يعمل سائق شاحنة كبيرة.
قتيل وتحقيق تربوي
لم يحضر جنزارة عصرَ النهار التالي مع فتية الزمرة إلى حيث تعوّدوا الوقوف في الشارع أمام بوابة المدرسة. كنت أشد من أمس رغبةً في لقائه، بعدما أمضيت الوقت الصباحي من النهار (من التاسعة حتى الواحدة بعيد الظهر) في تحقيق وظيفي مسلكي استدعاني اليه أحد موظفي التفتيش التربوي. كان موضوع التحقيق مقالة صحافية كتبتها تعقيبًا على اشتباك مسلح بين آل المقداد وآل الخنسا في الغبيري، غير بعيد من المدرسة. سقط قتيل في الاشتباك، وتبادل الطرفان حرق بعض بيوت في حييهما المتجاورين. ونجمت عن الحادثة ذيول ومضاعفات استمرت يومين اثنين، وصلت إلى المدرسة أصداؤها التي وصفتُها في المقالة الصحافية: صرف التلامذة إلى بيوتهم وتعطيل الدروس، ونشوب شجار بين الزمرة وفتيان من التلامذة، فاستمر أكثر من نصف الساعة في الشارع إياه. وقوف المدرسين على شرفات مبنى المدرسة متضاحكين مسرورين بمشهد العراك وبتحررهم من مكابدة استحالة ضبطهم التلامذة في قاعات التدريس.
أما في التحقيق، وبصفتي موظفًا في مدرسة رسمية، فاتهمني المفتش - المحقق التربوي بالخروج على "اتفاق الطائف" وتقويض أركان "السلم الأهلي"، اللبناني، وبانعدام "الحس الوطني والقومي لدي"، معتبرًا من يصف حادثة "سيئة" ويذيع الخبر عنها، لا تقل عمله سوءًا عن الحادثة نفسها، لأنه يساهم في التأسيس لحرب أهلية. وطوال وقت التحقيق "التربوي" تهيأ لي أن مقالتي الصحافية أفشت أسرارًا عسكرية يستفيد منها "العدو الصهيوني" الذي تطالعنا يوماتنا الصحافية وسواها بأن بيننا، نحن اللبنانيين، عملاء كثيرون له.
وضاعف التحقيق "التربوي" رغبتي في استطلاع أحوال زمرة فتية الشوارع الذين جعلوا المدرسة الرسمية محطة من محطات شقاوتهم اليومية وتبطلهم وشقائهم، بعدما لفظتهم المدارس وحطام حياتهم الأسرية والبيتية الفوضوية إلى الشوارع. ولأنني لم ألقَ جنزارة على باب المدرسة في الخامسة والنصف من مساء ذاك النهار، وافق سامر على أن أصطحبه معي في السيارة ليروي لي فصولًا من حياة زمرة الفتيان اليومية.
سامر يفقد لغته وذاكرته
ما أن صعد الفتى الشقي إلى السيارة حتى بدا عليه شيء من التهيّب في مسلكه وكلامه. وأخذ تهيّبه يتزايد ويتحول ارتباكًا كلما ابتعدنا من ضاحية بيروت الجنوبية. وسرعان ما فقد شيئًا فشيئًا طبعه الذي كنت أحسب أنه أصيل فيه وفُطر عليه، ويصعب العثور على سواه في سلوكه. فها هو يسألني قلقًا مضطربًا وبنبرة مختلفة تمامًا عن نبرته السابقة: أين نحن، وإلى أين تأخذني؟ وكان عليّ أن أهدّئ من روعه وخوفه، كلما ابتعدت بنا السيارة عن الأماكن التي يعرفها. وبعد خروجنا من نفق سليم سلام، تهيأ لي أن خوفه بلغ حدّ الضياع، وفقد شعوره بالأمن، كسمكة أُخرجت فجأة من مائها. ألم تأتِ إلى هنا من قبل؟ سألته، فأخذ ينظر محدقًا في الأماكن، ويلتهم ببصره المشاهد المسرعة على جانبي الشارع. هذا هو وسط بيروت التجاري الجديد، هل تعرفه؟ قلت له، فأجابني في صوت مختنق: لا.. لا.. لقد شاهدته في التلفزيون. وحين خرجنا من السيارة في شارع الحمراء، لم يبقَ شيء من سامر الذي عرفته على بوابة المدرسة. صار فتىً لا يدري كيف يمشي ويتكلم، ولا إلى أين ينظر، كأنه فقد ذاكرته. وفي مقهى جلسنا فيه، جلس مضطربًا مرتبكًا ومنقبض الجسم والأطراف على حافة الكرسي، حائرًا أين يضع يديه. ولما قلت له أن يشرب العصير من كوب طلبته له، وجِلًا أمسك الكوب عن طاولة أمامه، كأنه يخشى أن ينفلت فجأة من يده ويتحطم على الأرض. وكان عليّ أن أبذل جهدًا مضاعفًا لأحمله على الكلام. وكلما سألته سؤالًا عن حياته وأهله، وصار ينظر إليّ مستريبًا حائرًا ماذا يقول، ليس عن تكتّم - فكرتُ - بل لشعوره بأنه فقد لغته. وأنا تهيأ لي كما لو أنني أعتدي عليه باخراجه من لغته وجسمه ونفسه وعالمه الأليف. ثم فكرت للحظة خاطفة أن ما يشعر به الآن، يشبه شعور الفتاة التي كانت كلماتُهُ المشاكسة البذيئة تشعرُها بالعري والمهانة، فيما هي تمر في الشارع أمام بوابة المدرسة قبل أيام.
وبعد أيام من اصطحابي سامرًا في رحلتنا الغريبة، استدعاني المحقق - المفتش "التربوي" مجددًا لاستكمال التحقيق معي، فأدهشني أنه على علم بقصتي مع سامر. كان غاضبًا ومحتقنًا من قولي في المدرسة - وقد نقلتْهُ إليه مديرتها على ألارجح - إن زمرة فتية الشوارع الذين يئس رجال قوى الأمن الداخلي من منعهم عن الوقوف أمام بوابة المدرسة، يفقدون شقاوتهم وشراستهم وعنفهم ويصيرون فتية مسالمين وخائفين، ما أن يبتعدون يخرجون من بيئتهم الأليفة التي نشأوا فيها على الشقاوة والعنف. لكن المفتش "التربوي" رأى في قولي هذا تخريبًا جديدًا لـ"السلم الاهلي" الميمون، وتشويهًا جديدًا لصورة المنطقة الأهلية التي جرت فيها الحادثة العائلية وأدت إلى سقوط قتيل وإحراق بعض البيوت.
بتوقيت بيروت