الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015 مات. لقد فقَد كلّ معنى. ما حقّقته إيران، منذ انسحاب الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، من الاتفاق في عام 2018، لا رجوع فيه. لقد أتقنت إيران العمليات النووية، وطوّرت طرقاً جديدة للدفاع عن مواقعها النووية. والأهمّ من ذلك، أن طهران لا تستطيع، ولن تتخلّى عن مشروع وطني استثمرت فيه بشدّة، على مدى عقود عديدة، ودفعت ثمنه أموالاً ودماء. إنها مسألة احترام الذات، وفنّ الحكم، والإيديولوجيا، وإدراك التهديد. حتى مع النوايا الحسنة والالتزامات الأكثر صرامة، لا يمكن إحياء الاتفاق النووي القديم بشكل مستدام؛ سيكون غير مستقرّ. وسواء تمّ التوقيع على اتفاقية في فيينا أم لا، الأمر ليس له أهمية تُذكر.
يُعدّ التوصّل إلى ترتيبات بشأن الجوانب الفنّية النووية أمراً مهمّاً، لكنه سيكون غير مكتمل إن لم يكن راسخاً في إطارٍ سياسي وثيق الصلة. الصراع ليس تقنياً، إنه سياسي. إذا فُقدت السياسة، فإن الترتيبات الفنية ستخضع للتذبذب؛ فلتُعالجوا الأمور السياسية، أمّا التفاصيل الأخرى فتأتي لاحقاً. بدأ العفن في الظهور، قبل وقت طويل من انسحاب ترامب. تغيَّر المناخ السياسي عندما لم تشعر إيران بأن العقوبات قد رُفعت حقاً، وأصبحت الولايات المتحدة محبَطة بشكل متزايد من سلوك طهران الإقليمي وبرنامجها الصاروخي. لم يضطر أيٌّ من الجانبين إلى الانسحاب، كي تتلاشى روح الصفقة.
في الوقت الحالي، ليست لدى الولايات المتحدة سياسة شاملة ومتماسكة تجاه إيران. إنها تسير بشكل تدريجي بدون أساس سياسي. إن «إعادة إيران إلى الصندوق» أمر غير قابل للتحقيق، وهو لن يحلّ المشاكل التي تمثّلها إيران النووية.
لقد تمّ التوصل إلى اتفاق عام 2015، لأنه كان جزءاً من اعتبارات سياسية أوسع، ولكن غامضة. اليوم، السياق السياسي مختلف تماماً، والمفاوضات مستمرّة كما لو كانت عام 2015، عندما كان الطرفان أكثر استعداداً للثقة أحدهما بالآخر، وكان توقُّع التعاون بشأن القضايا الأوسع أكثر وضوحاً. بعد سبع سنوات مضطربة، تبدّدت تلك الآمال المبكرة بشكل يتعذّر إصلاحه.
عندما يتمّ التوصّل إلى اتفاق، وهو احتمال مرجَّح، سيكون ذلك فوزاً مطلقاً للإيرانيين، لا يختلف عن انتصار «طالبان» في أفغانستان، كما أنه سيكون انتصاراً لـ»الحرس الثوري». لطالما اعتقد الأميركيون أن الصراع على السلطة في إيران كان بين المتطرّفين والمعتدلين، أو بين الأصوليين والإصلاحيين. هذه نظرة تبسيطية. الصراع الحقيقي، الذي غالباً ما يكون غير مسموع، كان بين «الحرس الثوري» والدولة الرسمية وجيشها. الجيش يدافع عن الدولة، بينما يدافع «الحرس الثوري» عن الثورة. التوتّر بينهما واضح. إنه لا يختلف عن التوتّر بين «الاشتراكية في بلد واحد» لجوزيف ستالين، و»الثورة الدائمة» لليون تروتسكي في الاتحاد السوفياتي.
اتفاق عام 2015 كان بين القوى العالمية والدولة الإيرانية، ممثّلة بالرئيس حسن روحاني ووزير الخارجية محمد جواد ظريف. لم يكن «الحرس الثوري» حاضراً بشكل صحيح في تلك المحادثات. كما لم تعجبه الصفقة. في بعض الأحيان، كان انتقاده لها صريحاً وصاخباً؛ وفي أوقات أخرى كان ماكراً. كان عليه أن يتماشى مع الصفقة، لأن تلك كانت رغبة المرشد الأعلى، الذي لم يتّخذ موقفاً قوياً مع أو ضدّ، لكنه سمح للصفقة بالمرور، في انتظار انهيارها. في الخفاء، وفي بعض الأحيان بشكل علني، كان يقف إلى جانب «الحرس الثوري». في ظلّ محادثات فيينا، بدأ ميزان القوى الداخلي في إيران في التحوّل، وازدادت حدّته بسبب الاستياء من العائدات الاقتصادية الضعيفة للصفقة الأصلية، والانسحاب الأميركي منها، والهجمات الإسرائيلية على المواقع النووية والعلماء، وتوسيع نفوذ «الحرس الثوري» في المنطقة. لطالما كان «الحرس الثوري» يتطلّع إلى الاستيلاء الكامل على الملفّ النووي؛ وقد قدّمت فيينا الفرصة والدفع، فيما كانت الإدارة الأميركية شريكاً غير مقصود في هذا الجهد.
لقد ساعدت الولايات المتحدة، من دون قصد، «الحرس الثوري» على الانتصار. فقد دفع تعثّرها في منع انسحاب ترامب من الاتفاق، وفي رفع العقوبات، بـ»الحرس الثوري» إلى موقع مركزي. إن التفكير في إزالة تصنيف المجموعة كمنظّمة إرهابية أجنبية، ليس فكرة متأخّرة؛ إنه تطوُّر طبيعي لمحادثات فيينا. سُمح لإيران، مع القليل من المقاومة الأميركية، بتحديد الشكل والهيكل وجدول الأعمال والتقويم والسرعة ومستوى المشاركين في المحادثات، بما يتناسب مع أهدافها، وهو إنجازٌ لا يُصدق. بدأت الولايات المتحدة بالطريقة الخطأ. لقد أمطرت الإيرانيين بهدايا مُرضية: إزالة «الحوثيين» المدعومين منها في اليمن من قائمة الإرهاب الصادرة عن وزارة الخارجية، والضغط على السعوديين لإنهاء الحرب من جانب واحد هناك، وإعادة تقييم المبيعات العسكرية الأميركية إلى المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، والتراجع بهدوء عن الدعم لـ»اتفاقات أبراهام»، من خلال خفض أهمّيتها، والعودة إلى الخطاب القديم المتعِب والمُجرَّب عن السلام العربي - الإسرائيلي، ورفع مجموعة من العقوبات التي تستهدف قطاع الطاقة الإيراني كدليل على نهج واشنطن الحَسَن النية، وسحب القوات القتالية الأميركية من العراق، والانسحاب بشكل مخزٍ من أفغانستان.
كان الانسحاب من أفغانستان لحظة محورية. لقد ثبُت لإيران أن الولايات المتحدة ستغادر تحت الضغط، وهي عاجزة في نهاية المطاف في حرب غير متكافئة، ولا تنقذ حتى أقرب المقرّبين إليها، كما أنها ستترك الميدان لأعدائها المعلَنين، وقد تكون يائسة بما يكفي للاعتماد على قطر الصغيرة لإنقاذها وتمثيلها أمام «طالبان»، الذين حاربتهم لمدّة 20 عاماً. من السذاجة الاعتقاد بأن كلّ هذه العوامل لم يلاحظها الإيرانيون ولم تلعب دوراً مركزياً في تشكيل نهجهم في المحادثات في فيينا. (...) لم يكن على إيران حتى التفاوض مباشرة مع المسؤولين الأميركيين. ما حصلت عليه الولايات المتحدة في المقابل ليس واضحاً. سقطت أفغانستان في أيدي «طالبان»، وحقّق المشروع النووي الإيراني أكبر نموٍّ له، وهو الآن إلى حدّ كبير تحت رعاية «الحرس الثوري». ترفض الإدارة الأميركية الاعتراف بأنها قد أُخذت على حين غرّة، وتصرّ على تقديم روايات أكثر إشراقاً.
(...) حصلت إيران على دعم روسيا والصين، وكلتاهما تظاهرتا بأنهما طرفان محايدان يتماشيان مع الأوروبيين، لكنهما كانتا في الواقع تطوِّران تحالفاً استراتيجياً في كلّ مكان، مع إيران، بما يتجاوز القضية النووية. لقد أظهرتا التفاؤل والرضا، ما أدى إلى استمرار المناقشات، وهو ما أرادته إيران. اعتقد الأميركيون أن روسيا والصين قلقتان من امتلاك إيران سلاحاً نووياً. ليس هذا هو الحال. قد لا تكونان سعيدتَين كثيراً بإيران نووية، لكنّ أولوياتهما الجيواستراتيجية تكمن في مكان آخر، في مواجهتهما مع الولايات المتحدة. تريدان مقعداً على الطاولة، لكنّ حساباتهما لها علاقة بقضايا أخرى. لم تستغلّ الولايات المتحدة، كما يجب، انعدام الثقة التاريخي بين الفرس والروس، والذي يعود إلى قرون. لقد جعلت المصالحة بينهما أسهل، من خلال إغفال العلاقات الجديدة الناشئة بينهما.
بعد تحقيق أقصى استفادة من المحادثات واستنفادها، باتت إيران مستعدّة للانتقال إلى المرحلة التالية من استراتيجيتها وتوقيع اتفاق يسمح لها بمواصلة خططها، في ظلّ حدود جديدة ومع الكثير من الفرص. الصفقة بالنسبة إلى إيران ليست نهاية اللعبة، ولكنّها محطّة في رحلة طويلة لمواجهة أعدائها ودعم قوتها. إنّها ليست مهمّة في حدّ ذاتها. الاتفاق النووي أقلّ أهمية من العوامل الأخرى: بقاء النظام وأمنه والقدرة على إبراز القيادة الإقليمية والهيمنة والتفوّق. يحتلّ طرد القوات الأميركية من الشرق الأوسط وتقييد نفوذ الولايات المتحدة، مكانة بارزة في الخطط الإيرانية.
(«فورين بوليسي» - حسين آغا)
بتوقيت بيروت