نشرت مجلة «جاكوبين» الأميركية مقالًا لليزا فيزرسوم تحدثت فيه عن وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايت التي وافتها المنية مؤخرًا، وتكشف الجوانب المظلمة والعنصرية البغيضة التي اتسمت بها مسيرة مادلين الدبلوماسية.
تقول الكاتبة في مستهل مقالها: توفيت مادلين أولبرايت عن عمر يناهز الرابعة والثمانين. كانت مادلين إمبريالية رائدة دافعت بحماس عن استخدام أكبر للعنف الدموي سعيًا إلى نظام عالمي تهيمن عليه الولايات المتحدة بعد الحرب الباردة، وقتلت أعدادًا كبيرة من الناس في ثنايا هذه العملية.
وتصف الكاتبة مادلين أولبرايت بأنها كانت غولًا إمبرياليًا لا يرحم في سعيها للهيمنة العالمية الأميركية مثل أي رجل. وقد لعبت دورًا رئيسًا في صياغة سياسة ما بعد الحرب الباردة والتي نشرت الدمار في قارات متعددة. وكانت سيرة حياتها مفجعة: فقد فرت عائلتها من الاضطهاد النازي عندما كانت طفلة، وقُتل 26 شخصًا من أقاربها، من بينهم ثلاثة أجداد، في المحرقة النازية. تضيف الكاتبة: «إنها قصة صادمة في آلامها، لكن لا تشغل بالك واطمئن، فقد أشرفت هي نفسها على الكثير من الصدمات والموت للآخرين في المقابل».
قاتلة أطفال العراق
تشير الكاتبة إلى أنه بين عامي 1993 و1997 شغلت مادلين أولبرايت منصب سفيرة واشنطن في الأمم المتحدة. وبهذه الصفة قادت العقوبات الوحشية لما بعد حرب الخليج على العراق، بهدف زيادة بؤس العراقيين من أجل تشجيعهم على إطاحة صدام حسين. وفي مقابلة عام 1996 مع ليزلي شتال في برنامج «60 دقيقة» على قناة سي بي إس بدا أن مادلين أولبرايت تشير إلى أن مقتل أطفال الآخرين ببساطة هو مجرد تكلفة لقيام الإمبراطورية.
وقالت شتال: «لقد سمعنا أن نصف مليون طفل قد ماتوا. أعني أن هذا العدد يفوق عدد الأطفال الذين توفوا في هيروشيما. هل يستحق الأمر هذه التكلفة؟». أجابت مادلين: «أعتقد أن هذا خيار صعب للغاية، ولكن التكلفة.. نعتقد أن الأمر يستحق هذه التكلفة».
ورغم تقديرات الوفيات التي أشارت إليها شتال شكك فيها الباحثون لاحقًا، إلا أن مادلين أولبرايت أوضحت أنها مستعدة تمامًا للتسبب في حدوث وفيات على هذا النطاق الكبير. من الصعب تفهم وفاة أكثر من نصف مليون طفل، والألم الشديد الذي قاساه عدد كبير من العائلات، التي وردت أسماؤها في إحصائية واحدة. ومع ذلك، كانت مادلين أولبرايت مستعدة لانتزاع هذه «التكلفة» من الناس العاديين في ذلك البلد الفقير، حيث حرمت العقوبات العراقيين من الأدوية ومياه الشرب النظيفة والبنية التحتية الأساسية.
ولم توافق مادلين أولبرايت على مبدأ باول – وجهة نظر السياسة الخارجية لما بعد الحرب الباردة التي تبناها رئيس قيادة الأركان المشتركة في عهد كلينتون كولن باول – الذي يقول إنه يتعين على الولايات المتحدة أن تقصر تدخلاتها العسكرية على المواقف التي تكون فيها مصالحها الوطنية مهددة. واشتبكت مادلين وباول حول ما ينبغي أن يكون عليه دور الولايات المتحدة في أزمات مثل أزمة البوسنة. وكتب باول في مذكراته أنه «أوشك أن يصاب بتمدد في الأوعية الدموية من جراء ارتفاع ضغط الدم» عندما سأَلَته أولبرايت: «ما هي جدوى وجود هذا الجيش الرائع الذي نتحدث عنه دائمًا إذا لم نتمكن من استخدامه؟».
طرد امين عام الأمم المتحدة
وتوضح الكاتبة أنها أثناء عملها سفيرة لواشنطن بالأمم المتحدة، طردت مادلين أولبرايت الأمين العام للأمم المتحدة بطرس بطرس غالي من موقعه بعد حملة لا هوادة فيها، وهو حادث مؤسف يسلط بعض الضوء على رؤيتها للنظام العالمي في نهاية القرن. وفي وقت لاحق أرجع بطرس غالي، الذي دعمه في توليه لمنصبه كل بلد آخر باستثناء الولايات المتحدة، إطاحته إلى نشره تقريرًا للأمم المتحدة يرى أن الهجوم الإسرائيلي على مخيم للاجئين في لبنان، والذي تسبب في مقتل 100 شخص، كان متعمدًا وليس خطأ، على عكس مزاعم الحكومة الإسرائيلية.
ونفى المسؤولون الأميركيون أن يكون هذا هو السبب، وأشاروا، بدلًا عن ذلك إلى النزاعات حول رواندا وكرواتيا والبوسنة. وكان غالي قد أغضب بعض أعضاء الطبقة الحاكمة في الغرب لوصفه أزمة البوسنة بأنها «حرب الأغنياء». وكذلك نظر بطرس غالي، مهندس اتفاق كامب ديفيد، إلى حملة مادلين أولبرايت ضده على أنها عنصرية، أو كراهية الأجانب، لتملق الجمهوريين المناهضين للأمم المتحدة (اعتاد بوب دول، على سبيل المثال، أن يسخر من اسم الأمين العام المصري: «بوترووووس بوترووووس» أو «بو بو»).
وزاد التحامل على بطرس غالي، لا سيما بعد مقتل 15 جنديًا أميركيًا في مداهمة فاشلة لقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في الصومال. ومن بين وسائلها الأخرى لطرد الأمين العام من منصبه، اتهمت مادلين أولبرايت بطرس غالي زورًا بالفساد، بحسب المقال. وكتب إريك رولو في لوموند ديبلوماتيك في ذلك الوقت: إن السبب الحقيقي لانتقام مادلين أولبرايت من زميلها المحبوب: يكمن في أن «سقوط جدار برلين قد مكّن الولايات المتحدة من شن حرب الخليج بالصورة التي ترضيها تقريبًا، وهذا أشار إلى نموذج للمستقبل إطاره أن الأمم المتحدة تقترح، بناء على مبادرة واشنطن، ثم تتصرف الولايات المتحدة بعدها. لكن السيد بطرس غالي لم يشارك هذه النظرة في نهاية الحرب الباردة».
وشغلت مادلين أولبرايت من عام 1997 إلى عام 2001 منصب وزيرة الخارجية، في ظل الرئيس بيل كلينتون. وفي هذا الدور الرائد الذي تم الاحتفال به كثيرًا، استمرت في إلحاق معاناة لا يمكن تصورها بالعراقيين. واستقال الأمين العام المساعد للأمم المتحدة دينيس هاليداي من منصبه في عام 1999 من أجل التحدث عن العقوبات الأميركية.
وقال في ذلك الوقت إن الولايات المتحدة «تقتل عن وعي آلاف العراقيين كل شهر» في سياسة وصفها «بالإبادة الجماعية»، ومع أن العديد من الأميركيين قد صدموا عندما غزت إدارة جورج دبليو بوش العراق، لكن في الواقع عندما وصل بوش إلى منصبه، كانت الولايات المتحدة تقصف العراق بالفعل حوالي ثلاث مرات في الأسبوع في المتوسط. هذه هي فتاتنا مادلين أولبرايت، محرضة على الحرب وداعية إليها تمامًا مثل الرجال، بحسب الكاتبة.
مسببة في العملية الروسية الأوكرانية الحالية
يوضح المقال أن مادلين أولبرايت قد عززت توسع الناتو في الدول السوفيتية السابقة في أوروبا الشرقية، وهو مسار متهور حذر العديد من الدبلوماسيين رفيعي المستوى على مر السنين بأنه حتمًا سوف يثير عداء روسيا. وقد ساهمت هذه السياسة بشكل كبير في الصراع النووي المحتمل المرعب الذي نواجهه الآن، بالإضافة إلى مذبحة المدنيين الأوكرانيين (الذين بلغ عدد القتلى المؤكدين منهم 977 على الأقل، ويعتقد المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان أن العدد الحقيقي أعلى بكثير).
ولم تتقاعد مادلين أولبرايت أبدًا، وهو امتياز لا شك أن محبيها سيرون فيه رفضًا للتحيز ضد كبار السن. لكن الأمر كان سيصبح أفضل بكثير بالنسبة للعالم لو كانت قد كرست بعض الوقت للاستمتاع بإنجازاتها الكبيرة، بحسب الكاتبة. وساعدت شركة الاستشارات المملوكة لها شركة فايزر في تجنب مشاركة ملكيتها الدولية، على الرغم من أن ذلك كان من شأنه أن ينقذ حياة الكثيرين حول العالم خلال جائحة كوفيد-19 الحالية. إذ تظل براءات اختراع اللقاح سببًا رئيسًا للفصل العنصري العالمي والوفيات الجماعية. ولكن من غير المرجح أن يكون ذلك قد سبب لها أي اضطرابات على فراش الموت؛ لأن وفاة الناس الفقراء، أي الملونين الذين ليسوا أميركيين، كان دائمًا أمر «يستحق التكلفة» بالنسبة لمادلين أولبرايت، بحسب الكاتبة.
«مكان للنساء في الجحيم»
وقالت مادلين خلال الانتخابات الرئاسية التمهيدية لعام 2016 عن النساء (مثل كاتبة هذه السطور) اللائي لا يدعمن ترشيح هيلاري كلينتون: «هناك مكان خاص في الجحيم للنساء اللائي لا يساعدن بعضهن البعض». واعتذرت فيما بعد عن التعليق في مقال للرأي في صحيفة نيويورك تايمز. وعلى أية حال لم يحصل الشعب العراقي على اعتذار منها، بحسب الكاتبة، ولكن بعد مراجعة الأدلة المذكورة أعلاه يتضح أنه كان تهورًا من مادلين أولبرايت أن ترسل نساء أخريات إلى هذا الجحيم الشهير!
وتختتم الكاتبة مقالها بالقول: «من المؤكد أن هناك بالفعل مكانًا محجوزًا باسمها في تلك البقعة الساخنة في الآخرة. وربما هناك ستحصل أخيرًا على الاعتراف الذي تستحقه، كشخصية بارزة بين دعاة الحروب الإمبرياليين القتلة من أي جنس كانوا».
بتوقيت بيروت