لعبت الجغرافيا دورًا كبيرًا في تاريخ الحروب، حيث حصَّنت دولًا من عمليات الغزو، وجعلت أخرى ملتقى لغُزاة العالم، منحت جيوشًا أفضلية في معارك فاصلة، وحرمت أخرى من قدرة الدفاع عن نفسها، أكسبت دولًا أهمية مركزية في السياسة العالمية، ووضعت أخرى على هامش العالم.
لكن هناك من يعتقد أن التكنولوجيا الحديثة وأدواتها العسكرية أفقدت الجغرافيا مكانتها التاريخية وأهميتها وميزاتها؛ فقد ضاع إدراك العالم للزمان والمكان، في عصر الطائرة النَّفَّاثة وثورة المعلومات؛ إذ تمكَّنت نخبة صنَّاع الرأي العام من التنقل عبر المحيطات والقارات خلال ساعات، بحيث تحوَّل العالم، وفق تعبير الصحافي الأميركي، توماس فريدمان، إلى «عالم مُسطَّح».
غير أن الصحافي الأميركي روبرت د. كابلان لا يؤمن بهذه الفرضية، وما زال يرى في الجغرافيا مفتاحًا لفهم صراعات العالم وإدراكها، فكابلان عمل لسنوات عديدة مراسلًا في مختلف دول العالم، وكان منشغلًا بموضوعات الجغرافيا السياسية، وأنتج العديد من الكتب والمقالات حول كيفية تأثير الجغرافيا والتاريخ في الأحداث.
ومن أشهر إنتاجاته، مقالته "الفوضى القادمة"، التي نُشرت في فبراير (شباط) 1994، قبل أن يحولها إلى كتاب يحمل الاسم نفسه، وقدَّم فيه وصفًا مُروَّعًا لزيارته إلى غرب أفريقيا، وافترض أن الكثير من دول العالم سينتهي بها المطاف إلى مصير دولة سيراليون، التي مزَّقتها الحرب.
واحدة من أهم وأشهر إسهامات كابلان الحديثة كان كتاب «انتقام الجغرافيا: ما الذي تخبرنا به الخرائط عن الصراعات المقبلة وعن الحرب ضد المصير؟»، والذي صدر عام 2012.
يحاول كابلان في هذا الكتاب تأكيد صوابية وجهة نظره حول الجغرافيا وأهميتها السياسية، ليس من خلال استعراض آراء وإسهامات تنظيرية حديثة فحسب، ولكن من خلال رحلة استكشافية قام بها حول العالم، في أوراسيا وشبه القارة الهندية، وما أطلق عليه «الشرق الأوسط الكبير»، حيث تفحَّص ما يحدث، وتوقع خرائط الصراع في المستقبل لتلك البقع الجغرافية، وفي السطور التالية بعض مما جاء في هذا الكتاب.
روسيا وحلم تأمين الحدود
يشير كابلان إلى أنه عندما تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991، تقلَّصت روسيا إلى أصغر حجم لها منذ ثلاثة قرون؛ فقد خسرت أوكرانيا، وهي المنطقة المركزية الأصيلة للروس الأوائل، لكن رغم خسارة أوكرانيا ودول البلطيق والقوقاز وآسيا الوسطى، ورغم الشكوك العسكرية في الشيشان وداغستان وتتارستان، وظهور منطقة منغوليا الخارجية، بوصفها دولةً مستقلةً متحررة من وصاية موسكو، فلا تزال أراضي روسيا تزيد على تلك التي تمتلكها أي أمة أخرى على وجه الأرض، إذ تغطي أكثر من ثلث قارة آسيا، مع حدود برية لا تزال تمتد على مدى نحو نصف المناطق الزمنية في العالم، من خليج فنلندا إلى بحر بيرينج.
لكن رغم هذه المساحة الهائلة والجرداء – لم تعد تحرسها الجبال والسهول من أطرافها – لذا بات لزامًا على روسيا أن تحمي سكَّانها، الذين مثَّلوا أكثر من نصف عدد سكان الاتحاد السوفياتي السابق.
وقد أدركت الحكومة الروسية ذلك، فبعد أقل من شهر على تفكك الاتحاد السوفياتي، صرَّح وزير الخارجية الروسي، أندريه كوزيريف، لجريدة «روسيسكايا جازيتا»: «لقد أدركنا بسرعة أن الجغرافيا السياسية تحل محل الأيديولوجيا»، وكتب الأستاذ الفخري بجامعة إدنبرة، جون إريسكون: «إن الجغرافيا السياسية، التي تعرَّضت لشيطنة مستمرة خلال أيام الاتحاد السوفياتي، قد عادت بغضب لتلاحق روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي»، وعلى ذلك، لم ترغب روسيا في إعادة تشكيل الاتحاد السوفياتي، وإنما أرادت استعادة جوارها الجغرافي، وتأمين حدودها، بحسب كابلان.
تفتخر روسيا بامتلاك أكبر احتياطيات العالم من الغاز الطبيعي، وثاني أكبر احتياطيات الفحم، وثامن أكبر احتياطيات النفط، بالإضافة إلى احتياطيات هائلة من الطاقة الكهرومائية المستمدة من جبال وأنهار وبحيرات شرق سيبريا، وقد استخدم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، خلال السنوات السبع الأولى من حكمه، عائدات الطاقة لزيادة الميزانية العسكرية بأربعة أضعاف، واتجه بوتين – كما هو التوجه تاريخيًّا – إلى «العسكرة العميقة» للمجتمع.
ويوضح كابلان في كتابه إلى أن "أعين بوتين كانت على أوروبا، وكانت رغبته الواضحة في تأسيس علاقة روسية-أوروبية، تكون فيها اليد العليا لموسكو"، وهو ما جعل أوكرانيا دولة مركزية في التفكير الإستراتيجي الروسي؛ فالموقع الجغرافي لأوكرانيا يجعلها بوابة روسيا إلى أوروبا، وملتقى لدول الكتلة السوفياتية السابقة، ووقوع كييف تحت سيطرة موسكو، يضيف 46 مليون نسمة إلى تركيبتها الديموغرافية الموجَّهة إلى الغرب، ويجعل روسيا مستعدة –جغرافيًّا – لتحدي أوروبا، ومن ثَمَّ تتحول بولندا إلى محور «جيوسياسي» يحدد مصير أوروبا بالكامل، كما كان الأمر إبان الحرب العالمية الثانية.
وعند هذه النقطة يبدو أن كابلان يرغب في الدفع بحتمية الصراع بين روسيا وأوروبا، وأن هذا الصراع صار متغلغلًا في أعماق المجتمع الروسي وتفكيره الإستراتيجي، لكنه في الوقت ذاته كان يُشكِّك في قدرة روسيا على الانتصار أو الصمود لفترة طويلة، وذلك بسبب الصعود الصيني المُقيِّد لروسيا جغرافيًّا، ولاعتماد الاقتصاد الروسي على أسعار الطاقة المتقلبة، لذلك، إن قُدِّر لروسيا أن تؤسس إمبراطورية برية جديدة، فلن تكون سوى نسخة تاريخية باهتة من الماضي، بحسبه.
الهند: جغرافيا خانقة وقوة اقليمية
وينتقل كابلان نحو الهند فيرى أنه "يمكنها أن تُحدِّد مسار الجغرافيا السياسية في أوراسيا خلال القرن الحادي والعشرين، فهي تلوح في الأفق بوصفها الدولة المحورية، التي تقع في وسط المحيط الهندي الساحلي، في موقعٍ قادرٍ على اختراق كلٍّ من الشرق الأوسط والصين من اتجاه البحر، ورغم ذلك فإن الحدود الطبيعية للهند تحمل بعض عوامل الضعف، لأنها لا تستأثر جغرافيًّا بمنطقة «شبه القارة الهندية»، ولكن يشاركها في تلك المنطقة باكستان وبنغلادش، والنيبال بدرجة أقل، الأمر الذي شكَّل تهديدات أمنية كبيرة للهند، وسلب منها طاقةً سياسيةً حيويةً، كان في وسعها تسخيرها لاستعراض قوتها في أنحاء كثيرة من أوراسيا".
لذلك لا عجب أن نجد أن هذه المنطقة الجغرافية هي واحدة من أقل مناطق العالم استقرارًا من الناحية الجيوسياسية؛ إذ يستمر الصراع بين الهند وباكستان، والذي ينتقل في أحيان كثيرة إلى منطقة كشمير المُتنازع عليها، أو إلى أفغانستان، والصراع هنا بين قوتين نوويتين متجاورتين، أحدهما ذات أغلبية هندوسية والأخرى مسلمة، وكلاهما في مرحلة العنفوان الكامل للقومية الحديثة، وتفصل بينهما حدود مشتركة مزدحمة، ويوجد على مقربة منهم عواصم ومدن كبرى، فهي تمثل «جغرافيا مغلقة وخانقة».
تبذل الهند محاولات مستميتة – وفقًا لكابلان – من أجل الهروب من هذه الجغرافيا ومن هذا التاريخ؛ إن منافسة الهند مع الصين والاهتمام المرضي بها يشكلان اثنين من عناصر هذا الهروب؛ بيد أن تنافس الهند مع الصين لا يشبه تنافسها مع باكستان على الإطلاق؛ فهو أكثر تجريدًا، وأقل عاطفيةً، وأقل تقلبًا، وهو تنافس لا يوجد وراءه تاريخ وجذور حقيقية.
أحد الأسباب الجوهرية لمعضلة الهند أيضًا، هو افتقارها للأسس الطبيعية للوحدة والتنظيم السياسي؛ حيث إن وزاراتها – بتعبير كابلان – تتسم بـ«الضعف والعجرفة»، مما مهَّد لتشكل حركات تمرد عنيفة، تعصف باستقرار البلاد من فترةٍ إلى أخرى، لتظل الهند واحدةً من أقل حضارات العالم تقدمًا، مقارنةً حتى بجوارها الجغرافي، ورغم شراك الجغرافيا، فما زال كابلان يرى في الهند قوة إقليمية رئيسة، وقوى عظمى محتملة دائمًا.
إيران: إمبراطورية "بعد حداثية"
على عكس روسيا أو الصين أو شبه القارة الهندية، لا توجد دولة واحدة هائلة تُهيمن على منطقة الشرق الأوسط. وبدلًا من ذلك، تتميز المنطقة بوجود مجموعة غير منتظمة من الممالك والسلطنات والحكومات الدينية والديمقراطيات والأنظمة الاستبدادية ذات الطراز العسكري، والتي تبدو الحدود المشتركة بينها كأنها شُقَّت باستخدام سكين مهتزة؛ مما جعلها محورًا مكتظًّا بعدم الاستقرار، حيث تتلاقى القارات وشبكات الطرق التاريخية والممرات البحرية، والأكثر من ذلك أن هذه المنطقة تضم 70% من الاحتياطات النفطية في العالم، و40% من احتياطات الغاز الطبيعي.
عند النظر إلى خريطة الشرق الأوسط، تبرز ثلاثة معالم جغرافية:
يشير كابلان إلى أن الهضبة الإيرانية هي مرادف لدولة واحدة فقط، هي إيران؛ والذي يمثل عدد سكانها ضعفين ونصف مقارنةً بسكان السعودية، وهي صاحبة أكبر عدد سكان في الشرق الأوسط، بجانب تركيا ومصر، وبالإضافة إلى ذلك، فقد تمكَّنت إيران بشكلٍ لافت من تقليل معدل نموها السكاني، وصولًا إلى أقل من 1%، في حين أن 22% فقط من سكانها هم دون سن الـ15؛ وبالتالي، فإن سكان إيران لا يمثلون عبئًا، وهذا يجعلهم أحد الأصول الإستراتيجية للبلد.
ويشير كابلان إلى أن جغرافيا إيران يمكنها من التحكم بالخليج العربي كله، من شط العرب على الحدود العراقية إلى مضيق هرمز على بعد 615 ميلًا؛ وبسبب خلجانه ومداخله وخيرانه وجزره – وهي أماكن ممتازة لإخفاء «القوارب التفجيرية السريعة» التي تصطدم بالناقلات – فإن طول الخط الساحلي الإيراني داخل مضيق هرمز يبلغ 1356 ميلًا بحريًّا؛ في حين أن الساحل التالي له في الطول، والخاص بدولة الإمارات، لا يبعد عنه سوى 733 ميلًا بحريًّا.
تمتلك إيران أيضًا 300 ميل من السواحل على بحر العرب، بما في ذلك ميناء تشابهار بالقرب من الحدود الباكستانية، مما يجعل إيران بالغة الأهمية لإتاحة الوصول إلى المياه الدافئة أمام البلدان غير الساحلية في آسيا الوسطى، والتي كانت تابعة للاتحاد السوفيتي السابق.
وبجانب أن إيران كانت أول قوة عظمى تاريخية في العالم القديم، فإن أحد عناصر القوة الإيرانية، هو إرثها التاريخي المتعلق بالثقافة واللغة، ولأنها كانت مركز جذب حضاري، فقد امتلكت قوة ناعمة مؤثرة في محيطها الجغرافي ومجال نفوذها.
حديثًا، يرى كابلان أن أحد عناصر قوة إيران، هو أن الثورة الإيرانية (1978-1979) قد بشَّرت بنظام حيوي وحداثي، يتسم بالكفاءة والتعقيد البيروقراطي، وقدرة أجهزة الأمن على التعامل بكفاءة على المعارضين؛ إذ شكَّل النظام الثوري في طهران هيكلًا حكوميًّا متطورًا على نحوٍ ثري، مع تنويع مراكز السلطة، فلم تكن قط حكومة إجرامية فظة يديرها رجل واحد من النوع الذي أداره صدام حسين في العراق المجاور؛ كذلك تمكن «أصالة الثورة الإيرانية» في التحالف بين رجال الدين ونخبة المثقفين الإسلاميين.
ويرى كابلان أن إيران في الوقت الحالي نجحت – ببراعة – في إقامة إمبراطورية عسكرية «بعد حداثية»، وهي الأولى من نوعها: من دون مستعمرات أو دبابات أو مدرعات أو حاملات طائرات، وسائر المرافقات المعتادة للسلطة، وبدلًا من الإمبريالية النمطية – المتمثلة في الغزو والاحتلال – فإن إيران هي قوة عظمى في الشرق الأوسط بفضل وجود إستراتيجية ذات ثلاثة أسس:
لذلك، فإنه على غرار الصين والهند، فإن مستقبل عناصر القوة الإيرانية ستتحدد بناءً على السياسات الداخلية والأوضاع الاجتماعية، ولا يبدو أن هناك أي آفاق لتغيير السياسة الخارجية الإيرانية حاليًا إلا بتغيير نظام الملالي، واستبدال نظام أكثر ليبرالية به.
بتوقيت بيروت