نشرت مجلة «ريسبونسبل ستيت كرافت» التابعة لمعهد كوينسي لفن الحكم الرشيد تقريرًا لجوناثان هوفمان، طالب الدكتوراة في كلية سكار للسياسة بجامعة جورج ماسون، تحدث فيه عن علاقات “إسرائيل” مع الحكومات العربية المستبدة بحسب وصفه، وما تحققه تلك الحكومات ل “إسرائيل” من ضمان أمنها وهيمنتها على المنطقة.
مختلفون يجمعهم عداءٌ تجاه الثورات
يقول جوناثان في مستهل تقريره: تمثل علاقات “إسرائيل” المزدهرة مع مختلف الأنظمة العربية المستبدة أحد أهم التطورات في الشرق الأوسط الحديث. ومع أن هذه العلاقات قد توسَّعت كثيرًا على مدى أكثر من عقدين من الزمان، إلا أنها تطوَّرت من التعاون الخفي خلف الكواليس إلى أشكال أخرى من التنسيق العلني، وبخاصة تلك التي أعقبت "الثورات العربية" عام 2011 والتي بلغت ذروتها عام 2020 مع توقيع اتفاقات التطبيع "اتفاقات إبراهام"، التي وُقِّعت في الأصل بين “إسرائيل”، والبحرين، والإمارات العربية المتحدة، وتوسَّعت لاحقًا لتشمل المغرب والسودان.
وشدَّد التركيز الكبير للتحليلات التي كانت تسعى إلى فهم هذه العلاقات في المقام الأول على الطريقة التي جمعت من خلالها أهدافُ الجغرافيا السياسية المشتركة هذه الأطرافَ الفاعلة معًا خاصة بعد عام 2011، وسواء كانت هذه الأهداف هي – بحسب رأي الكاتب – مواجهة خصوم مشتركين، مثل إيران، أو حركات الإسلام السياسي، أو الحفاظ على استمرارية الانخراط العميق من جانب الولايات المتحدة في شؤون المنطقة، أو الحفاظ على توازن القوى الإقليمي القائم، ينظر غالبية المراقبين إلى هذه التقاربات رفيعة المستوى التي تجري من أعلى إلى أسفل من خلال عدسة الجغرافيا السياسية.
وبحسب ما يرى الكاتب فإن هذه العلاقات تمضي إلى ما وراء مجرد أهداف الجغرافيا السياسية؛ إذ إن هناك عنصرًا معياريًّا قويًّا وجذريًّا يكمن في الروح المشتركة المعادية للثورة لدى حكومات هذه الدول التي تنظر إلى الديموقراطية في أي مكان بالمنطقة على أنها لعنة تهدد بقاءَهم. ومنذ اندلاع “الثورات العربية” انخرطت “إسرائيل” و«شركاؤها الإقليميون» في حملة متطورة مضادة للثورات لا تهدف فقط إلى الحفاظ على توازن القوى الإقليمي القائم، بل تسعى لمنع ظهور نموذج ديمقراطي شعبي في الشرق الأوسط. إن فهم هذه الرغبة المشتركة لدى كل من تل أبيب والأنظمة العربية المختلفة للحفاظ على الوضع الاستبدادي الإقليمي الراهن أمرٌ بالغ الأهمية لفهم النطاق الكامل لهذه العلاقات.
“إسرائيل” .. نظام فصل عنصري!
يشير الكاتب إلى أن “إسرائيل” عادة ما تقدم نفسها للعالم على أنها الملاذ الآمن للديموقراطية ضمن «جوار صعب» يكسوه الاستبداد، والعنف، والتخلف المتأصل، بحسب ما يصف. ويضرب الكاتب مثلًا على هذا الادعاء الإسرائيلي بما قاله ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء إسرائيلي، ذات مرة: «نحن (الإسرائيليون) نعيش في القرن العشرين، وهم (العرب) ما زالوا في القرن الخامس عشر».
وشدَّد على أن “إسرائيل” تمثل «مجتمعًا حديثًا يشق طريقه وسط عالم لم يزل يقبع في القرون الوسطى». وردَّد وزير الدفاع الإسرائيلي السابق إيهود باراك رسائل مشابهة؛ إذ طالما وصف “إسرائيل” في وسط جيرانها بأنها «فيلا تقع وسط غابة»، أو «واحة حصينة وسط صحراء». وفي كتابه «مكان بين الأمم: إسرائيل والعالم»، قال رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو: إن «العنف منتشر في كل مناحي الحياة السياسية في جميع الدول العربية، وهو الأسلوب الأساسي في تعاملها مع خصومها الأجانب والمحليين، والعرب وغير العرب".
وجادل المؤرخ الإسرائيلي آفي شلايم سابقًا، بأن هذه النظرة إلى العالم «تُرجِمت إلى مفهوم جيو-إستراتيجي» تكون فيه الدولة الصهيونية «محاصرة دومًا بتحالف مع الغرب ضد الشرق المتخلف». كل ذلك ومكانة “إسرائيل” باعتبارها دولة ديموقراطية أصلًا محل نقاش كبير؛ إذ وصفت العديد من منظمات حقوق الإنسان البارزة وغيرها الدولة اليهودية والأراضي الفلسطينية التي تسيطر عليها بأنها نظام حكم قائم على الفصل العنصري.
بقاؤها من بقاء حكومات غير ديموقراطية
وبعيدًا عن الخطاب الذي يتبناه قادتها عارضت “إسرائيل” التحولات الديموقراطية في الشرق الأوسط، وانتفعت من افتقار أنظمة المنطقة إلى الديموقراطية . و “إسرائيل” – بحسب الكاتب – هي القوة الكبرى في الوضع الراهن بالشرق الأوسط، وتعتمد كثيرًا على بقاء الحكومات غير الديموقراطية في المنطقة. حتى أن بعض المؤيدين المخلصين لـ“إسرائيل” من الولايات المتحدة لاحظوا ذلك، مثل الجدل الذي طرحه المؤرخ روبرت كاغان بعد انقلاب عام 2013 الذي أطاح الحكومة المنتخبة ديموقراطيًّا في مصر، حين قال: «من وجهة نظر “إسرائيل” ، التي لم تدعم يومًا الديموقراطية في أي مكان بالشرق الأوسط، ما عدا “إسرائيل” ، لا يُعد وجود ديكتاتورية عسكرية وحشية مصممة على القضاء على الإسلام السياسي أمرًا مقبولًا فحسب، بل مستحسنًا».
ويرى الكاتب أن “إسرائيل” تخشى أن تصبح الحكومات الشعبية (الديموقراطية) المسؤولة تجاه شعبها مطالَبَة بالنضال من أجل حقوق الفلسطينيين، والتسوية الحقيقية للصراع الإسرائيلي الفلسطيني؛ إذ يبقى الرأي العام العربي مؤيدًا بشدة لقضية الفلسطينيين. ومع أن ثورات عام 2011 كانت مدفوعة بمطالبات تدعو إلى العدالة السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، التي تركزت على المستوى المحلي بالأساس، إلا أن رمزية فلسطين كانت تظهر في كثير من الأحيان في هذه المظاهرات.
ويُعبَّر عن هذه الرمزية في مختلف الاحتجاجات داخل المنطقة، لا سيما بعد صفقات «التطبيع» في السنوات القليلة الماضية. ومن هنا تكره تل أبيب ظهور حكومات ديموقراطية في المنطقة والتحديات التي يمكن أن تواجهها في مسألة استمرار سيطرتها على الأراضي الفلسطينية، وتعتمد على الحكام العرب المستبدين لقمع ميول الشعوب نحو الديموقراطية.
باراك: مستبدون مناسبون لنا
ويلفت الكاتب إلى أن ما يثير قلق “إسرائيل” خصوصًا هي مصر والأردن المجاورتين، وكلتاهما قد وقَّعتا معاهدات سلام مع تل أبيب. ومصر أكبر دولة عربية من حيث عدد السكان وتقع على الحدود مع قطاع غزة، بينما تحكم الأغلبية الفلسطينية في الأردن الأقلية الهاشمية وتشترك في حدودها مع الضفة الغربية. وإذا ظهرت ديمقراطيات حقيقية في هذه البلدان، فسيكون بإمكانها أن تلعب دورًا أكثر بروزًا في الدفع من أجل الحصول على الحقوق الفلسطينية.
وتستفيد “إسرائيل” من غياب الحكم الديموقراطي في المنطقة عند محاولتها حشد الدعم الخارجي من خلال تصوير نفسها على أنها تقف في موقف دفاعي دائمًا في «جوار صعب»، وتبرز تل أبيب نفسها دائمًا في صورة الضحية لمؤيديها في الغرب. وعلاوةً على ذلك تهدف “إسرائيل” من تصوير نفسها على أنها بؤرة غربية منعزلة ومحاصرة، إلى تقديم نفسها على أنها أكثر الفاعلين الإقليميين – وربما الفاعل الوحيد – القادر على العمل مع الديموقراطيات الغربية. وإذا تمكَّنت دول أخرى في الشرق الأوسط من ترسيخ نفسها باعتبارها ديموقراطيات فاعلة، فربما تجذب إليها الدول الغربية وتقيم علاقات شراكة مع هذه الدول وتنافس “إسرائيل” على الدعم القادم منها بحسب ما يقول الكاتب.
وهذا هو السياق الذي فسَّرت “إسرائيل” من خلاله “الثورات العربية” عام 2011 وما تلاها. وتعمل “إسرائيل” في وقت واحد مع الأنظمة العربية المختلفة للحفاظ على الحكم الاستبدادي في الشرق الأوسط، الذي يدعم بدوره هيمنة تل أبيب على الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وفي الأيام الأولى للثورات العربية، بدا ذلك جليًّا في خطاب المسؤولين الإسرائيليين مثل وزير "الدفاع" آنذاك، إيهود باراك، الذي صرَّح بأن «تلك القيادات المستبدة، حتى وإن لم تكن مقبولة من شعوبها، إلا أنها كانت مسؤولة عن الحفاظ على الاستقرار الإقليمي.. وهم (مناسبون) لنا أكثر من شعوب هذه البلدان أو شوارعها». وكذلك وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو “الثورات العربية” بأنها «موجة إسلامية مناهضة للغرب والليبرالية و “إسرائيل” والديموقراطية".
"اسطورة الاستقرار الاستبدادي"
وفي السنوات الـ11 التي تلت هذه التعليقات، نمَت علاقات “إسرائيل” مع الجهات الأخرى الفاعلة المضادة للثورات، لا سيما السعودية، والإمارات، والبحرين وغيرها، كثيرًا لتشمل تعاونًا دبلوماسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا مكثفًا، وتأمين تقنيات مراقبة متطورة، وجهود منسَّقة متصاعدة للضغط على واشنطن لمساعدتها في تحقيق أجنداتها.
وبحسب رأي الكاتب فيجب النظر إلى اتفاقات التطبيع «اتفاقات إبراهام» على أنها استمرار لهذه الجهود عبر إنشاء تحالفات أكثر رسمية للفاعلين المناهضين للديموقراطية المدعومين بشدة من الولايات المتحدة، التي تريد الانتهاء من الشرق الأوسط والتفرُّغ للمحيطين الهندي والهادئ.
وعملت “إسرائيل” في الآونة الأخيرة على تنمية علاقاتها مع الحكام والقادة المستبدين، (...) وتمتد هذه الجهود إلى ما هو أبعد من الجغرافيا السياسية وتسعى إلى تحالف أكبر للثورة المضادة يؤكد هيمنته على الشرق الأوسط. ودعمت الولايات المتحدة بحماس الفاعلين المُعادين للثورة من خلال تزويدهم بأسلحة متطورة، وغضِّ الطرف عن سجلاتهم المتخمة في مجال حقوق الإنسان. ورغم وعد بايدن بأن تكون حقوق الإنسان أساسًا في سياساته الخارجية، بقي هذا النمط سائدًا دون هوادة.
ويختم الكاتب بالقول: إن استمرار الدعم الأمريكي لهذا التحالف النابع مما يسمى بـ«أسطورة الاستقرار الاستبدادي» لا يخدم سوى تفاقم المصدر الأساسي للمظالم المتجذرة في المنطقة وأصل مشكلاتها، أي المستبدين أنفسهم.
بتوقيت بيروت