نشرت مجلة «جاكوبين» الأميركية عرضًا قدمته الناشطة الأميركية هاداس ثير لكتاب «باستثناء فلسطين: حدود السياسة التقدمية» لمؤلفيه مارك لامونت هيل وميتشل بليتنيك، الصادر عن دار نشر «نيو برس» في عام 2021.
تستهجن الكاتبة، وهي مؤلفة كتاب «دليل الشعوب للرأسمالية؛ مقدمة في الاقتصاد الماركسي»، نهج الليبرالية الأميركية، التي تبدو تقدمية في كافة القضايا، باستثناء ما يخص فلسطين، وخَلُصَت إلى أن هذه الانتقائية لا يمكن أن تستمر في ظل استحالة تجاهل وحشية الاحتلال الإسرائيلي تجاه الشعب الفلسطيني.
شركات المثلجات.. ارهابية!!
حذر الرئيس الإسرائيلي الجديد، إسحق هرتسوج، الأسبوع الماضي من «نوع جديد من الإرهاب» يهدد الدولة اليهودية. فهل هو سلاح جديد، أو إستراتيجية جديدة تستخدمها حماس؟ أو ربما مؤامرة داخلية مدعومة من إيران؟
تجيب الكاتبة: لا، ليس هذا، بل وسّعت "إسرائيل" مصطلح «الإرهاب» ليشمل وعد شركة «بن آند جيري» بالتوقف عن بيع المثلّجات للمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية. لم تقل الشركة إنها ستوقف مبيعاتها في “إسرائيل” كلها، بل فقط في المستوطنات الإسرائيلية بالأراضي المحتلة التي تنتهك القانون الدولي. لم تتنازل الشركة عن الكثير، لكن إجراءها كان رمزيًا ذا مغزى. بيد أن ذلك لم يمنع رد الفعل الهستيري والتهديدات التي شنّتها “إسرائيل”، أو بعض الأميركيين بمن فيهم عمدة نيويورك الليبرالي، بيل دي بلاسيو.
سياسة الكيل بمكيالين لدى الليبراليين الأميركيين
لماذا أصبحت الشركة التي لطالما دعمت قضايا الليبرالية، وأصدرت تصريحات تدافع عن «تفكيك سيادة الرجل الأبيض»، ودافعت عن المتحولين جنسيًا واللاجئين، فجأة في مرمى النيران؟ تجيب الكاتبة: يفسر ذلك جزئيًا المقاربة السياسية التي ابتلي بها اليسار التقدمي الأميركي إلى الحد الذي أصبح لها مصطلح خاص هو «التقدمية باستثناء فلسطين PEP»، وهم أولئك الذين يدعمون حقوق المهاجرين، والمثليين، ويدافعون عن المساواة بين الجنسين والعدالة العرقية، لكنهم صامتون حيال إسرائيل.
يتساءل كريس هيدجز: «هل من الممكن أن يُقدم الشخص نفسه على أنه ليبرالي تقدمي، وفي الوقت نفسه يلتمس الأعذار للاحتلال الإسرائيلي، والشوفينية الدينية، والعنصرية ضد العرب، والتطبيق الانتقائي لحقوق الإنسان، والاستخفاف الصارخ بالقانون الدولي؟» كما تناول مارك لامونت هيل وميتشل بليتنيك هذه المسألة في كتابهما «باستثناء فلسطين: حدود السياسة التقدمية».
يرسم هيل وبليتنيك صورة لعام 2018 عندما نشر ترامب آلاف الجنود للتصدي إلى «غزو» المهاجرين على الحدود الجنوبية، وردد حينها التقدميون العبارة الأميركية المألوفة: «هذا لا يليق بنا». إلا أن هؤلاء الليبراليين رحبوا في الصيف ذاته بقرار ترامب قطع التمويل عن وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التي توفر الغذاء، والدواء، والمأوى؛ ما تسبب في كارثة حقوقية.
قوبلت المعايير المزدوجة ذاتها بترحاب أكبر عندما اقترح ترامب أن ترد القوات الأميركية بالذخيرة الحية ضد أي شخص يرشقهم بالحجارة من كرفانات أميركا الوسطى. غضب معظم الأميركيين والليبراليين آنذاك من هذه الدعوة؛ بحجة الاستخدام غير المتناسب للقوة ضد أشخاص غير مسلحين. مع أن “إسرائيل” ظلت تستجيب بهذه الطريقة نفسها لسنوات عدة ضد الفلسطينيين، وخلال السنوات الأخيرة أطلقت النار على مئات الفلسطينيين في قطاع غزة، على الرغم من عدم وجود تهديد مباشر لأي جندي أو مدني إسرائيلي.
يشير هيل وبليتنيك إلى أن انتقاد دعم الولايات المتحدة المتواصل لإسرائيل لطالما كان خطًا أحمر، يُتهم من يتخطاه بالتحامل على الدولة اليهودية الوحيدة في العالم أو معاداة السامية. على هذا النسق، خلق اليسار السياسي الأميركي عالمًا جديدًا أصبح مقبولًا فيه أن تكون «تقدميًا باستثناء ما يخص فلسطين».
وفيما يُعد التضامن مع النضال الفلسطيني أمرًا بديهيًا لكل من يعتبر نفسه «يساريًا» في أي جزء من العالم، لم يكن اليسار الأميركي متسقًا مع نفسه في أحسن أحواله، وملتزمًا الصمت بوضوح في أسوئها. بيد أن الصمت أو الحياد، في مواجهة صراع غير متكافئ، يُعد دعمًا للوضع الراهن المتسم بالعنف، الذي تسيطر فيه “إسرائيل” على شعب عديم الجنسية، وتجرّده من حقوقه الاجتماعية والاقتصادية والمادية.
إجماع أميركي بشأن فلسطين
تنقل الكاتبة عن مهدي حسن قوله: إن قلوب التقدميين تنزف «على السوريين، والليبيين، والأفغان، والعراقيين، والروانديين، والكوسوفيين، ولكن ليس على الفلسطينيين». عندما أطلقت “إسرائيل” النار على 773 فلسطينيًا خلال مسيرة العودة الكبرى الأولى في 30 مارس (آذار) 2018، تساءل حسن: «أين مقالات الرأي الغاضبة التي يكتبها نيكولاس كريستوف في نيويورك تايمز، وريتشارد كوهين في واشنطن بوست، وديفيد آرونوفيتش في تايمز أوف لندن، للمطالبة باتخاذ خطوات جادة ضد منتهكي حقوق الإنسان في الجيش الإسرائيلي؟».
ولكن عندما قُدّم قانون مكافحة الإرهاب الفلسطيني بعد فوز حماس في الانتخابات الديمقراطية عام 2006، استقبله 294 عضوًا في مجلس النواب بالترحاب. ورعى 90 من أصل 100 عضو في مجلس الشيوخ مشروع القانون المصاحب.
يجادل هيل وبليتنك بأنه «حتى من عارضوا المشروع كان صوتهم خافتًا». فالنائبة بيتي ماكولوم، التي اشتُهرت بدفاعها عن حقوق الفلسطينيين في الكونجرس، صرّحت بأن اللغة الواردة في نسخة مجلس الشيوخ المعدّلة من مشروع القانون تعبر بدقة عن موقفها.
يسلّط هيل وبليتنيك الضوء في كتابهما على الحلقات الأضعف في الأيديولوجية الليبرالية وهي:
1- مهما كان العدوان الإسرائيلي، فهو دفاع عن «الحق في الوجود».
2- حركات مقاطعة “إسرائيل” وفرض عقوبات عليها معادية للسامية بطبيعتها.
3- بقدر ما أدّت الحكومة الأميركية دورًا سلبيًا في اضطهاد الفلسطينيين، فإن هذا الأمر يتعلق بولاية ترامب، وليس بالالتزام التاريخي، وغير المشروط تجاه إسرائيل.
كثيرًا ما يتهم المتحمسون لإسرائيل منتقديها بأنهم يركزون على جرائم “إسرائيل” وحدها، بينما هذا غير صحيح – بحسب الكاتبة. فالأشخاص الذين يدافعون عن حقوق الفلسطينيين هم أنفسهم الذين يعارضون القمع والإمبريالية في كل مكان. إلا أن هناك جوانب فريدة في تكوين “إسرائيل” الاستيطاني وعلاقتها بالولايات المتحدة من بينها الإصرار على اعتراف الشعب المحتل – أي الفلسطينيين – بـ«حق “إسرائيل” في الوجود».
ومطالبة الفلسطينيين بالاعتراف لإسرائيل بالحق في الوجود، بل بحتمية أن تتواجد دولةً يهوديةً ذات أغلبية يهودية دائمة، إنما هو مثل مطالبتهم بأن يتنازلوا عن حقهم في تقرير المصير، وهو «في الواقع مطلب لشرعنة تجريد الفلسطينيين من ممتلكاتهم». أما المطلب الرئيس للفلسطينين – وهو حق عودة اللاجئين إلى أراضيهم التي سلبتهم “إسرائيل” إياها – فهو مطلب معترف به بموجب القانون الدولي، ولكنه يُعرّض الأغلبية الديموجرافية اليهودية للخطر. والاعتراف بحق “إسرائيل” في الوجود دولةً يهوديةً عرقيةً قوميةً يعني التخلي عن حق العودة والحقوق الديمقراطية المتساوية للفلسطينيين الذين يعيشون داخل إسرائيل.
والسؤال هنا: هل لـ"إسرائيل" الحق في الوجود؟ تجيب الكاتبة: المسألة ليست متعلقة بحق اليهود في تكوين أمة، أو حتى إقامة وطن، بل بأحقيتها في إقامة هذا الوطن على أنقاض ممتلكات الفلسطينيين، وحرمانهم المستمر من حقوقهم الديمقراطية.
جذور مصطلح التقدمية باستثناء ما يخص فلسطين
يلفت التقرير إلى أن رفض هذه المطالب الأساسية هو ما أدى إلى جعل حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، المعروفة اختصارًا بـ«BDS»، في مرمى نيران أنصار إسرائيل. في عام 2005 دعا تحالف كبير يضم أكثر من 170 من مؤسسات المجتمع المدني الفلسطينية إلى المقاطعة، وسحب الاستثمارات، وفرض العقوبات؛ حتى تفي “إسرائيل” بالتزاماتها تجاه حقوق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير بما يتوافق مع القانون الدولي، وذلك عبر:
1- إنهاء احتلالها واستعمارها لكافة الأراضي العربية، وتفكيك جدار الفصل العنصري.
2- الاعتراف بالحقوق الأساسية، ومنح المساواة الكاملة للمواطنين الفلسطينيين داخل إسرائيل.
3- الإقرار بحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم على النحو المنصوص عليه في قرار الأمم المتحدة رقم 194.
ولو لم تكن “إسرائيل” دولة عرقية قومية، لكانت هذه المطالب بديهية تمامًا: الحقوق الديمقراطية للمواطنين، ووضع حد للاحتلال المستمر منذ عقود، وحق اللاجئين المعترف به دوليًا في العودة إلى ديارهم. كما أن وسيلة حركة المقاطعة هي وسيلة مقاومة غير عنيفة. ولكن مطالب الحركة، خاصة المطلبين الأخيرين، يقوّضان قدرة “إسرائيل” في الحفاظ على أغلبيتها اليهودية. ويبدو أن هذه الحملة أرادت أن تُسلط الضوء، ليس فقط على حقوق الفلسطينيين في الضفة وغزة، بل على التجربة الفلسطينية بأكملها.
لكن السياسات التقدمية في الولايات المتحدة لم تتجاوز الخط الأخضر (الخط الفاصل بين الأراضي المحتلة عام 1948 والأراضي المحتلة عام 1967)؛ فقد لا يجد الليبراليون بأسًا في دعم حقوق الفلسطينيين بالضفة الغربية وغزة، أو الدعوة إلى حل الدولتين، لكن التشكيك في أساس الدولة الإسرائيلية المبني على التطهير العرقي، والاستعمار، وإنكار الحقوق الديمقراطية، محظور بالتأكيد.
وربما يكمن أصل مصطلح التقدمية باستثناء ما يخص فلسطين في الضعف المزمن الذي يعتري اليسار الأميركي فيما يتعلق بقضايا السياسة الخارجية، وانزلاق الحركة العمّالية نحو القومية منذ الأربعينات. كما أن العيش داخل جسد الوحش الإمبريالي يثير تحديات سياسية كبرى، خاصة أن رؤية اليسار غالبًا ما كانت مقيّدة بما تسمح به قيادة الحزب الديمقراطي. ويتفق الحزبان الرئيسان في الولايات المتحدة على هدف الهيمنة الإمبريالية الأميركية على العالم، حتى وإن اختلفا أحيانًا في بعض التكتيكات.
وتشوش الدعاية لإسرائيل على القضية الإسرائيلية – الفلسطينية عن طريق التلاعب بإرث المحرقة (الهولوكوست). ولذلك اشتكى المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد عام 1988 من الموقف العام لليسار الأميركي، لافتًا إلى أن صورة “إسرائيل” «معقلًا للديمقراطية، وموطنًا للناجين من المحرقة، قد كبَّل حركة اليسار الأميركي على الصعيدين السياسي والفكري إلى درجة مذهلة».
وتختم الكاتبة بالقول: واليوم يتعين اعتبار التصعيد المستمر للوحشية الإسرائيلية، والتحولات في الرأي العام الأميركي، والشرخ المتزايد داخل الحزب الديمقراطي، كإرهاصاتٍ – كما يجادل هيل وبليتنيك – تنذر بـ«أن اللحظة السياسية الحالية أصبحت مواتية لتجاوز حدود الخطاب السياسي الأرثوذكسي، الذي لطالما اعتبر أية مطالبة بدعم الحقوق الفلسطينية استثناءً من القيم التقدمية». ولم يعد من الممكن أن نكون تقدميين باستثناء فلسطين بعد اليوم.
بتوقيت بيروت