بدا وكأنَّ واشنطن، أهم عواصم العالم، ستنهار مع اقتحام الكونغرس وامتلائه بحشود غاضبة ملونة بالأبيض والأحمر تجتمع حول الكونغرس، وتهتف «النصر لترامب!»، و«أوقفوا هذه السرقة!».
مشهدٌ سوريالي أن ترى الكونغرس الأميركي الذي يشرع ويسيطر ويؤثِّر في مصائر شعوب ودول العالم، لا يستطيع حماية نفسه من حشود دخلت قاعات الكونغرس واتخذتها مرتعًا وملعبًا، وتجولت في أروقتها لالتقاط صور «سيلفي»، ورفع أعلام وشعارات لها رمزية تاريخية، وتعكس واقع الانقسام والعداوة داخل المجتمع الأميركي.
نشرت بعدها الكثير من الصور واللقطات لهذه الحشود، واخترنا لكم صورا لها دلالات ومعانٍ مبطنة، تكشف الحقيقة المخبأة للمجتمع الاميركي بكافة مستوياته.
باختصار: ما الذي حدث ليلة أمس ولماذا؟
بعد خسارة دونالد ترامب الانتخابات الرئاسية أمام خصمه الديموقراطي، جو بايدن، في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، بدأ ترامب حملةً مضادة لقلب الحقائق وإبطال نتائج الانتخابات، مغذيًا ومشعلًا غضب قواعده الشعبية، وروَّج لنظريات مؤامرة باستخدام حساباته على منصات التواصل الاجتماعي وفي خطاباته، خلاصتها: هذه الانتخابات مسروقة والنتائج مزورة.
تُصدق شريحةٌ واسعة من القاعدة الشعبية لترامب ما يقوله ويصوِّره ترامب حول المشهد بأن «الآخرين» من حوله يتآمرون عليه ويحاولون إسقاط رئيسهم المفضل والمُنتخب الذي يحاول حماية مصالحهم، والآخرون هُنا بشكل أساسي هم الإعلام، والحزب الديموقراطي، ومؤسسات الدولة الأميركية.
وقد شكل يوم إعلان نتائج الانتخابات على آخر مقعدين في مجلس الشيوخ الأميركي، كابوسا لكل الجمهوريين عندما استطاع الحزب الديموقراطي الفوزَ بالمقعدين، وهو ما ضمن له الأغلبية في مجلس الشيوخ بسيطرته على مجلس النواب وعلى البيت الأبيض.
وبعدما برزت معارضة داخلية في فريق ترامب تُخالفه في الحملة التي ينفِّذها، خاصةً من نائبه، مايك بنس، ووزير الخارجية، مايك بومبيو، لم يبق لترامب آنذاك سوى الشارع وقاعدته الانتخابية، فبدأ بتوجيههم للضغط على نائبه بنس، الذي يقوم أيضًا بمنصب رئيس مجلس الشيوخ، وهو الذي كان سيشرف على عملية تصديق نتائج المجمع الانتخابي، وانتشر في «تويتر» وسم ورقة بنس (#Pencecard)، للضغط عليه لتعطيل عملية التصديق.
ولكنَّ بنس عارض المقترح علنًا، وصرح بأنَّه لا حق دستورياً له ليقلب النتائج، وإنَّما هي عملية تصديقٍ شكليَّة لا أكثر من ذلك.
وبعدما وجد نفسه وحيدًا، لجأ ترامب لنبض الشارع، لا الشارع الأميركي بأجمعه، ولكن الشارع الأبيض، ووجه أنصاره للذهاب إلى الكابيتول هيل، لتعطيل عملية التصديق، وحصل ما حصل؛ اقتحموا الكونغرس.
علم الكونفيدرالية يُرفع في الكونغرس
من الصور التي انتشرت صورة لعنصر من أنصار ترامب حاملًا علم «الولايات الكونفيدرالية» في أروقة الكونغرس، والتقط الصورة أمام لوحة للسياسي الأميركي جون كالهون، وهو من أبرز الوجوه التي دافعت عن العبودية وعن حق الولايات الجنوبية في الرق والاستعباد، وكان كالهون يصف العبودية بأنَّها شيء «إيجابي». فما الذي يعنيه العلم؟
يعود بنا العلم إلى فترة الحرب الأهلية الأميركية في منتصف القرن التاسع عشر، عندما أعلنت بعض الولايات الجنوبية نيتها بالانفصال عن الاتحاد الأميركي وعن العاصمة واشنطن، واجتمعت 11 ولاية أميركية على هذا المطلب بعد انتخاب الرئيس الأميركي أبراهام لينكولن وتسلمه للرئاسة في 1861، وأصبح علم الكونفيدرالية علمَ الولايات المحاربة للولايات المتحدة.
للحرب الأهلية أسباب عدة، وأهمها بلا شك مطالب تحرير العبيد، والحركة المناهضة للعبودية، التي اصطدمت بجمود الولايات الجنوبية الكونفيدرالية المؤيدة للعبودية، خاصةً وأنَّ اقتصادات هذه الولايات اعتمدت كثيرًا على صناعة القطن والزراعة، وتحتاج لقوة عاملة كبيرة من العبيد.
وعزَّز الانقسام والدخول في الحرب الأهلية التباعد الثقافي والاقتصادي بين الولايات الشمالية والجنوبية، وخلال عام 1861، أعلنت سبع ولايات الانفصال رسميًّا؛ منها تكساس، وفلوريدا، وجورجيا التي خسر فيها المرشحون الجمهوريون ليلة "محاولة الانقلاب".
ولم تستطع الولايات الكونفيدرالية تحمل الحرب طويلًا، فقد أضرت الحرب باقتصادها وخسرت عسكريًّا على عدة جبهات، وفي 13 مايو (أيار) 1865، انتهت الحرب الأهلية ودُفن معها بالسلاح مشاريع الانفصال والكونفيدرالية.
وعاد علم الكونفيدرالية للظهور في الشوارع الأميركية في فترة حركة الحقوق المدنية، التي قادها الزعيم الأفريقي الأميركي، مارتن لوثر كينغ، بوصف العلم ممثلًا لعقيدة «القومية البيضاء» و«التفوق العرقي الأبيض». وبالتالي أصبح رمزًا لرفض التكامل العرقي في الولايات البيضاء، وسبق أن دافع الرئيس دونالد ترامب عن حرية مناصريه برفع علم الكونفيدرالية.
ولم يُرفع علم الكونفيدرالية في مبنى الكونغرس في فترة الحرب الأهلية أبدًا، وكأن هذه الخطوة تعبر عن تاريخ جديد.
نانسي بيلوسي.. أنصار ترامب يستهدفون معذبته
بالنسبة لأنصار ترامب، فإن نانسي بيلوسي، زعيمة مجلس النواب الديموقراطية، هي أشد خصومهم؛ إذ قادت نانسي حملة عزل الرئيس ترامب من منصبه، التي وافق عليها مجلس النواب وعطَّلها مجلس الشيوخ.
وفي خطاب حالة الاتحاد لعام 2019، بعد كلمة الرئيس ترامب عن أهمية إنهاء سياسة الاحتقان والانقسام، قامت بيلوسي بزيها الأبيض الناصع وصفقت بطريقة ملفتة وساخرة على كلام ترامب، وبعد انتهاء خطابه خطفت حركة بيلوسي الأضواء من ترامب، وأصبح تصرفها حديث الساعة.
وفي خطاب 2020 برزت نانسي مجددًا برفض ترامب لمصافحتها، وبانتهاء خطابه قامت بيلوسي بتمزيق بعض الأوراق للتقليل من كلام ترامب.
وبعد اقتحام حشود مؤيدي ترامب الكونغرس، تسلل بعض مناصريه إلى مكتب نانسي بيلوسي، أحدهم التقط صورًا لنفسه بعدما جلس ووضع قدمه فوق مكتبها، تاركًا لها ورقةً مكتوبًا عليها:«لن نتراجع».
"اقتلوا الإعلام" في اقتحام الكونغرس
تُظهر هذه الصورة مجموعة من أنصار ترامب يخرجون من الكونغرس، وكُتب على الباب: «اقتلوا الإعلام». وضع ترامب الإعلام الأميركي على قائمة أعدائه من البداية منذ حملة ترشحه للرئاسة في 2016، وهاجم بتغريداته وخطاباته الإعلام الأميركي واتهمه بأنه «كاذب» وينشر المعلومات المضللة والخاطئة، ويتقصده ويستهدفه.
واشتهر ترامب بمواقفه الصدامية مع الصحافة الأميركية، فإذا تلقى سؤالًا لا يعجبه من صحافي عادةً ما يصفه بالسؤال «الغبي»، أو «السيئ» أو «المتصيد». ومن أشهر مواقفه الهجومية، ردُّه على صحافي «سي إن إن» عندما أصر الصحافي على سؤاله عن التحقيقات المتعلقة بقضية تعاون ترامب مع روسيا، فوصف ترامب الصحافي بأنه شخص «وقح وكارثي»، وأنَّه «لا يجب أن يعمل في سي إن إن»، وطلبَ منه الجلوس ومن مساعديه أن يسحبوا الميكروفون من يده.
وخلال الأعوام الماضية، غذى ترامب أنصاره على كره الإعلام وكانت النتيجة بالأمس في عبارة: «اقتلوا الإعلام» على أحد أبواب الكونغرس.
بوتين يضع «رجلًا على رجل» في الكرملين.. صورة تذكِّر بجدار برلين
مشهد تسلُّق أنصار ترامب جدار الكونغرس لاقتحامه ذكَّر المتابعين بمشاهد سقوط جدار برلين عام 1989، السقوط الذي عبَّر عن نهاية الحرب الباردة وتهاوي النفوذ السوفياتي.
وعلَّق مساعد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما بين رودس ، على أحداث الكونغرس قائلًا: «هذا هو اليوم الذي انتظره فلاديمير بوتين منذ مغادرته شرق ألمانيا عندما كان ضابطًا في كي جي بي (الاستخبارات السوفياتية) بعد انتهاء الحرب الباردة».
ورغم أنَّ التغريدة في هذه اللحظة تبدو تأملًا تاريخيًّا لا صلة له بالواقع، فإنَّ روسيا بوتين كان لها يد دعم مع ترامب عام 2016، واليوم تشهد واشنطن فوضى غير مسبوقة في تاريخ الولايات المتحدة قبيل خروج ترامب من البيت الأبيض.
بتوقيت بيروت