ستيفن إيه كوك(*):
خلال زيارة العراق الأخيرة التي قُمت بها منذ بضعة أعوام، أمضيت بعضًا من الوقت في مدينة السليمانية حيث التقيت بمجموعة من الطّلاب الجامعيين الأكراد، من بين العديد من الأشخاص المثيرين للاهتمام. وفي لحظة ما من حوارنا سألتهم: "ما هي مجموعة الأفكار، والمبادئ، والتاريخ، والرواية الوطنية التي تتشاركونها مع طلاب جامعيين من بغداد والبصرة؟"، ليجيبوا بشكل جماعي "لا شيء". ودُهشت لمعرفتي أن ذلك كان في قلب مشاكل العراق. فإذا لا يستطيع العراقيون التوافق على أفكار متشاركة حول ما يعنيه أن تكون عراقيًا، يبدو أن مصير البلاد هو أن تبقى في وضعية انهيار مستمرة.
ولم يكن الأميركيون ولن يكونوا أبدًا مختلفين عن سائر سكان العالم، خلافًا لما يعتقدونه. وشأنها شأن العديد من البلدان الأخرى في الشرق الأوسط وأماكن شتى، يجب على الولايات المتحدة أن تواجه الحالة المرضية لهويتها.
وعلى وجه الدّقة، أتحدث هنا عن الهوية الوطنية، أي النواحي الّتي يُعرّف بها الأميركيون أنفسهم، وعلاقتهم مع الدّولة ومع بعضهم البعض. ولا شكّ في أنّ جميعنا يملك ما يسميه علماء الاجتماع بـ"الذخيرة الهوياتية"، وهي مركبّات هويّة نؤكد على أجزاء منها في أوقات مختلفة بناءً على الظروف. وبالإمكان الاستفادة من اسم صديقي على موقع "تويتر"، وهو "أبو الجيمكوك"، والذي يعكس أنه أميركي من أصل مصري نشأ في ساوث كارولينا وهو من أشد مشجعي فريق كرة القدم الأميركي "جيمكوكس" التابع لجامعة ساوث كارولينا. وكما أوضح لي منذ عدّة أعوام، فهو أميركي بين المصريين، وعربي بين الأميركيين، ومصري بين العرب.
عادة ما يستخدم القادة السياسيون الهوية من أجل تعزيز مصالحهم أو مصالح دولهم. وبعد وصول عبد الفتاح السيسي إلى السلطة مثلًا، فقد سعى إلى إعادة صياغة القومية المصرية بطريقة تستثني عدوه اللدود، "الإخوان المسلمون"، من الانتماء القومي. وفي أحيان كثيرة، أطّر القادة السعوديون والإيرانيون تنافسهم الإقليمي، ضمن صراع يستند للهوية الدينية. والمشكلة، بطبيعة الحال، هي أنه من الصعب التفاوض وحل النزاعات عندما يُعبّر عنها وكأنها صراع بين السنة والشيعة.
ما علاقة كل ما ذكرته أعلاه بالولايات المتحدة؟ في الحقيقة، هناك ارتباط وثيق بين المذكور أعلاه والولايات المتحدة، فعندما كنت في السليمانية أتبادل أطراف الحديث مع الطّلاب الأكراد، أتذكر اليوم أنني كنت أفكّر في مدى اختلاف صورتي العراقيين الأكراد والعرب في عيون الأميركيين. فقد كُنت أؤمن في ذلك الوقت، أنّه رغم أنني جئت من منطقة محددة في الولايات المتحدة وأحظى بتاريخ عائلي متمايز، إلّا أنني أتشارك بالأفكار الأساسية حول معنى أن تكون أميركيًا مع الناس في جميع أنحاء البلاد. وبالطبع، فقد أدركت أنها فكرة ساذجة بعض الشّيء، وأنها تنبع بحد ذاتها من خبراتي وتعليمي الفريدين، خاصّة وأن الأميركيين الملونين، والنساء، والمهاجرين وغيرهم لا يزالون عُرضة للظلم. ومع ذلك، لا أعتقد أنني كنت ساذجًا للغاية بالإيمان بأنّ (وهو ربما ما كان أشبه بالأمل) أعدادًا كبيرة من الأميركيين يمكن أن يتفقوا على الروح التأسيسية للبلاد والشعور بأنه، حتى لو لم نرتق لها، إلّا أننا أردنا مع ذلك أن نسعى جاهدين لتحقيقها.
وقد ثبت ذلك من خلال الصداقات التي كانت تجمعني بأشخاص لا أشترك معهم إلا بالقليل، والذين أختلف معهم في جميع القضايا السياسية تقريبًا. خذ على سبيل المثال زميلًا لي من منطقة الغرب الأوسط العلوي. في البداية كانت وسيلة التواصل الوحيدة بيننا هي المحاور الثقافية لمراهقي الثمانينيات، وهي جزء من مخزوننا الهوياتي. ومع ذلك، ومع مرور الوقت، اكتشفنا أننا نؤمن بالعديد من المبادئ والأفكار الأساسية المتشابهة التي تدعم هويتنا كأميركيين، كالحرية، وسيادة القانون، وتكافؤ الفرص، على سبيل المثال لا الحصر، وذلك رغم أن أنماط تصويتنا مختلفة.
ولكنني مؤخرًا، بدأت أشكك بمدى وجود ذلك في الإحساس العام. هل يتشارك عدد كاف من الأميركيين الشعور بالانتماء الوطني الذي يمكّننا حتى من الحديث عن هوية وطنية مُشتركة؟ هل كان لدينا شيئا كهذا أصلًا؟ لقد كشف الرئيس، دونالد ترامب على مدار الأعوام الأربعة الماضية، وعمّق، جوانب من المجتمع الأميركي تزرع الشك في ذهني.
بدأت مؤخرًا بقراءة كتاب عن الولايات المتحدة قُبيل وفي الحرب الأهلية الأميركية. ويُمكنني القول إن أوجه الشبه بين الأوضاع التي نعيشها حاليًا والوضع الذي ساد قُبيل الحرب، صارخة ومُقلقة. لكنني اعتقدت في الماضي، ولفترة طويلة، أن تجارب وانتصارات البلاد التي أعقبت الحرب الأهلية، كإعادة الإعمار، والحرب العالمية الأولى، والكساد العظيم، والحرب العالمية الثانية، وحركة الحقوق المدنية، والحرب الباردة، والعولمة، والثورة التكنولوجية، تربط البلاد معًا عبر تكوين هوية مشتركة. فقد أنتج كل هذا التاريخ، أساطير حول المشروع القومي الأميركي الذي يتيح للجميع المشاركة به.
بطبيعة الحال، لم تكن الرواية القومية الأميركية بالشكل المشمس كالذي صوّرته حملة الرئيس، رونالد ريغان، الإعلامية تحت شعار "صباح جديد في أميركا". فقد فشلت عمليّة التجديد، ولا زلنا نعيش مع إرث قوانين "جيم كرو" العنصرية، كما أن سياسات الهجرة الأميركية الحالية ما هي إلّا وصمة عار في جبين الدّولة. ورغم النجاح الملهم لنائبة الرئيس المنتخب، كمالا هاريس، إلّا أن النساء لا زلن يعانين من الأجور المنخفضة، وقلّة التّقدير، وغالبًا ما يُساء معاملتهن في كثير من مجالات الحياة الأميركية. لكن السرد المشبع بالأساطير والذي أصبح مركزيًا للهوية الأميركية، استُخدم كأداة توحيدية مهمة. ومن بين أفضل التجليات المادية لتلك الهوية، كما أراد بنَّاؤوها صياغتها، هي جسر أرلينغتون التذكاري الذي يربط واشنطن العاصمة بفرجينيا مع نصب لنكولن التذكاري في أحد طرفيه ومقبرة أرلينغتون الوطنية ومنزل روبرت إي لي في الطرف الآخر.
مرة أخرى، ورغم أن الرمزية المقصودة بالجسر تتجاهل العديد من الأميركيين، إلّا أن أهميتها تكمن في الحفاظ على روح هذه البادرة التي تسعى للوحدة والهوية المشتركة. وبينما خضع هذا الجسر لعملية ترميم فعلية خلال الأعوام القليلة الماضية، إلّا أنه فقد معناه الرّمزي على ما يبدو، إذ نظرًا لعدم قدرتنا على إجراء حوار، فإن السؤال المطروح هو ما إذا كان الأميركيون يريدون حقًا، تشكيل هوية مشتركة.
هناك أوجه تشابه مقلقة مع طريقة تفكير من تحدثت إليهم في السليمانية بشأن دولتهم (العراق)، فقد عانى هؤلاء وأشقاؤهم في المواطنة في أماكن أخرى من البلاد، لعواقب وخيمة ناجمة عن عدم قدرتهم على الاتفاق على معنى أن تكون عراقيًا، لدرجة رفض الفكرة من أساسها لدى أكراد كُثر. تجلى النزاع على الهوية في الشرق الأوسط، في انعدام الاستقرار السياسي، والعنف، والصراع الأهلي. والأميركيون، وعلى الرغم مما نقوله لأنفسنا عن استثنائيتنا، ليسوا محصنين ضد مصير مماثل.
(*) أحد كبار الباحثين في معهد "زإيني إنريكو ماتي لدراسات الشرق الأوسط وأفريقيا" في مركز الأبحاث "مجلس العلاقات الخارجية".
بتوقيت بيروت