ليست الولايات المتحدة الاميركية كما يصورها اعلامها او اعلام تابعيها، فما يصلنا انما هو الصورة البراقة عن هذه البلاد التي قامت على جثث اصحاب الارض الحقيقيين والذين لا تزال قوانين "درة العالم الحر" تصاغ على قاعدة عدم انصافهم.. ولا تزال الجرائم ترتكب في حقهم ـ اخرها الاعتداءات في حق مواطنين من ذوي البشرة السوداء ـ من دون عقاب رادع عادل..
في هذا المقال نموذج عن قسمة اخرى في المجتمع الاميركي عكسها تقرير نشرته مجلة «فورين أفيرز» الأميركية أعدَّه كلٌ من سام وينتر ليفي، وبراين شونفيلد، المرشحان لنيل درجة الدكتوراة في العلوم السياسية، بجامعة برينستون، تناولا فيه أزمة سكن مع ارتفاع أسعار المساكن والإيجارات بشكل كبير في أميركا؛ مما أدى إلى زيادة نسب التشرد ووجود آلاف الأشخاص بلا مأوى.
40 مليونا قريبا بلا سكن
يقول الكاتبان في بداية تقريرهما: «ربما تواجه الولايات المتحدة الأميركية أشد أزمة سكن في تاريخها»، هذا ما بدأت به إحدى المذكرات التي نشرها مجموعة من الخبراء في مجال سياسة الإسكان الشهر الماضي، تزامنت مع بداية وشيكة لعمليات إخلاء المساكن. وقد نوَّه الكاتبان إلى احتمالية إجبار ما يقرب من 30 مليونًا إلى 40 مليون أميركي على إخلاء مساكنهم في القريب العاجل؛ وذلك بعد انتهاء برامج الإعانة المقدَّمة بسبب تفشي فيروس كورونا. جدير بالذكر أن تفاقم أزمة السكن في الولايات المتحدة ليست نتاج الجائحة فحسب، بل تفاقمت الأزمة بهدوء على مدى نصف قرن. القوانين المُقَيِّدة لتقسيم المناطق والبناء أدت إلى نقص حاد في المساكن، ودفعت أسعار العقارات إلى الارتفاع وبعيدًا عن متناول كثير من الأميركيين.
قوانين للاغنياء
كان لنقص المساكن منخفضة التكلفة تداعيات على اقتصاد الولايات المتحدة بصورة عامة؛ إذ إن ارتفاع الأسعار لا يمنع السكان من تأجير أو شراء المنازل فحسب، بل يمنعهم أيضًا من الانتقال إلى مناطق أخرى تتمتع بفرص اقتصادية أكبر؛ ما يؤدي إلى مزيد من عدم المساواة بين المناطق، ويعوق النمو الاقتصادي العام.
دول اخرى.. وجدت حلولا
وذكر التقرير أن الدول المنافسة للولايات المتحدة الأميركية واجهت مشكلات قليلة نسبيًّا بزيادة المعروض من المساكن؛ إذ ضاعفت روسيا المعدل السنوي لبناء المنازل بأكثر من الضِعف على مدى السنوات العشرين الماضية. وفي العقد الذي سبق عام 2010م، بَنَتْ الصين مساكن تعادل ضعف المساكن الموجودة في دولة إسبانيا، أو ما يعادل مساكن دولة اليابان. في حين تجنبت الدول الديمقراطية الثرية مثل: اليابان وألمانيا وسويسرا العديد من المشكلات التي تواجهها الولايات المتحدة حاليًا. وعليه يجب أن يضع مقررو السياسات في الاعتبار أنه إذا أرادت واشنطن تعزيز زيادة النمو الاقتصادي بوتيرة أسرع، أو الخروج بنفسها من الركود الحالي الناجم عن أزمة كورونا، عليها أن تكون جادة بشأن سياسة الإسكان.
ارتفاع جنوني في الأسعار
خلال منتصف القرن الماضي، ارتفعت أسعار المنازل في العديد من مدن الولايات المتحدة الأكثر ثراءً، حيث زادت الأسعار للضِعف في كلٍ من مدينة نيويورك ولوس أنجلوس، على إثر التعديلات التي اتُّخِذَت للحد من أثر التضخم، في حين زادت أسعار المنازل في سان فرانسيسكو ثلاثة أضعاف. وفي جميع أنحاء الولايات المتحدة، زاد متوسط قيمة الإيجار بنسبة 61% في الفترة بين 1960- 2016، وهي الفترة التي زاد فيها متوسط دخل الأميركيين بنسبة 5%. ووفقًا لما جاء في التقرير، ينفق واحد من كل أربعة أميركيين الآن أكثر من نصف دخلهم الشهري على الإيجار، وحتى قبل انتشار فيروس كورونا، كان أكثر من مائتي ألف مواطن أميركي ينامون كل ليلة في الحدائق والبنايات المهجورة والسيارات، ومن المؤكد أن عدد هؤلاء قد زاد الآن.
الاغنياء ازدادوا غنى
ولفت التقرير إلى أن ارتفاع أسعار المنازل قد يكون مكسبًا كبيرًا بالنسبة للمالكين، إلا أن ذلك يكبد المجتمع تكاليف أعلى. وهذا من شأنه أن يحول دون انتقال العمال ذوي الدخول المنخفضة إلى المناطق الأكثر ثراءً. وأشار عالما الاقتصاد شانج تاي هسييه، وإنركو مورتي إلى أن العجز على الانتقال لتلك المناطق قد أدى إلى خفض إجمالي النمو في الولايات المتحدة بأكثر من الثلث في الفترة بين 1964م- 2009م. وتوقفت الدخول بين الولايات عن التقارب، وزادت التفاوتات بين المناطق. إذا خُففت القيود المفروضة على البناء في ثلاث مدن أميركية فقط: نيويورك، وسان فرانسيسكو، وسان خوسيه إلى مستوى تلك الموجودة في المدينة الأميركية المتوسطة، توقَّع هسييه وموريتي أن الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة سيزداد بنسبة تصل إلى 9%. بعبارة أخرى، أن تكون تكاليف لوائح الإسكان في المدن الأكثر إنتاجية في الولايات المتحدة ما يعادل الناتج المحلي الإجمالي لولاية نيويورك كل عام.
تاريخ عنصري و«اقتراع مُلَّاك المنازل»
ترجع أزمة السكن في الولايات المتحدة الأميركية إلى التاريخ العنصري الذي طال نقاشه بها على مر السنين. لطالما مارست المجتمعات اللوائح المتعلقة باستخدام الأراضي للحفاظ على الفصل العنصري بها، وغالبًا بدعم من الحكومة الفيدرالية. إن الفصل العنصري السكني المسموح به محليًّا، إلى جانب التمييز من قبل مقرضي الرهن العقاري ووكلاء العقارات، أبقت هذه المجتمعات حصرية للسكان البيض، وهو إرث باقٍ حتى يومنا هذا.
كما أن هناك ديناميكية مماثلة تُنتهَج في المدن، فقد أشارت جيسيكا ترونستين، المختصة في العلوم السياسية، إلى أن المدن التي كان يسكنها أغلبية من البيض عام 1970م كانت تميل إلى تثبيت هذا الملمح الديموغرافي، عن طريق فرض قيود استخدام الأراضي التي لم تظهر بها التفرقة العنصرية صريحة، ولكن لها تأثير ذلك الفصل، مثل القيود التي فرضتها على مساكن العائلات والمساكن منخفضة التكلفة. ونتيجة لذلك، فإن المدن ذات الأغلبية من البيض في مناطق التجمع الحضري عام 1970م من المرجح أن يكون لديها أنماط تقييدية لاستخدام الأراضي اليوم، ومن المحتمل أنها عانت أيضًا من زيادة كبيرة في تكاليف الإسكان.
انقسام: مالكون وغير مالكين
ويميل الأميركيون إلى تأييد بناء المزيد من المنازل، لكن بعيدًا عن منازلهم. وغالبًا ما يعارض أصحاب المنازل من كلا الحزبين السياسيين أعمال التنمية المحلية، بغض النظر عن تعهداتهم الإيديولوجية المزعومة. حتى عندما يُظهر الباحثون رسائل أصحاب المنازل الليبراليين التي تشيد بفوائد بناء مساكن جديدة للأسر ذات الدخل المنخفض والمتوسط، يستمر أصحاب المنازل هؤلاء في معارضة التطورات الجديدة. لم يعد المحافظون، الذين يدعمون نظريًّا الأسواق الحرة وإلغاء القيود، الأكثر حماسة بشأن تطوير مساكن جديدة قريبة من منازلهم. والسبب بسيط؛ يخشى أصحاب المنازل من جميع المعتقدات السياسية التهديدات التي تتعرض لها قيمة ممتلكاتهم – التي غالبًا ما تكون الأصول الرئيسية لهم – ولديهم دوافع لاستخدام نفوذهم في صناديق الاقتراع لحمايتها. أي إن الانقسام المركزي في سياسة الإسكان ليس حزبيًّا وإنما يدور بين من يملكون منازل والذين لا يملكون، ويظهر أثر ذلك في الانتخابات؛ إذ ترتفع نسبة مشاركة مالكي المنازل فيها.
مواطنون بلا حماية
وألمح التقرير إلى أن إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، حركت الولايات المتحدة في الاتجاه الخاطئ. ففي السنوات الأولى من إدارته، ردَّد وزير الإسكان والتنمية الحضرية، بن كارسون، انتقادات الإدارة السابقة للقيود التنظيمية لبناء المساكن، واقترح حجب الأموال الفيدرالية عن الضواحي التي فشلت في إصلاح اللوائح المتعلقة باستخدام الأراضي الخاصة بها للسماح بمزيد من التطوير. لكن ترامب غيَّر خطته منذ ذلك الحين، واعدًا بـ«حماية ضواحي أميركا»، وأخبر السكان «أن يعيشوا حلم نمط الحياة في الضواحي» بمعنى «أنك لن تتضايق أو تتأذى ماليَّا بعد الآن بسبب بناء مساكن لذوي الدخل المنخفض في منطقتك». وإذا أعيد انتخاب ترامب في نوفمبر (تشرين الثاني)، فإن احتمالات الإصلاح المعقول المتعلق باستخدام الأراضي قاتمة.
غياب الاصلاحات
وعلى النقيض من ذلك، أعلن المرشح الديمقراطي للرئاسة، جو بايدن، أنه سيقدم بعض المِنَح الفيدرالية لقطاع النقل وتنمية المجتمع بشرط وجود خطط تسمح بمزيد من تطوير الإسكان. يريد بايدن أيضًا توسيع قسائم الإسكان من القسم 8، والتي توفر صناديق الإسكان للمستأجرين ذوي الدخل المنخفض، وزيادة تُقدَّر بـ300 مليون دولار في شكل منح للمساعدات الفنية للولايات والمحليات، لمساعدتها على إلغاء لوائح تقسيم المناطق الإقصائية.
وخلُص التقرير إلى أن المقترحات المُقدمة من حملة بايدن تعد بداية موفقة. ولكن بغض النظر عمن سيفوز في نوفمبر، يجب على الحكومة الفيدرالية أن تتأكد من ألا تُهمل هذه الإصلاحات المتعلقة باستخدام الأراضي في نهاية المطاف. وكانت الجائحة قد أدت إلى تفاقم مشكلة الإسكان منخفض التكلفة في الولايات المتحدة، لكنها منحت الحكومة الفيدرالية أيضًا فرصة غير عادية لمعالجة مشكلة طال أمدها. ويجب على الحكومة الفيدرالية أن تعطي السلطات المحلية التي تعاني من ضائقة مالية أموالًا إضافية مقابل إصلاحات تقسيم المناطق. ومن خلال فعل ذلك، يمكن لواشنطن تقديم المساعدة في تخفيف الأزمة الوطنية المتعلقة بالإسكان منخفض التكلفة.
بتوقيت بيروت