أعمال تجارية تتداعى. أحبّاء يموتون. متنزهات ترفيهية فارغة. جنازات بنكهة التباعد الاجتماعي. اقتصاد متعثر وكارثة صحية هائلة؛ هذا هو شكل التوازن الأسوأ بين الاقتصاد والصّحة العامة الذي تعاني منه الولايات المتحدة.
ادارة فاشلة:
منذ بدء تفشي فيروس كورونا المستجد في الولايات المتحدة، عارض الرئيس دونالد ترامب عمليات الإغلاق وأوامر البقاء في المنازل، ناشراً تغريدة تلو أخرى في حسابه على "تويتر" تحت شعارٍ واحدٍ "لا يمكننا أن نجعل العلاج أسوأ من المشكلة بحد ذاتها"، ممارسا ضغوطا من أجل عودة الموظفين إلى أعمالهم، وإعادة تفعيل المشاريع والشركات التجارية. لكن البلاد فشلت في السيطرة على المرض رغم استخدامها الأقنعة الواقية، وتتبع المرضى، وإجرائها كمًّا هائِلًا من الفحوصات، وجميع الإستراتيجيات الأخرى التي نجحت دول أخرى بتطبيقها. وتسبب ذلك بضرب الانتعاش الوليد (بعد أول موجة من الوباء)، ورفع من احتمال تضخم معدّل البطالة الذي انخفض ما بين أيار/مايو وحزيران/يونيو الماضيين، بعدما بلغ نحو 15 بالمئة في نيسان/أبريل الماضي، ما ينذر بزيادة حادة أخرى في وقت لاحق من العام الجاري.
وتوقف الاقتصاد، بشكل غير مسبوق، الربيع الماضي، في خضم عمليات الإغلاق الواسعة التي فرضتها المدن والولايات. فقد أغلقت مئات آلاف المصالح والشركات، وأُخرج ملايين العمال في إجازات طويلة، أو طُردوا من عملهم. ولكن، بدلًا من وضع إستراتيجيّة وطنية للسيطرة على الفيروس خلال هذه الفترة كما فعلت الدول الغنية الأخرى، لم تفعل الولايات المتحدة شيئا تقريبا. واقتصّ الكونغرس من تمويل أبحاث الأمراض وجهود تتبع المرضى. ولم تسهّل أي وكالة فدرالية تأمين معدات الوقاية الشخصية، وحتى بعد مرور أشهر على بدء تفشي الجائحة، أعاد مختصّو صحة استخدام الأقنعة الواقية لعدة أيام في كل مرة. وأوكلت إدارة ترامب مسؤولية إدارة الصحة العامة للولايات، بينما يتأرجح كل منها على حافة أزمة في الميزانية. وبعد ذروة الانتشار التي شهدها الربيع، لم ينخفض عدد الحالات بشكل جاد. ووصل المرض إلى جميع أنحاء البلاد. ومن ثم فُتحت الولايات مرّة أخرى، وانفجر عدد الإصابات مرّة أخرى.
اميركا: المرحلة المرعبة"
والآن، يترنّح الاقتصاد مع تصاعد حالات انهيار المصالح التجارية واستمرار الفيروس في "تشويه" الناس وقتلهم. وأحد الأمثلة على ذلك هو تصاعد الطلبات الجديدة للتأمين ضد البطالة، لتتجاوز مليون طلب أسبوعيا، أي ما يعادل ضعف أعلى معدل طلبات تدفق خلال فترة الركود الاقتصادي عام 2008. وذلك مؤشر إلى أن زيادة فُقدان الوظائف أصبحت حقيقة مستمرة. وبعد الارتفاع الذي طرأ على معدل إنفاق المستهلكين في أعقاب توزيع الحكومة لشيكات التحفيز وتوسيعها مدفوعات التأمين ضد البطالة، انخفض المعدل مرّة أخرى إلى ما هو أدنى بـ10 بالمئة عما كان عليه في الفترة ذاتها من العام الماضي. وتقول شركة "هوم بيس" المزودة لبرمجيات الموارد البشرية إنّ الارتداد بلغ حدا أقصى، من حيث ساعات العمل، ونسبة الموظفين العاملين، وعدد الشركات المفتوحة.
وها قد وصلنا إلى المرحلة المرعبة التالية من الركود الذي سببه فيروس كورونا؛ والتي تتلخص باقتصاد متضرر، وانتشار أسرع للفيروس مما كان عليه في آذار/ مارس الماضي. ويستمر المرض بإلحاق خسائر دموية ومباشرة بالعمال، في ظل تسجيل 60 ألف إصابة يوميا، ومعاناة عشرات الآلاف مع مضاعفات المرض المتواصلة. وتُقدر القيمة الإحصائية لحياة الأميركيين الذين أماتهم المرض نحو 675 مليار دولار. كما أن المرحلة الحالية من الوباء تتسبّب بخسائر ثانوية هائلة. واضطرت الولايات التي تعاني من تفشٍ كارثي للمرض إلى العودة إلى الإغلاق أو وقف تخفيف إجراءات الإغلاق مؤقتا، ما أدى إلى القضاء على المصالح التي كانت تصارع للبقاء بالفعل، وتكدير سوق العمل. وأينما يتفشى الفيروس، يتوقف الاقتصاد.
ولم ينجم ذلك عن الإجراءات الحكومية فحسب، فقد سارع بعض المستهلكين للعودة للحانات والمطاعم وواصل التسوق والسفر. ويبدو أن الشباب، الشريحة الأقل تضررا من فيروس كورونا على المستوى الصحي، هم من يقود جائحة اليوم. ولكن ملايين آخرين يوضحون يوما بعد يوم أنهم لن يخاطروا بحياتهم ولا بحياة الآخرين في مجتمعهم من أجل التسكع فقط. ويبدو أن محاولات تفادي التعرض للفيروس تؤثر على سلوك المستهلك أكثر من عمليات الإغلاق. فحتى الأماكن التي لم تعلن عن عمليات إغلاق رسمية، شهدت انهيارات اقتصادية مشابهة للأماكن التي فُرضت فيها الإغلاقات، وأظهرت دراسة أجراها مختصون اقتصاديون من جامعة شيكاغو، أن الانخفاض في النشاط الاقتصادي يرتبط بشكل وثيق بـ"الخوف من الإصابة" بالفيروس، كما أنه "يتأثر بشكل كبير بعدد الوفيات الناجمة عن كوفيد-19" التي أُبلغ عنها في مقاطعة معينة.
جهل الطرق الأمنة للحياة:
ومن نواحٍ أخرى، يمنع انتشار كوفيد-19 الأميركيين من العودة إلى أعمالهم. فعلى سبيل المثال، التصور بأن وسائل النقل العام غير آمنة يجعل عملية وصول المسافرين اليوميين إلى عملهم صعبة ومُكلفة. وتصارع المدارس ومراكز رعاية الأطفال اليومية، في فهم الطريقة الآمنة التي ستمكنها من إعادة فتح أبوابها، ما يعني أن ملايين الأهالي يواجهون هبوطا في العمل ورعاية أطفالهم. هذه كارثة. وقالت المسؤولة السابقة في وزارة الأمن الداخلي، جولييت كايم، لمجلة "ذي أتلانتيك" إن "انعدام اليقين المستمر بشأن ما إذا كان التعليم الشخصي سيستأنف ليس نتيجة إساءة الإدارة، بل الإهمال المطلق. وأثبتت أربعة أشهر من أوامر البقاء في المنزل، أنه إذا كانت المدارس غير متوفرة، فإنه ليس بوسع المدينة أن تعمل، وليس بوسع المجتمع أن يعمل، ولا تستطيع الأمة حماية نفسها".
اميركا ليست نموذجاً
ويُمكن للمقارنات مع دول أخرى أن تكون مثرية. فيبدو أن البلدان التي نجحت في مكافحة الفيروس تمتعت بتعافٍ مالي أفضل؛ وأما الدول التي لم تجر عمليات إغلاق (لعدم وقف الاقتصاد)، شهدت ضربات كبيرة لاقتصاداتها على أي حال. وفي السويد، امتنعت السلطات عن اتخاذ إجراءات صارمة لمعالجة أزمة الصحة العامة مع ترسخ الفيروس، وعانت من أعداد إصابات أعلى بكثير ووفيات أكثر من جاراتها، كالنرويج مثلا، ناهيك عن اقتصادها الذي شهد هبوطا حادا. وفي حال نظرنا إلى كوريا الجنوبية، يمكننا أن نرى أن مع التتبع الصارم للمرضى، وإجراء فحوصات شاملة للسكان، نجحت بإبقاء العديد من منشآتها التجارية والتعليمية مفتوحة لأنها سيطرت على الوباء. (سجلت البلاد 288 حالة وفاة ناجمة عن كوفيد-19، فقط، مقارنة بحوالي 135 ألف حالة وفاة في الولايات المتحدة) وأما معدل البطالة فيها، فيبلغ 4.2 في المئة فقط، ومن المتوقع أن ينكمش اقتصادها بمقدار صغير هذا العام، ويرجع ذلك جزئيا إلى انخفاض صادراتها.
وفي نيوزيلندا، أدت رئيسة الوزراء جاسيندا أرديرن "رقصة صغيرة" للاحتفال بإعادة فتح البلاد الشهر الماضي. وفي تايوان، هتف الآلاف من المشجعين من المدرجات في مباراة بيسبول الأسبوع الماضي، غير خائفين من المرض. وفي فرنسا، وهي إحدى أكثر البلدان تضررًا في أوروبا من الفيروس، عاودت العائلات قضاء عطلة في الخارج، وتناول الطعام في المقاهي، وزيارة الأحباء في المستشفيات. بينما يتسبب التفشي الجديد للحالات في الولايات المتحدة بإغلاق كل شيء مرّة أخرى.
لا صحة ولا اقتصاد
يقول علماء الأوبئة إن الولايات المتحدة لا يزال بمقدورها احتواء انتشار كوفيد-19، وإنقاذ أرواح سكانها. ولا يزال بإمكان الدولة تسطيح منحنى عدد الإصابات وخفض عدد الموتى. إذ قدّر الاقتصاديون أن التدابير البسيطة منخفضة التكلفة مثل طلب ارتداء الأقنعة الواقية في الأماكن العامة، ستحافظ على 5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، كما ستمنع آلاف الإصابات الإضافية بالمرض. وأما المفاضلة المفترضة بين الصحة العامة والاقتصاد، فهي أمر غير موجود. وفي حالتنا اليوم، تختار الدولة ألا تنقذ أيًا منهما.
المصدر: مجلة اتلانتيك
بتوقيت بيروت