جريمة جورج فلويد ايضا وايضا.. فبعد السياسيين والشرطة ورجال السلطة جاء دور الاعلام الاميركي الابيض في ممارسة العنصرية، ومن جوانب مختلفة تبدأ باخفاء الحقائق او التعتيم عليها او تحوير الاحداث وقلب حقيقتها الى اعتماد لغة التحريض..
وإن كانت المعالجة الآتية تحكي عن بعض الجرائم التي ارتكبها البيض، ماضياً، في حق الاميركيين ذوي الاصول الافريقية، فانها تقارب ذلك من باب واقع ما يحصل الان، في ظل ولاية دونالد ترامب، حيث ارتفعت معدلات الجرائم، وكذلك ارتفعت وتيرة العنصرية، عمن سواه من الحكام الذين سبقوه.. بحيث لم يعد الحديث عن تهديد، وحدة الولايات المتحدة الاميركية، السياسية والادارية، مجرد تندر، وانما باتت ظاهرة بمفرداتها الاجتماعية والخطابية والاعلامية والميليشيوية..
وفي هذا الاطار نشرت صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية مقالًا لميغان مينغ فرانسيس ـ أستاذة مشاركة في السياسة العامة في كلية هارفرد كينيدي وأستاذة مشاركة في جامعة واشنطن، علَّقت فيه على الأحداث الراهنة في الولايات المتحدة، والاحتجاجات التي اندلعت عقب مقتل المواطن الأميركي الأسود جورج فلويد في مدينة منيابولس بولاية مينيسوتا، موضحة أن تاريخ الصحافة في التعتيم على مذابح السود يمتد لأكثر من قرن من الزمان.
وفي مستهل مقالها، ذكرت الكاتبة أن الاحتجاجات التي نظمتها حركة «حياة السود مهمة» لم تكن تهز أركان المحادثات الدائرة حول الشرطة وحفظ الأمن والنظام العام فحسب، ولكنها أيضًا كانت تهز أركان الصناعات كافة تقريبًا، بما في ذلك صناعة الصحافة.
تستشهد الكاتبة بما كتبه مراسلا صحيفة «واشنطن بوست»، بول فارهي وسارة إليسون، في نهاية هذا الأسبوع: «كما هو الحال بالنسبة للأمة الأميركية نفسها، تخضع المنظمات الإخبارية في طول البلاد وعرضها لمحاسبة تتعلق بالعنصرية، مدفوعةً باحتجاجات صحافيين يعملون تحت مظلة هذه المنظمات».
تاريخ طويل
ولفتت الكاتبة إلى أن هذا شمل حادثة وقعت في صحيفة «نيويورك تايمز» الأسبوع الماضي. فبعد بعض الاحتجاجات الأولية التي اندلعت ردًا على مقتل جورج فلويد، غرَّد السيناتور توم كوتون (جمهوري – من ولاية أركنساس) داعيًا إلى استخدام القوة الفيدرالية لقمع ما يُسمى بأعمال الشغب.
وسرعان ما تطورت تلك التغريدات إلى مقال رأي نُشر على صدر صحيفة «نيويورك تايمز»، دفع فيه بأن على الرئيس ترامب استدعاء القوات الفيدرالية من جانب واحد في «عرض ساحق للقوة لتفريق منتهكي القانون واحتجازهم وردعهم في نهاية المطاف».
وجادل بعض موظفي صحيفة «نيويورك تايمز»، يملؤهم الغضب من هذا المقال المنشور، بأن تلك الدعوة تُعرِّض حياة الموظفين والصحافيين السود للخطر. وحدثت ضجة عامة أوسع نطاقًا دفعت محرر صفحة الافتتاحية جيمس بينيت إلى تقديم استقالته.
وتلفت الكاتبة إلى أن هذه الحلقة تنضم إلى تاريخ طويل يخص غرف الأخبار الأميركية ذات الأغلبية البيضاء التي في أحسن الأحوال تتصرف على نحو أخرق في فترات الاضطرابات العنصرية.
وتضيف: في كتابي المعنون "الحقوق المدنية وصناعة الدولة الأميركية الحديثة"، تفحَّصتُ مذبحة عنصرية وقعت في ولاية أركنساس عام 1919. وكانت إحدى النتائج غير المتوقعة من بحثي في الأرشيف هي دور الصحافة البيضاء في تأجيج نيران العنف العنصري. وإليكم قصة عن حادثة أخرى مثيرة نشرتها نيويورك تايمز منذ قرن من الزمان.
"في 6 أكتوبر (تشرين الأول) 1919، نُشِر العنوان التالي على صدر الصفحة الأولى لـ«صحيفة تايمز»: «وقعت اليوم مذبحة مدَّبرة على يد البيض: الزنوج الذين أُلقِي القبض عليهم في أعمال الشغب الدائرة في أركنساس يعترفون بمؤامرة واسعة النطاق ضدهم».
تلقَّف عديد من الصحف هذه القصة، مما أسهم في حدوث هستيريا على الصعيد الوطني وإدانة ما سُمِّي بمثيري الشغب السود في أركنساس. باستثناء أن القصة كانت مكذوبة، كانت هذه محاولة اختلقتها المؤسسة السياسية البيضاء في أركنساس للتستر على أكبر عملية إبادة جماعية لأميركيين أفارقة في تاريخ الولايات المتحدة.
ففي 30 سبتمبر (أيلول) 1919، في مقاطعة فيليبس بولاية أركنساس، انضم السكان البيض إلى القوات الفيدرالية لقتل 237 أميركيًّا من أصل إفريقي على الأقل. ولم يمر على آذان الغالبية العظمى من الأميركيين شيء عن هذه المذبحة البشعة. وإليكم ما حدث بالفعل.
1919: إزهاق أرواح السود
في 30 سبتمبر تجمَّعت مجموعة من المزارعين الأميركيين الأفارقة الذين يعملون بنظام المزارعة في كنيسة لتنظيم اتحاد يسعى من أجل الحصول على أجر عادل وظروف عمل أفضل.
تنامت الأنباء عن هذا التجمع حتى وصلت إلى آذان مُلاَّك الأراضي البيض. ووصلت مجموعة صغيرة من الرجال البيض الغاضبين إلى الكنيسة وأطلقوا أعيرة نارية على المجتمعين، وفي البداية حطموا مصابيح الإنارة المعلقة في السقف ثم صوَّبوا أسلحتهم نحو صدور الرجال والنساء والأطفال الخائفين المحاصرين في ذلك المبنى المظلم.
وردَّت مجموعة صغيرة من الأميركيين من أصل إفريقي مُطلِقةً أعيرة ناريه كدفاعٍ عن النفس. وفي خضم تلك الفوضى، سقط رجل أبيض قتيلًا.
احتشد البيض البارزون في مقاطعة فيليبس. واستُدعِيت ميليشيات حراسة القانون مثل منظمة «كو كلوكس كلان». واستدعى حاكم ولاية أركنساس تشارلز بروف القوات الفيدرالية، وأرسلت الولايات المجاورة رجالًا بيضًا للمساعدة في «قمع أعمال الشغب».
كانت الاستجابة هائلًا: هرع أكثر من ألف من الحراس البيض، إلى جانب 538 جنديًّا من فوج المشاة السابع والخمسين، إلى مقاطعة فيليبس لترويع الأميركيين الأفارقة وإرغامهم على التراجع.
وبعد ذلك وقعت أسوأ موجة عنف عنصري شهدته أميركا حتى ذلك الحين في القرن العشرين: اخْتُطف 237 من الرجال والنساء والأطفال الأميركيين الأفارقة، وأُطلِقت النار عليهم وظلت عمليات القتل دائرة على مدار ثلاثة أيام، فضلًا عن إصابة كثيرين. حتى فر الآلاف إلى الغابة بحثًا عن مأوى؛ إذ نُهبت منازلهم وأعمالهم وأضرمت فيها النيران.
بيان مفبرك
وأضافت الكاتبة أنه عندما غادر الغوغاء البيض الغاضبون في 2 أكتوبر (تشرين الأول) 1919، قدَّمت المؤسسة البيضاء درسًا فريدًا في كيفية التملص والإفلات من تَبِعات العنف العنصري.
لتحاشي مخاطر الحكم الشمالي المزعج، أطلقت مجموعة مكونة من سبعة رجال بيض بارزين (بما في ذلك شريف، وعمدة، وقاضي مقاطعة) عمليات تمويه مدروسة بعناية، وأصدرت بيانًا ملفقًا للصحافة بعنوان «حقائق من الداخل عن تمرد الزنوج».
واعتمد هذا البيان الصحافي على الصور النمطية العنصرية حول خطورة السود، وخَلُص إلى أن «المأزق الحالي مع الزنوج في مقاطعة فيليبس ليست من أعمال الشغب العنصرية في شيء؛ إنه تمرد حاك خيوطه الزنوج عمدًا ضد البيض».
ووزعت هذه المؤسسة البيضاء منشورات ولصقتها على الجدران في جميع أنحاء المدينة معلنة أنه «لم يتعرض أي زنجي بريء للاعتقال» ومحذرة السكان السود المتبقين «كُفُّوا عن الكلام! ابقوا في المنزل – اذهبوا إلى العمل – لا تقلقوا»!
قصة إخبارية مزيفة.. والصحافة البيضاء الوطنية تتلقفها
وأردفت الكاتبة قائلةً: وبعد ذلك، اخْتلَقت المؤسسة قصة إخبارية مزيفة لوضع الرواية في إطار مناسب. وذكرت الصحيفة الرائدة في أركنساس، أركنساس جازيت، أن مقاطعة فيليبس أصبحت «منطقة تمرد زنجي».
وأوصلت وسائل الإعلام الوطنية هذه «التقارير» إلى جمهور عريض. ونشرت الصفحة الرئيسية لصحيفة نيويورك تايمز عنوانًا يقول: «البيض يدبرون مذبحة اليوم»، ونشرت صحيفة «لوس أنجلوس تايمز» على صدر صفحتها الأولى عنوانًا يقول «معركة البيض مع عصابات الزنوج».
وشجَّع ذلك التقرير الكاذب ضباط إنفاذ القانون والحراس البيض على القبض على أكثر من 100 رجل أميركي من أصل أفريقي وضربهم بوحشية في محاولة لإجبارهم على الاعتراف بالمسؤولية عن العنف.
وبوجه عام، وجَّهت هيئة المحلفين الكبرى اتهامات إلى 122 أميركيًّا من أصل إفريقي، واتُّهِم 79 منهم بجرائم تتراوح بين التهديد والقتل. ومن بين هؤلاء، حُكِم على 12 رجلًا من أصل أفريقي بالإعدام بالكرسي الكهربائي.
وفي تحول ملحوظ لمجريات الأحداث، تمكنت الصحافة السوداء، بقيادة إيدا بي ويلز ووالتر إف وايت، والذي كان يعمل صحافيًّا قبل أن يصبح سكرتيرًا تنفيذيًا للجمعية الوطنية للنهوض بالملونين (NAACP)، من تغيير الرواية الشائعة.
وفي معركة قانونية استغرقت ما يربو على ثلاث سنوات، حصلت NAACP على حكم ببراءة 12 رجلًا، مدعومة بحملة استمرت سنوات عديدة في الصحافة السوداء للفصل إجباريًّا في هذه الحقائق.
تعلِّق الكاتبة على هذا التاريخ قائلة: يكشف هذا القتل الجماعي لأميركيين أفارقة وما أعقبه من عنف ما يمكن أن يحدث عندما تتآمر المؤسسة السياسية ومنظمات إنفاذ القانون ووسائل الإعلام نيابةً عن سيادة البيض.
واختتم المقال بالقول: يمكن للصحف ووسائل الإعلام الإخبارية – في أفضل لحظاتها – إضفاء الطابع الديمقراطي على المعلومات وتضخيم أهمية المناقشات العامة المهمة وتوسيع نطاق رفاهية الجميع. أما في أسوأ حالاتها، فيمكنها نشر الأكاذيب والتشجيع على العنف وإحداث أضرار بالغة. إن إجراء محاسبة صادقة لأحداث التاريخ يمكن أن يساعد هذه المؤسسات في اختيار المسار الأفضل.
بتوقيت بيروت