حين استبعد رئيس الوزراء السنغافوري، لي هسين لونج منذ قرابة عام، أن «تُعامِل الولايات المتحدة الصين بالطريقة ذاتها التي عاملت بها الاتحاد السوفياتي» – في إشارةٍ إلى سياسة الاحتواء التي اتبعتها واشنطن تجاه الاتحاد السوفياتي وأدت لانهيار الأخير عام 1991 – إنما كان يلفت الأنظار إلى عاملين رئيسين يمايزان بين هاتين الحقبتين التاريخيتين:
العامل الأول أن سقوط الاتحاد السوفياتي استغرق أكثر من 40 عامًا، بداية من عام 1946 حين كان جورج فورست كينان، مهندس الحرب الباردة، يقود سياسة احتواء الاتحاد السوفياتي، وحتى عام 1989 عندما سقط جدار برلين.
والعامل الثاني الذي طرحه لونج في مقابلة نشرتها صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية، ويجعل من المتعذر تكرار استراتيجيات الماضي بحذافيرها هو: أن «الصينيين درسوا النموذج السوفياتي جيدًا، وعزموا على عدم السير في ذلك الاتجاه».
3 مدارس صينية لتفسير أسباب سقوط الاتحاد السوفياتي
بعد سقوط الاتحاد السوفياتي في 1991، انقسمت الرؤى الصينية لهذا الحدث المفصلي في تاريخ العلاقات الدولية إلى ثلاث مدارس، كان لكل منها تأثير على صانعي القرار حتى اليوم:
الاولى: لوم الفرد
يرى العديد من الصينيين، وخاصة اليساريين الأكثر تشددًا، أنه في الأساس يتحمل مسؤولية انهيار الاتحاد السوفياتي فرد واحد هو ميخائيل غورباتشوف، فأثناء تنفيذ خطة الإصلاح والانفتاح التي أطلقها غورباتشوف، كان هناك بالفعل صراعات أيديولوجية داخل الحزب الشيوعي الصيني حول سياسات آخر رئيس للاتحاد السوفياتي.
وحتى وقت قريب كان لمدرسة "لوم الفرد" رواجًا كبيرًا، إذ أصدرت الاكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية كتابًا في مارس (آذار) 2011 بعنوان "الاستعداد للخطر في وقت الأمن"، يستنتج أن السبب الأساسي لسقوط الاتحاد السوفياتي لم يكن خللًا في النظام الاشتراكي نفسه، بل فساد المسؤولين الروس بقيادة الرئيس غورباتشوف في ذلك الوقت.
ويظهر تأثير هذه المدرسة واضحًا في السياسية الصينية اليوم، حيث يتحسب القادة الصينيون للتأثيرات المدمرة للفساد، ويعمل الحزب الشيوعي دائمًا على شن حرب كبيرة ضد هذا العدو، حتى لا يلقى مصير الحزب الشيوعي السوفياتي، وفق الباحث الأميركي المتخصص في الشأن الصيني، جرير مايسلس.
المدرسة الثانية: لوم النظام
أما المعسكر الثاني، الذي يمثله الجناح الأكثر ليبرالية، فيرى أن السبب الأساسي لانهيار الاتحاد السوفياتي، هو: النظام. وبالتحديد، لا يلوم هؤلاء النظام الاشتراكي نفسه، بل كيفية تنفيذه في الاتحاد السوفياتي.
ويلقى هذا المعسكر باللوم على أسباب هيكلية في النظام السوفياتي، مثل: الركود الاقتصادي، وسوء الإدارة، والتعصب البيروقراطي، في هذا الانهيار الكبير. ووفق المدرسة نفسها، فإن هذه المشاكل لم تكن نتيجة لسياسات عصر غورباتشوف فحسب، بل مثل السرطان الذي سمح له بالانتشار لسنوات طويلة، وتمكن من النظام في النهاية وأسقطه.
ومنذ عهد الرئيس الصيني «دنج شياو بينج» (1978-1992)، يظهر بوضوح تأثير هذه المدرسة على السياسات الصينية، التي تحارب الركود باستمرار، ليس فقط الركود الاقتصادي، بل أيضًا الإداري والفكري، حتى أن الرئيس الصيني السابق، هو جين تاو حذر في خطاب شعبي عام 2021 من خطر الركود الاقتصادي وسوء الإدارة.
المدرسة الثالثة: لوم الغرب
يركز هذا المعسكر أساسًا على سياسات الولايات المتحدة ونفوذها في المنطقة، ويُرجع إليها سقوط الاتحاد السوفياتي. ويتخوف هذا المعسكر في المقام الأول من أن واشنطن ستستخدم سلطتها لتصعيد الضغط على الصين وتغيير النظام عبر تفجيره من الداخل.
وتظهر مقالات دورية في صحف عدة تفيد بأن الحزب الشيوعي الصيني خائف من تنامي نفوذ القوى الغربية «العدوانية»، ولا تزال هذه الأفكار تتردد وتلقى صداها بين الصينيين.
كيف أثّرت هذه المدارس على صُنَّاع السياسة في الحزب الشيوعي الصيني؟
الأمر الأكثر أهمية من مجرد تحديد «اللائمات الثلاث»، هو: تحديد إلى أي مدى أثرت هذه المدارس على صناع السياسة في الحزب الشيوعي الصيني. ووفق جرير مايسلس، فإن هناك تحولات حقيقية في السياسة الصينية حدثت بسبب انهيار الاتحاد السوفياتي، وتشمل هذه التحولات:
– استبدال الصين نموذج الدولة الواحدة ذات التنوع بالنموذج السوفياتي لبناء دولة متعددة الجنسيات.
– تنظيم الحزب الشيوعي حملة تثقيف وطني مستمرة لتعزيز شرعيته.
– فضلًا عن التطوير المتزايد لسياسات الرعاية الاجتماعية، مثل: رفع سقف المعاشات، وإصلاح برامج الرعاية الصحية، لتعزيز صورة الصين الشعبية كبديل واضح للرأسمالية «الجامحة» في الغرب.
وبالنظر إلى ردود الأفعال الصينية على انهيار الاتحاد السوفياتي، ومحاولة فهم كيف اختاروا استخلاص دروس مستفادة من هذا الحدث المفصلي، يتبين أن الحزب الشيوعي الصيني انخرط في عملية تعلُّم مستمرة، تُوِّجَت في النهاية بمرونة في تخطيط السياسات".
إبطال «سياسة الاحتواء».. ماذا تعلمت الصين من تجربة الاتحاد السوفياتي؟
خلال الحرب الباردة (1945-1991)، كانت «سياسة الاحتواء» هي العنوان الأبرز في العلاقة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، إلا أن المشكلة تفاقمت بالعزلة الاختيارية التي فرضها الأخير على نفسه، والدول التي تدور في فلكه، إذ أقام عالماً خاصًا به وبالكتلة الشرقية، ورفض الانضمام للتحالفات الغربية والمؤسسات المالية الدولية.
بل أسس تحالفات موازية مثل حلف وارسو، الذي نشأ من البداية كمحاكاة لحلف شمال الأطلسي «ناتو». ورفض الاتحاد وحلفائه التعامل بالدولار كعملة دولية، وقصروا معاملاتهم على الذهب والعملة السوفياتية. ومن ثم كانت الحرب في هذا الوقت تجري بين نظامين مختلفين تمامًا، ومستقلين تمامًا، وكل نظام يملك مؤسساته وآلياته.
في البدء فضلت الصين أن تتبع موقف المتفرج خلال فترة الحرب الباردة، وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي وبداية الصعود الصيني في تسعينات القرن الماضي، درست بكين النموذج السوفياتي جيدًا، واتبعت إستراتيجيات مغايرة تماما.
هذا الاختلاف في الإستراتيجيات يجعل الصراع التجاري الدائر حاليًا بين واشنطن وبكين مختلف تمامًا عما دار بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي؛ إذ لا يمكن اعتبار الصراع التجاري الحالي «صراعًا أيديولوجيًا»، كما أنه بعيد في أساسه عن سباق التسلح، بل يتركز بالأساس على الاقتصاد والتجارة.
وإحدى تجليات دراسة الصين للنموذج السوفياتي وتعلمها من أخطائه، هو: أنها لم تدشن نظامها الخاص، ولم تطمح في إرساء آليات جديدة في الاقتصاد الدولي، بل نافست واشنطن في نظامها الخاص وبالأدوات التي وضعتها الأخيرة. حتى أن الصين لم تخاصم منظومة العولمة، وتبنت مبادئ حرية التجارة والانفتاح، وأرست علاقات تجارية قائمة على المصالح المتبادلة مع أكثر من ثلثي دول العالم.
والنتيجة أن أصبحت علاقات الصين التجارية القوية ممتدة مع مختلف دول العالم، وتخطت محيطها التاريخي المتمثل في قارة آسيا، ووصلت إلى أفريقيا، وتمضي الآن بخطى ثابتة إلى دول أميركا اللاتينية.
على هذا المنوال اتبعت الصين إستراتيجيات واستخدمت أدوات مختلفة تمامًا عن الحقبة السوفياتية، ولجأت للدبلوماسية والعلاقات التجارية المتشعبة لتضييق الخناق حول الولايات المتحدة في مناطق متفرقة من العالم.
الأكثر من ذلك أن الصين رسخت الاعتماد المتبادل بين اقتصادها واقتصاد واشنطن؛ بحيث لم يعد بالإمكان استغناء واحدة عن الأخرى، ولا أوضح على ذلك من كون بكين هي أكبر ممول لديون الولايات المتحدة، إذ يبلغ الدين الأميركي للصين 1.11 تريليون دولار، وفي المقابل لا يمكن للصين الاستغناء عن السوق الأميركي الكبير الذي يجذب نسبة ضخمة من منتجاتها.
والحال هكذا، لا يمكن تصوُّر نجاح سياسة الاحتواء مع الصين كما حدث مع الاتحاد السوفياتي، أو فرض عزلة عليها؛ لأن بكين فرضت نفسها باعتبارها الدولة التجارية الرائدة في العالم، وربطت نفسها بسلاسل توريد واسعة النطاق تضم آسيا، وأفريقيا، وأوروبا، وأميركا، بالإضافة إلى الطلب الكبير على المنتجات الصينية نظرًا لأسعارها التنافسية.
«فكرة خيالية» تداعب أحلام الإدارة الأميركية
إذا كان الأمر كذلك، فلماذا تصعّد واشنطن وبكين الصراع بينهما، ويباعدان الشقة دون تعلُّمٍ من دروس الماضي؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه العديد من قادة دول العالم، وليس فقط رئيس الوزراء السنغافوري الذي يأمل أن تسود الرؤى المؤيدة للهدوء والحكمة، رغم أنه ليس متأكدًا من حدوث ذلك؛ لأن «الرؤية المتطرفة التي ترى النزاع صراعًا بين نظامين، وحضارتين، تبدو سائدة في الوقت الحالي، وهذا مقلق جدًا»، من وجهة نظره.
و«هذا ليس صراعًا ينتهي بفائز واحدٍ، وخاسر واحد»، حتى ولو كانت هذه هي الفكرة التي صاغ على أساسها الرئيس الأميركي دونالد ترامب وحلفاؤه الصقور المواجهة مع الصين. ويبدو أن الحديث عن الانفصال بين الاقتصادين الأكبر في العالم، رغم خيالية الفكرة، يداعب أحلام الإدارة الأميركية. ويشجعها على ذلك أنه حتى في واشنطن المنقسمة، فإن كراهية الصين والحرص على كبح صعودها أصبح عاملًا مشتركًا بين الحزبين الديموقراطي والجمهوري.
لكن إذا كانت الولايات المتحدة لا تريد في الوقت الحالي اتباع سياسة الباب المفتوح مع الصين، فأين الجزء الخاص بها من العالم، ومن سيكون في صفها إذا سلكت هذا السبيل؟ الإجابة التي يعلمها لي هسين لونج هي أن «جميع شركاء الولايات المتحدة وحلفائها غارقون بشدة مع الصينيين؛ وبالتالي فإن إجبارهم على الانفصال عن بكين سيكون موقفًا إستراتيجيا صعبًا للغاية».
«لا ننوي خوض لعبة العروش على المسرح العالمي».. ولكن!
«ليس لدينا أي نية للعب لعبة العروش على المسرح العالمي»؛ هذا التصريح الذي أدلى به وزير الخارجية الصيني، وانج يي في، قبل أزمة كورونا جاء ممزوجًا بتحذير ترامب من اتباع سياسة «الضغوط المتزايدة».
وأضاف وانج يي في: «بعد 70 عامًا، من المهم بالنسبة للولايات المتحدة أن تتجنب خوض معركة قائمة على التضليل مع البلد الخطأ»، في إشارة إلى صراع نشب بين البلدين في عام 1949، مع تأسيس الجمهورية الشعبية الشيوعية، وأدى إلى نزع واشنطن اعترافها بالصين كدولة.
لكن ترامب قال ساعتها أمام الصحافيين: «أنتم تعلمون أنهم (الصينين) يرغبون في عقد اتفاق معنا، ويجب عليهم إبرام هذا الاتفاق. لكن السؤال هنا: هل نريد نحن إبرام اتفاق؟»، في إشارة إلى أن بلاده تملك اليد العليا في الصراع.
على هذا النحو، استمرت حرب التصريحات المتبادلة حول فرض تعريفات جمركية طيلة عام ونصف، وكلما ظهرت إرهاصات تبشر بقرب وضع الحرب أوزارها، عاود ترامب سكب المزيد من البنزين على النار، مثلما فعل على هامش الدورة السابقة لاجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة.
قال ترامب: «النموذج الاقتصادي لبكين يعتمد على حواجز جمركية ضخمة، وإعانات حكومية، وتلاعب بالعملة، وإغراق الأسواق بالمنتجات، والنقل القسري للتكنولوجيا، وسرقة حقوق الملكية الفكرية على نطاق واسع. الضغط الذي يضعه الصراع التجاري على الصين كلف بكين الكثير من الوظائف، وأرسل سلاسل الإمداد الصينية إلى الجحيم".
هذا هو المناخ الذي دفع كثيرين إلى وصف ما يجري بـ"الحرب الباردة الجديدة" بين أميركا والصين، وهو وصفٌ متفَهَّم. لكن إذا كان الصراع التجاري الحالي بين البلدين يحمل بعض ملامح "الحرب الباردة"، التي دارت بين عامي 1945 و1991، فإن الصين ليست الاتحاد السوفياتي؛ فالأولى تعلمت كثيرًا من درس سقوط الأخير، وأسست إستراتيجيتها الاقتصادية والسياسية على الدروس المستفادة منه.
بتوقيت بيروت