بدا المشهد أقرب إلى كوميديا سوداء تحمل بعضاً من ملامح العصور الوسطى: رجال وأطفال بضفائر طويلة يسعلون ويعطسون في وجه عناصر الشرطة، هاتفين "نازيون... نازيون". هذا ما نقلته فيديوهات نشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي من مستوطنة بني براك في فلسطين المحتلة، حيث يصر اليهود المتشددون على رفض اجراءات الوقاية التي أقرّتها السلطات في اسرائيل.
لم يكن هذا هو المشهد الوحيد المعبر عن مزاج التشدد في بني براك، فقد انشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي لقطات لجنازة الحاخام تسفي شنكار، رئيس “بيت ديفيد يشيفا”، والتي أقيمت في بني براك ليل 29 مارس/آذار، حيث رافق مئات من أعضاء الطائفة الأرثوذكسية، يتقدمهم عمدة الحي الاستيطاني المعترف به ابراهام روبنتشاين، الحاخام الراحل في رحلته الأخيرة، غير آبهين بتوجيهات وزارة الصحة بمنع مشاركة أكثر من عشر أشخاص في الجنازات في ضوء الجهود المبذولة لمكافحة الفيروس التاجي الجديد.
أضيف مشهد الجنازة إلى سلسلة من المشاهد عن سلوكيات المتدينين المتطرفين الذين واصلوا حضور الطقوس الدينية العامة وجلسات الدراسة على الرغم من التعليمات الصريحة التي تتعارض مع ذلك.
وتشير المعطيات الرسمية إلى أن الأحياء التي يقطنها المتشددون اليهود، ولا سيما في القدس الغربية المحتلة، تستحوذ على المرتبة الأولى في عدد المصابين بالفيروس، الذين تجاوز عددهم التسعة آلاف.
ووفقاً لمدير منظمة “مكابي” للصحة الدكتور ران ساعر فإن نحو 38 في المئة من سكان بني براك، التي تقيم فيها أغلبية من اليهود الحريديم، أصيبوا بفيروس كورونا، وهو عدد أعلى بكثير من العدد الحالي للحالات المؤكدة في المدينة.
وقد أشار ساعر، خلال مشاركته في الاجتماع الذي عقدته لجنة مكافحة فيروس “كورونا” في الكنيست الاسبوع الماضي، إلى أنه وفقاً لتوقعات منظمته، فإن بني براك التي يبلغ عدد سكانها 200.000 نسمة تأوي عشرات الآلاف من الحالات المخفية التي لم يتم تأكيدها من خلال الاختبارات.
ثمة أسباب كثيرة لفهم هذا الانتشار السريع لفيروس كورونا في بني براك، أهمها عدم الالتزام بالحد الأدنى من معايير الوقاية، لجهة التباعد الاجتماعي، بجانب الظروف المعيشية المزدحمة، وعدم تقبل سكان هذا المجتمع الديني المتطرف للمعايير العلمية، أو حتى عدم معرفتهم بها، ولو بالحد الأدنى، خصوصاً أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة استجابة لمطالبهم المتشددة، ومن بينها اعفاؤهم من التعليم الأساسي في الموضوعات التي تعتبر حاسمة لفهم تهديد “كوفيد-19”.
تلخص جيسيكا آبل في مقال نشرته صحيفة “هآرتس” الأمر على النحو التالي: “عندما يُقال لأناس يعتبرون قادتهم الدينيين معصومين عن الخطأ إن التوراة ستحميهم، وأن السلطات العلمانية نازية ومعادية للسامية، لن يكون هنالك من دافع للامتثال للأوامر، ويصبح من السهل الاستهانة بخطر الفيروس، طالما أن لا طريقة لديهم لفهمه”.
وتضيف “الناس الذين لا يعرفون أي علم، ليسوا مؤهلين لفهم خطر الفيروس، والشخص الذي لم يتعلم الرياضيات لا يمكن توقع فهمه للرسوم البيانية” حول مخاطر تفشي “كورونا”.
عوامل أخرى تجعل الأمور أسوأ، من بينها، على سبيل المثال، أن الحاخامات يمنعون مريديهم من امتلاك أجهزة التلفزيون والراديو. وفي حين يُسمح بشراء الهواتف المحمولة، إلا أن ثمة تحريم باستخدام تطبيقات الإنترنت والرسائل النصية، ما يعني أنّ معلومات الصحة العامة كانت بطيئة في الوصول.
علاوة على ما سبق، يميل اليهود المتطرفون إلى تأسيس عائلات كبيرة وغالباً ما يعيشون في أحياء ضيقة، وعلى هذا الأساس، يعد بني براك التجمع الأكثر ازدحاماً في إسرائيل، حيث تبلغ الكثافة السكانية فيه 27000 نسمة لكل كيلومتر مربع ، أي ثلاثة أضعاف الكثافة السكانية في تل أبيب.
لكن في النطاق الأوسع، فإنّ الحريديم تحوّلوا بالفعل إلى “دولة” لها قوانينها الخاصة، المستقاة من التعاليم التلمودية. ولم يعد خافياً أن هؤلاء باتوا يشكلون كتلة وازنة ومؤثرة في الحياة السياسية والاجتماعية في اسرائيل، بدليل انهم يتحملون بشكل أساسي المسؤولية عن الأزمات الحكومية، التي قادت الاسرائيليين ثلاث مرات إلى صناديق التصويت، كان آخرها مع بدايات زمن الكورونا.
ولعقود من الزمن سمح لليهود المتطرفين بإدارة شؤونهم الخاصة، وبتمويل حكومي. معظمهم لا يخدم في الجيش ولا يعمل.
حتى في ظل أزمة كورونا، فإن نفوذ الحريديم في السياسة الاسرائيلية يجعل القيادات السياسية في تل أبيب حريصة على مغازلتهم برغم سلوكياتهم تلك.
بالأمس، استهجن الرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريفلين، التصريحات التي وصفها بالقاسية ضد مجتمع المتدينين، قائلاً: “في هذا اليوم أريد أن أصرخ بصوت عالٍ، ضد الأصوات التي تهاجم مجتمع الحريديم”.
وأضاف الرئيس الإسرائيلي: “نحن إخوة، يجب علينا ألا نتهم جمهوراً أو آخر سدى على نشر مرض، وبالتأكيد يجب ألا نمس بجمهور كامل، بسبب أفعال أفراد، والتي تحدث في أي مجتمع”.
وعلى نفس المنال استنكر بنيامين نتنياهو التحريض ضد الحريديم، وقال: “أدين بشدة التحريض الشديد ضد مجتمع الحريديم، والذي فهم المخاطر وانصاع لتعليمات وزارة الصحة” وبرأيه، فإن “فيروس كورونا لا يميز بين حريديم وعلمانيين، بين عرب ويهود. هذه حربنا جميعاً، سننتصر بها سوية، أشد على أياديكم”.
اليوم، يبدي كثير من الإسرائيليين استياءهم من تصرفات الحريديم، الذين يتلقون، حصة كبيرة الإمدادات الطبية الخاصة بتفشي فيروس “كورونا”، بموازاة حصتهم الوازنة في نشر الوباء.
وبعدما بدأ معظم الإسرائيليين في تطبيق إجراءات التباعد الاجتماعي، بناء على طلب من الحكومة، استمرت الحياة كالمعتاد في المجتمعات الأرثوذكسية المتطرفة ، التي تحتفظ بدرجة كبيرة من الحكم الذاتي، فلم تتوقف دراسة التوراة والتلمود في المدارس الأرثوذكسية المتطرفة على الرغم من إغلاق بقية نظام التعليم الإسرائيلي في 12 آذار/مارس، واستمرت الصلوات في المعابد اليهودية المزدحمة، على الرغم من البيانات التي تبين أنها مراكز العدوى.
في الواقع، فإنّ بنيامين نتنياهو الذي يعتمد على دعم الأحزاب المتشددة، متردداً في إغلاق المعابد، ويضاف إلى ذلك أن يعقوب ليتسمان، وزير الصحة نفسه، ينتمي إلى تلك الفئة المتشددة، وهو يعتقد، مثل كل مريديها، بأنّ الفيروس التاجي سينتهي بتدخل “مسيحاني”، في وقت لا يبدو أن السلطات الإسرائيلية، بكل جبروتها الأمني والعسكري قادرة على لجمهم، إلا ضمن تسويات مع “حكمائهم”.
في الأول من نيسان/ابريل الحالي، قيد نتنياهو حركة التنقل منها وإليها، وأرسلت قوات من الشرطة والجيش إليها، لكنّ ذلك لم يكن ممكناً دون موافقة الحاخامات، الذين اقتنعوا في نهاية المطاف بالامتثال لأوامر الحكومة في البقاء في المنزل.
هكذا بدأت تعلو في شوارع بني براك وأزقتها دعوات عبر مكبرات الصوت تقول: “لا تقيموا الصلاة (الجماعية)! لا تجتمعوا للدراسة في المعابد والكنس! أي شخص يتحدى أوامر الأطباء والمسؤولين الصحيين للحماية من الفيروس التاجي يعتبر كما لو كان يتآمر على القتل ويجب عليك تسليمه إلى السلطات!” .
مع ذلك، فإنّ حالة الاستجابة قد تكون مؤقتة، فحتى الإجراءات الأخيرة تبدو بالنسبة إلى كثيرين مجرّد رضوخ لسلطة “علمانية”، وهو ما عبّر عنه أحد كبار السن من المتدينين، في اجتماع عام، حين قال “أنتم تطلبون منا أن نفعل كل شيء ضد ما يطلب منا حكماؤنا القيام به”.
هذا ما كشفته آليات تطبيق القرارات الحكومية بشأن فيروس كورونا في بني براك، والتي لم يكن ممكناً أن تدخل حيز التنفيذ دون تدخل مباشر من الجيش الإسرائيلي، وتحديداً من خلال وحدة خاصة يقودها الجنرال في الاحتياط روني نوما.
الجدير بالذكر أن نوما يوصف في الصحافة الإسرائيلية بأنه “جنرال الحصارات والإغلاقات”، بالنظر إلى دوره في إحكام الحصار على الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وبجانب دوره في فرض الحصار على محافظة الخليل بعد اختطاف ثلاثة مستوطنين عام 2014 عشية عدوان “الجرف الصامد”.
في موازاة ذلك، أقر نتنياهو، بعد مشاورات طارئة أمس مع قيادة الجيش ومجلس الأمن القومي، إجراءات خاصة لبني براك، أهمها تولي الجيش مسؤولية تقديم الخدمات المدنية أيضاً لسكان المدينة.
وبالرغم من أن هذه الإجراءات قد تمثل رادعاً لسلوكيات الحريديم، بدليل رضوخ الحاخامات لمنطق السلطات “العلمانية”، إلا أن الدور الذي يضطلع به الجيش والمؤسسة الأمنية في قيادة مواجهة جائحة كورونا، لا سيما في الأوساط المتشددة، يشي بأن الأمور في إسرائيل لم تعد تحت السيطرة، كما يدعي نتنياهو، وبأنّ السلطات الإسرائيلية مضطرة اليوم للتعامل مع “فيروسين”.
بتوقيت بيروت