زياد حافظ (*)
من المفيد استذكار السمات الرئيسية والتناقضات التي نتجت في الفكر النيوليبرالي وفي تطبيقاته، لاستخلاص مدى إمكانية استمرار تلك المنظومة في إدارة شؤون الدول. هذه الدول النيوليبرالية نجحت في مقاربة أزمة الرهونات العقارية في عام 2008، لكنها لم تتعلم وواصلت نفس السياسات العبثية من دون اتخاذ أي إجراءات للحدّ من الوقوع في مآزق مشابهة، بل وصلت مرحلة الإنكار والوقاحة إلى مكافأة المسؤولين عن الأزمة عبر المساعدات المالية الحكومية! تقدّر الخسائر التي يمكن أن تنتج من المخاطر التي تهدّد الأسواق المالية بأكثر من 2000 تريليون دولار. واليوم مع تفشّي "كورونا"، ظهرت التناقضات والإخفاقات بشكل واضح. هذه الحكومات النيوليبرالية وقعت بين مطرقة الوباء وخسارة الأرواح وبين سندان خسائر الأسواق المالية.
ـ الفكر النيوليبرالي يتظاهر بالتمسّك بالحرّية المطلقة للفرد. يزعم النيوليبراليون أن الحرّية تفجّر الطاقات وتحفّز التقدّم. والحرّية تنجرّ إلى التعامل بين الأفراد في أسواق "حرّة" يتنافسون فيها. أما هدف التنافس، فهو إلغاء المتنافسين الذي ينتهي دائماً إلى حالات احتكارية تخلق ندرة مصطنعة لتحقيق أرباح ربوية وريعية في آن واحد. هذا تناقض بين الفكر ونتيجة ممارسته.
ـ يدّعي الفكر النيوليبرالي تلازمه مع المشاركة أو الديموقراطية، بينما هو حذر جداً من المشاركة ويميل إلى الحكم التسلّطي. هنا يكمن تناقض كبير بين الادعاء بضرورة تراجع دور الدولة في الاقتصاد، وبين التعاطف مع الحكم التسلّطي الذي يكبح الميل للمساءلة والمحاسبة. فالدولة النيوليبرالية ليست دولة ديموقراطية كما يزعم مفكرّوها، بل ربما أقرب إلى الدولة الأمنية أو حتى الدكتاتورية.
ـ لا يقرّ الفكر النيوليبرالي بوجود مجتمعات، بل أفراد فقط، كما صرّحت مارغريت تاتشر. لذا ما يُسمّى المسؤولية الاجتماعية يصبح نوعاً من الهراء لأن ما يهمّ صاحب المشروع هو تأمين الربح، بحسب أحد كبار المفكّرين النيوليبراليين، ميلتون فريدمان. الإنسان ليس إلا مستهلكاً بغية إثراء منتجي السلع والخدمات. هذه النظرة تتطلّب تراجع تدخّل الدولة وتأمين حماية الملكية الخاصة قبل أي اعتبار، ولو على حساب "المجتمع". الفكر النيوليبرالي لا يقرّ بوجود مجتمع، ويريد الدولة فقط لتطبيق القانون الذي يحمي الملكية الخاصة. وهذه الاعتبارات عابرة للحدود. هو فكر يؤلّه السوق. سيادة السوق فوق سيادة الدولة والوطنية والقومية التي أصبحت مفاهيم أصابها التآكل في عالم معولم عبر التشابك والشبكات.
ـ المفهوم الطبقي عند النخب النيوليبرالية لم يعد مرتبطاً عضوياً بملكيّة وسائل الإنتاج والعلاقات المجتمعية الناتجة منها، بل بمفهوم يرى نفسه فوق الاعتبارات الأخرى من رجال مال وأعمال، ورجال دولة، ومفكّرين، وجامعيين، وإعلاميين يتحرّكون في فلك الدولة. فعلى سبيل المثال، وصفت هيلاري كلينتون أنصار منافسها دونالد ترامب بـ"البائسين" (deplorables)، أي الذين لا يفهمون قضايا الدولة وإدارتها. الإعلام الأميركي المملوك من 6 شركات، روّج لهذا الكلام واعتبر المنتفضين على النخب "بائسين". هذه النخب اعتبرت أنها مقيّدة بالدولة التي تصحّح التشوّهات الناتجة من إخفاقات السوق منذ الكساد الكبير في الثلاثينيات، وبعد الحرب العالمية الثانية التي دمرت أوروبا وأسقطت إمبراطورياتها القديمة. في الواقع، إن تدخّل الدولة في الاقتصاد أعاد بعضاً من التوازن والتماسك للمكوّنات الاجتماعية، لكن هذه النخب عدّته انتقاصاً من حقوقها ودورها وعملت على ترويج تدخّل الدولة في الحياة العامة عبر إعادة هندسة اجتماعية لمصلحة الطبقة الحاكمة والأثرياء.
ـ الفكر النيوليبرالي لا يرى ضرراً من تملّك فئة قليلة معظم الثروات. وكل ما يتعلق بالحفاظ على البيئة، لا يجب أن يترجم بقرارات تحدّ من حرّية المؤسّسات والشركات في استعمال الموارد الطبيعية كما تشاء وإن أدّت إلى تغييرات في المناخ، وتلوّث في الهواء والمياه. هو تكريس للداروينية الاجتماعية: القوي فقط يستحقّ البقاء. هكذا سعت النخب إلى تفكيك دولة الرعاية من ضمان صحّي إلى صناديق البطالة. وهذه الأخيرة مطلوبة لأنها تدعم استمرار الأجور والرواتب المتدنية. وهذه النخب شجّعت الهجرات الوافدة من دول الجنوب للعمل في دول الشمال، للقيام بالأعمال التي لا يريد السكان الأصليون القيام بها في الزراعة والبناء وسواها من أعمال متدنّية الأجر. في أيام الرخاء الاقتصادي، كانت تلك الهجرة مقبولة. أما أيام الضيق الاقتصادي، فالاحتكاكات العنصرية ضدّ المهاجرين الوافدين تتزايد وتنمّي الحركات الشعبوية التي يمثّلها ترامب.
ـ السمة السادسة والأكثر خطورة، استبدال النشاط المالي والنقدي بالنشاط الاقتصادي الفعلي. السياسات الماليّة اعتمدت التقشّف في مقابل التركيز على قوامة السياسات النقدية، لتصبح المؤسسات المالية هي العمود الفقري للنظام الرأسمالي. هذا الأخير انتقل من حلبة الإنتاج الفعلي للسلع والخدمات إلى إنتاج ثروة افتراضية مدعومة بسياسات نقدية ميسّرة (أي بفوائد متدنّية). أنتج ذلك انفصاماً بين السوق المالية والاقتصاد الفعلي. وطُبّق تصدير القواعد الإنتاجية إلى الدول الناشئة سعياً للربح في بيئات غير مقيّدة بقيود ناظمة. وتحوّل النظام المصرفي إلى نقطة ارتكاز؛ في الولايات المتحدة ألغي التنافس بين مكوّنات النظام المصرفي ليصبح محصوراً بمؤسسات قليلة (بنك أوف أميركا، ولز فارغو، سيتي غروب، بنك كورب، جي. بي. مورغان/شايز) ملكيتها تعود لعدد أقلّ (فانغرد غروب، ستيت ستريت كوربوريشن، بلاك روك، أف-ام-ار). كما أن بنك الاحتياط الاتحادي، الذي يقوم بمهام المصرف المركزي، مملوك بشكل غير مباشر من مصارف خاصة مثل مجموعة روتشيلد (فرنسا وبريطانيا العظمى)، وبنك ميلون، عائلة روكفلر، عائلة واربورغ، غولدمان ساكس، عائلة لازار (باريس)، عائلة إسرائيل موسى سيف (روما). نرى مدى التمركز في القطاع المصرفي الأميركي وامتداداته الأوروبية.
هل يواصل الفكر النيوليبرالي التحكّم في إدارة الشأن العام في الدول الواقعة تحت سيطرة الولايات المتحدة؟ أوروبا ما زالت تقاوم تفكيك دولة الرعاية بسبب قوّة النقابات العمّالية التي تتجذّر فيها ثقافة التكافل الاجتماعي. النيوليبرالية نجحت في تفكيك نفوذ النقابات في بريطانيا، في ظل مارغريت تاتشر وطوني بلير، إلا أن باقي الدول الأوروبية تقاوم رغم وصول بعض النخب النيوليبرالية إلى السلطة، كساركوزي وماكرون في فرنسا وأنجيلا ميركل في ألمانيا.
استطاعت هذه النخب مقاربة أزمة الرهونات العقارية كأول امتحان جدّي لمنظومتها، إلا أنها لم تستوعب الدروس ولم تتّعظ من المخاطر التي أصابت البنى الاقتصادية في بلادها، حيث أصبح التركيز على الأسواق المالية، ولم تتخذ إجراءات للحدّ من الوقوع في مآزق مشابهة، بل وصلت مرحلة الإنكار والوقاحة إلى مكافأة المسؤولين عن الأزمة عبر المساعدات المالية الحكومية! تقدّر الخسائر التي يمكن أن تنتج من المخاطر التي تهدّد الأسواق المالية بأكثر من 2000 تريليون دولار!
كذلك ازداد الانفصام بين الجمهور والنخب الحاكمة. فعلى سبيل المثال، كانت الانتخابات الأميركية في 2016 "احتجاجية" على النخب إلى أوصلت دونالد ترامب إلى الرئاسة وسلوكه الذي أسهم في تعرية عيوب النظام النيوليبرالي الذي استفاد منه هو شخصياً وعائلته. لكن الصراع بين الكونغرس النيوليبرالي والإعلام الشركاتي من جهة، وبين وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية غير الخاضعة للنخب، كشف عن مستوى الفجوة بين النخب والقاعدة. هكذا عطلت التشريعات وفُرّغت مؤسسات الدولة وفُكّكت المؤسسات الحكومية المنشأة لمواجهة الكوارث الطبيعية أو الإنسانية، وبات المسرح مهيأً لتفشّي وباء الكورونا.
مع تفشّي "كورونا"، ظهرت التناقضات والإخفاقات بشكل واضح وأشدّ في الدول التي تمارس النهج النيوليبرالي. الوباء كشف عقم الفكر النيوليبرالي الذي جعل سيادة السوق فوق سلامة الإنسان. الحكومات النيوليبرالية وقعت بين مطرقة الوباء وخسارة الأرواح، وبين سندان خسائر الأسواق المالية. هذه الأسواق تحوّلت إلى معيار النجاح، بينما أصبح الاقتصاد الفعلي الذي يشمل قطاعات الصناع والزراع والسياح والإعمار والبنى التحتية، نوعاً من العبء الذي يجب تحمّله في سبيل استمرار سيادة الأسواق المالية. المعونات المالية الحكومية موجّهة لمساعدة المؤسّسات المالية وليس لتحفيز الاقتصاد. صحيح أن بعض هذه المساعدات قد تصيب القطاعات الإنتاجية، لكن حصّة الأسد للمؤسسات المالية كما حصل بعد الأزمة المالية عام 2008.
مثال واحد قد يكون كافياً لإعطاء الأولوية لمصالح الشركات في الحكومات النيوليبرالية. ثمة فضيحة تعصف بفرنسا في تعاطيها مع أحد أبرز أطبائها، ديديي راولت، الذي اقترح دواء الكلوروكين مع مضادّ حيوي لا يكلّف أكثر من 20 يورو لمدّة العلاج. الحكومة الفرنسية عبر وزيرة الصحة المتزوّجة بأحد كبار المستثمرين في شركات تصنيع الأدوية إيفون ليفي (هو افتتح المختبر الفرنسي الصيني في مدينة ووهان في أيلول 2019 والذي تسرّب منه فيروس كورونا)، عرقلت وطمست الاقتراح، ثم عمدت إلى شيطنة الطبيب. الشركات الفرنسية المنتجة لعقاقير يمكن استعمالها في مواجهة الوباء قد يصل سعر بعضها إلى أكثر من 8 آلاف يورو، بينما اقتراح الكلوروكين المذكور لا يتجاوز 20 يورو للعلاج الكامل. في المقابل، وبعد فترة من التشكيك، بدأت الولايات المتحدة استيراد الكلوروكين. المهم أن شركات الأدوية الكبيرة حاولت منع الحلول غير المكلفة لأن الوباء فرصة لجني أرباح غير طبيعية. نشرت على وسائل التواصل الاجتماعي فيديوات عدّة تفضح العلاقة بين شركات الأدوية والمستثمرين فيها مثل بيل غيتس. قد تكون الأوبئة مصطنعة لتحقيق الأرباح بالتواطؤ بين الحكومات النيوليبرالية والمستثمرين الكبار الذين يدّعون العمل الخيري.
مفاهيم قيد البحث
النخب الحاكمة في الأنظمة النيوليبرالية لم تتعلّم من التجارب السابقة، بل استمرّت في نفس السياسات العبثية التي أصبحت تهدّد بشكل مباشر تماسك المجتمعات القائمة في تلك الأنظمة. لا يجب أن نستغرب أن وباء كورونا سيفرض مراجعة جذرية في الدول التي ينتشر فيها. العديد من المفاهيم أصبحت قيد البحث كسيادة السوق على سيادة الدولة، أو النظرة للإنسان كشيء ليس أكثر من مستهلك، أو إلى ضرورة تفكيك المنظومات الاحتكارية التي نشأت بسبب تلك السياسات، أو إلى إعادة الاعتبار للأولويات الوطنية، بما فيها الهوية والثقافة، أي إلى كبح موجة العولمة التي كادت تقضي على هوية الناس وتحويلهم إلى مستهلكين فقط.
النظام النيوليبرالي بقيادة الولايات المتحدة أصبح على المحكّ. فإهمال البنى التحتية لتلك الدول وخاصة البنى التحتية العائدة للقطاع الصحّي كان السبب المباشر لتفشّي الوباء والعجز في مواجهته ومعالجة المصابين. فالقطاع الصحي الذي تم ترويج خصخصته لم يكن في يوم من الأيام مؤهلاً ومستعدّاً لمواجهة أوبئة بالشكل الذي حصل حتى بعد ظهور أوبئة مماثلة منذ بداية الألفية. كلفة التحضير لتلك المواجهات أكبر من قدرات القطاع الخاص الذي همّه الأوّل والأخير الربح وإن كان على حساب الصحّة العامة.
فهل تستطيع النخب النيوليبرالية تخطّي ذلك الامتحان الكبير؟ الفكر النيوليبرالي والنظام الناتج منه سقط على الأقل على الصعيد الفكري وحتى على الصعيد العملي. لكن الإقرار بذلك لم يحصل عند النخب النيوليبرالية. فالظروف الموضوعية التي ساهمت في نمو وانتشار الفكر والمنظومة النيوليبرالية خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وانحسار المعسكر الاشتراكي لم تعد قائمة. وفي ظل انفراد الولايات المتحدة في التحكّم بالقرارات الدولية، استطاعت المنظومة النيوليبرالية الانتشار في عالم معولم. لكن مع صعود الكتلة الأوراسية بقيادة روسيا والصين تغيّرت موازين القوّة التي ستنعكس على مستقبل النيوليبرالية وإن كانت هاتان الدولتان تمارسان نمطاً من النيوليبرالية مع ضوابط لها. في ظل وجود دولة قوية تخطّط وترسم المسار وليس عبر قوانين السوق تستطيع تلك الكتلة الصاعدة إبراز نموذج مختلف عن النموذج النيوليبرالي الغربي.
لكن في الغرب، في ظل غياب مشروع آخر، وغياب قيادات ذي صدقية وفعّالية، يصعب أن دفع النخب الحاكمة إلى تغيير سلوكها إلا تحت الإكراه. حتى الساعة ليس في الأفق ما يبشّر بذلك، وإن كان العالم بعد كورونا غير ما قبله. نموذج الصين وكوبا وكوريا ما زال تحت نار التشكيك والشيطنة في الإعلام المهيمن في الغرب، ومن المبكر توقّع أي تغيير وإن كنّا واثقين أنه آت رغم كل شيء، لكن ربما ليس بالسرعة التي نتمنىّ.
* كاتب اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي
بتوقيت بيروت