بموازاة الاعلان عن أنّ جائحة كورونا أسقطت كثيراً من الأقنعة عالمياً، فهي عزّزت -إعلامِيّاً- عنصرية يمارسها الإسرائيليون ضد بعضهم بعضاً.. فالعلماني والوسطي والقومي ضد المتديّن. لعلّ "بني براك" مدينة اليهود المتشددين الواقعة شرق تل أبيب تُلخّص القصّة.
مدينة المتزمّتين تلك، تمّ إخضاعها عُنوةً لاغلاق تام منذ الخميس الماضي إثر إصابة عشرات الآلاف بما يعادل ثلاثين بالمئة من سكان المدينة بفيروس "كورونا".. بعد موجة من انتقادات شديدة وجهها الاعلام العبري للبلدة المتديّنة بسبب عدم التزامها بتدابير مواجهة تفشي كورونا في إسرائيل.
الشرارة انطلقت عندما شارك متدينو "بني براك" في جنازة أحد كبار الحاخامات و أدوا صلوات جماعية رغماً عن تعليمات حكومتهم.. لتبدأ بعدها عملية الجلد الإعلامي للجماعات الدينية المتشددة التي تتعامل وكأنها دولة بحد ذاتها: لقد عَلا خطاب "الكراهية" بين يهود إسرائيل.
معالجات إعلامية إسرائيلية ذهبت إلى ابعد من ذلك، حينما قالت إن عدم التزام اليهود المتشددين بإجراءات منع تفشي كورونا ليس بسبب جهل أو عدم دراية، وإنما لأنهم "يكرهون إسرائيل ونكاية بها".. وسلطت صحيفة "هآرتس" الضوء على حديث غاضِب لأحد وجهاء اليهود المتشددين، اعتبر فيه أن الحكومة الإسرائيلية تجرأت على إغلاق مدينة "بني براك" بعد حملة عنصرية قادها الإعلام ضدها.
شعور الحريديم بعنصرية ضدهم، دفعهم لتوجيه لوم الى جميع المستويات الإعلامية والحكومية، عبر القول: "لو كانت بني براك مدينة علمانية لَما كانوا قد فرضوا عليها الإغلاق التام بهذا الشكل".
والواقع، أن ما قاله رجل الدين اليهودي "الحريدي" يُعرّي مشاعر تقليدية اصلاً من قبل اطياف إسرائيلية تكرهُ هذه الجماعات المتدينة، من منطلق "أن هؤلاء اليهود المتشددين عالة على إسرائيل، فهم لا يعملون ولا يخدمون في الجيش.. باختصار هذه الفئة غير منتجة". ربما هذا الأمر سهّل على نتنياهو أن يتخذ- دون ترد- قرارا بإغلاق المدينة المتشددة؛ ذلك أن الخطوة لن تؤدي لأي خسارة مالية لإسرائيل.
وبينما يفكر نتنياهو بفرض سيناريو الاغلاق التام على أحياء يهودية متشددة أيضاً في القدس المحتلة، يبدو مترددا جداً في اتخاذ قرار بالإغلاق التام في عموم الدولة العبرية؛ لأن هذا يعني خسارة إقتصادية تبلغ ثمانين مليون دولار شهرياً.. إذاً، هو يقيسها بالربح والخسارة، وليس فقط من باب أن اليهود المتشددين "الحريديم" باتوا موبوئين.
تعكس حملة الاعلام العبري ضد "بني براك" منذ أيام حجم اللغط المتصاعد الذي تشهده إسرائيل بسبب بطء مجتمعات اليهود المتشددين في تنفيذ التدابير الحكومية التي تستهدف الحدّ من تفشّي فيروس كورونا.. ونرى في اليوم الرابع لإغلاق "بني براك" وقد نشر الإعلام العبري خبرا مفاده أن الشرطة الإسرائيلية فضت تجمعاً لليهود المتدينين في أحد أحياء القدس المحتلة؛ لأنهم تمرّدوا على أوامر الحكومة وكانوا يهمون لأداء صلواتهم التلمودية جماعةً.
وراحت صحيفة "معاريف" إلى مقاربة رقمية كي تثبت خلل الإجراءات في المجتمعات المتدينة، مبينة أن أكثر من ثلث حالات الإصابة بالكورونا التي اكتشفت في اليوم الأخير في الدولة العبرية كانت بسبب تجمعات المتدينين.. بينما انتقد موقع "واللا" الإلكتروني سلوكيات المتشددين، بعنوان مفاده "يبصقون ويتهمون منتقديهم بالنازية: هكذا يتصرف المتدينون الرافضون للالتزام بالتعليمات".
اللافت أنّ قصة "المتشددين" الذين يعيشون ضمن عائلات كُبرى في أحياء مزدحمة لم تنحصر في نطاق الإعلام الإسرائيلي فحسب، بل كانت خبراً "كورونياً" لهيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، حيث عنونت على موقعها: "إسرائيل تغلق بلدة بني براك لليهود المتشددين بعد تفشي كورونا بين سكانها".
وتشرح "بي بي سي" عن هذه التجمعات قائلة: "لأسباب دينية، يُحجم هؤلاء عن تصفح مواقع التواصل الاجتماعي إلا في نطاق ضيق، فضلاً أن بعضهم لا يزال يقيم الصلوات في تجمعات رغم الحظر المفروض".
بيدَ أنّ نتنياهو كعادته، يحاولُ إخفاء تمرد هؤلاء اليهود المتشددين أمام العالم كي لا تتم مساواتهم ب"المتشددين المسلمين"، فزعم قبل ثلاثة أيام أن هناك "تحولا إيجابيا كبيرا" في توجهات المتدينين في ما يتعلق بالتعامل الجدّي مع الفيروس..
الواقع أن نتنياهو يسعى يائسا بهذا التصريح أيضاً أن يسكت ضجيجاً يعلو في إسرائيل بسبب عدم التزام وزير الصحة المُصاب بكورونا يعقوب ليتسمان القادم من حزب يهدوت هتوراه "الحريدي المتشدد". وكثيرا ما تم انتقاد ليتسمان (71 عاماً) باعتباره وضع مصالح اليهود الحريديم فوق مصلحة الجمهور العام في تعامله مع مكافحة الوباء. واتُّهم ليتسمان بأنه ضغط من أجل تأخير القيود الصارمة على التجمعات العامة خلال عيد البوريم "المساخر" اليهودي الشهر الفائت، وحارب بشدة إغلاق دور العبادة اليهودية.
في المقابل، عملت الصحيفة المقربة من نتنياهو "إسرائيل اليوم"، على عقد مُقاربة لا تخلو من الدعاية المضادة بين مدينة "بني براك" اليهودية المتشددة والقدس الشرقية التي يسكنها فلسطينيون وأيضاً يهود متشددون.. فالصحيفة أرادت من مقالها بعنوان "القدس الشرقية موبوءة" أن تزعم أن المشكلة لا تقتصر فقط على الأحياء اليهودية المتدينة والمتشددة، بل تطاول مناطق أخرى وسكاناً عرباً ايضاً، في محاولة منها لإطفاء نار "الحملة الإعلامية" ضد "الحريديم".
بالمحصلة، تحولت التغطية الإعلامية في إسرائيل من التعبئة ضد "الحريديم" إلى أسلوب "الشّماتة الضمنية" بعد اخضاع "بني براك" للاغلاق وربما المزيد من الأحياء اليهودية المتشددة لاحقاً.. وقد تجلى هذا باستخدام عناوين من قبيل "تشديد إجراءات الدخول والخروج من وإلى بني براك، ومن يخرج من البيت ملزم بالكمامة".. وعنوان آخر "قلق في بني براك، آلاف السكان ستجرى لهم فحوص"، ومروراً بعنوان "بني براك قسمت لأجزاء، والجيش مسؤول عن مساعدة السكان".
وذهبت قناة "11" إلى الحديث عن يهود "بني براك" المصابين بكورونا كحقل لاختبار علاج حمى النيل وللمرّة الأولى خلال الأيام القليلة القادمة؛ بغية معرفة مدى نجاعته في علاج المرض، إذ سيُجرَّب على خمسة وعشرين مصاباً بالفيروس من بني براك حيث يرقدون في مستشفى "معينيه هشوعاه"، بينهم ثماني حالات خطيرة.
المصدر: المدن
بتوقيت بيروت