د. محمد محسن(*(
بعدما نجح فيروس «كوفيد ـــ 19» في حربه النفسية وفرض أجندته على الشعوب والدول في العالم، رغم التفنّن في أشكال المقاومة البشرية له، حتى في المرحلة الأخيرة والتي تُعتبر مرحلة ما بعد انتشار الوباء عالمياً، سنكتشف لاحقاً أنه خطّط جيداً لهذه المرحلة الصعبة والمهمة في حياة البشر. عندها، سندرك أن الضربات العسكرية القاتلة والاستعانة بالطابور الخامس في الداخل، وتوسعة مسرح العمليات تدريجياً، والتسلسل في استخدام أنواع الأسلحة بحسب قوة الدفاعات البشرية، ما هي إلا محطات إلزامية للولوج إلى مرحلة الفوضى والانهيار والمعاناة الطويلة الأمد.
نحن البشر لا بدّ لنا أن نعترف بقدراته الخفية والمعلنة وبأفكاره الإستراتيجية، وما بعد الإستراتيجية. أنا شخصياً كواحد من سكان هذه الأرض الطيبة، والتي أسأنا إليها كثيراً وأفسدناها في البر والبحر والسماء، لا أحب هذا الفيروس المتعجرف رغم إعجابي الشديد به لما يملك من فكر ثاقب ونظام صارم وتنفيذ مبرمج، فهو لم يترك لا صغيرة ولا كبيرة إلا أخضعها للمحاكاة قبل التنفيذ، وأخضعها لمصفوفات حسابية رياضية وأدخلها في برامجه الحاسوبية، عندها تيقّن أنه سينجح في أداء مهامه على أكمل وجه. صحيح أنه مهّد للغزو وللحرب، عبر استنزاف كل مراحل التفكير المسبق، مستعيناً بالأبواق التي قلّلت من خطره وانتشاره، وصحيح أنه خصّص وقتاً ثميناً للقتل المنهجي لكل الفئات العمرية والجندرية في المجتمع، إلا أنه توقّف ملياً عند مرحلة ما بعد محاولات القتل والإبادة الجماعية للبشر في المدن والشوارع والأزقة والمستشفيات وغرفها وممراتها والفنادق ومراكز التسوّق المجهّزة للموت والحجر الصحي.
إنها مرحلة تداعيات الحرب الكونية للجائحة «كورونا»، حيث تشكل العناية المرجوّة لكل مشروعها العسكري والنفسي، وهي المرحلة الأخطر لأنها ستواجه نتائج مفاهيم الحروب العسكرية لأهداف نفسية، والتي يمكن أن تصيب المجتمعات والدول بصدمات نفسية تعيق من تقدمها هذا، إذا لم تعدها سنوات إلى الوراء. هذا الفيروس الكوني غير المرئي سيضحّي بمليارات الفيروسات المقاتلة على الأرض، وفي الأجسام البشرية، ولكنّه سيحتفظ بالجائحات الذكية أصحاب الاختصاص ممّن لديهم تخصّصات دقيقة في علم الإنسان، وممن يملكون آي كيو (IQ) مرتفعاً، وسيختار كبيرهم القادة العسكريين الذين خاضوا بشجاعة وقساوة وقلّة شرف الحرب ضد الإنسانية.
سيختبئون في مقرّاتهم السرية، ويراقبون عبر المناظير الإلكترونية المتطورة وصور الساتيلات والاستشعار عن بعد وأجهزة التنصّت والرادارات الحديثة، كيف سيتعامل بنو البشر مع الخسائر الفادحة التي تكبّدوها، وكيف سينهضون من جديد مثل طائر الفينيق. خسر «كوفيد ـــ 19» الانتصار الساحق، ولكنه أوجع كثيراً التجمّعات البشرية وأربك الحكومات والسياسيين، ودمّر الاقتصاد، وسبّب البطالة وشلّ عمل المؤسسات بأنواعها كافةً.
إدارة الأزمات
درس «كوفيد ــ 19» علم إدارة الأزمات الذي لم يلحظ كثيراً علم انتشار الأوبئة والأمراض، ولكنه لحظها أكثر من باب الكوارث الطبيعية أو البيئية. لذلك، عمل على اتّباع الإجراءات المتّبعة نفسها في هذه الأزمات في مختلف مراحلها: قبل وأثناء وما بعد الأزمة. ما يهمنا، الآن، هي مرحلة ما بعد الأزمة، فبعدما حقّق مبتغاه في خلق الفوضى في المجتمع وإلحاق الضرر الكبير في النظم والصحة والاقتصاد والحياة السياسية والبرلمانية، وفي عمل المؤسسات التربوية والشركات والمصانع، وحتى في طبيعة العلاقة بين أبناء البشر أنفسهم، عليه التركيز على المرحلة الأقرب إلى قلبه وهي مرحلة الانهيار والركود.
في تجربة الحروب، كالحرب العالمية الثانية وحرب فيتنام والغزو الأميركي للعراق عام 2003 والحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006، رغم أنها ذات طبيعة مختلفة، ولكن ممكن الاستفادة من دروسها وعِبرها. فمرحلة ما بعد الحرب، لا تقلّ صعوبة عن مرحلة الحرب، حيث يجب معالجة النتائج الكارثية لأعمال القتل والتدمير والتخريب وانهيار المؤسسات والأزمات النفسية، التي يمكن أن تبقى طويلاً في لا وعي الناس، ما يشكّل إعاقة في العودة إلى الحياة الهادئة والهانئة والمستقرّة، هذا إذا ما انتهى كلياً خطر اندلاع الحرب مرة جديدة. هي مرحلة مدى جهوزية الدول لمواجهة الأخطار.
هل خططها في ما يتعلق بإدارة الأزمة شاملة ومحيطة بكل ما يمكن أن يستجدّ؟ وهل الإجراءات المتبعة كافية للتعامل معها؟ وهل المسؤولون في الدولة كانوا على جهوزية عالية للمتابعة ومواكبة التطورات وإعطاء التعليمات الضرورية؟ وهل التجهيزات العسكرية والطبية والمدنية واللوجستية كافية؟ ماذا عن الموارد البشرية؟ هل هي مدرّبة تدريباً متخصّصاً وفاعلاً، للمشاركة في إنقاذ الناس ومعالجة مشاكلهم في المرحلة اللاحقة؟ هذه الأسئلة كلّها مشروعة في خضمّ التعامل مع أزمة «كوفيد ـــ 19»، وبالأخص مساءلة طبيعة العلاقة التي تحكم صانعي القرار السياسي مع القائمين على إدارة الأزمة. فأصحاب القرار هم، في النهاية، من يتحمّلون نتائج القصور أو التقصير في التعامل مع الأزمات.
«كوفيد ــ 19»، هو وقيادة أركانه، يدركون جيداً طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بعدما أخضعوا الشعوب، على مدى سنوات طويلة، للرصد العلمي للعقل والسلوك.
لقد صرفوا الكثير من الموازنات المالية على الدراسات التي تشرح طبيعة العلاقة بين الطبقة السياسية والمواطنين، كالانتخابات البرلمانية والممارسات الديمقراطية والتوتاليتارية في الدول المستهدفة. وهذا لأنّهم لم يبدؤوا الحرب أصلاً، إلا بعدما تأكدوا أن المرحلة الأخيرة هي المرحلة الأصعب والأشد. حينها، ستدرك الحكومات والمجتمعات البشرية، أنّ الذي حصل معها لن يقف عند هذا الحدّ، بل ستكون له تداعيات كثيرة، على مستوى النظم السياسية والعلاقات الدولية والتحالفات الدولية والإقليمية، وعمل البنك الدولي والمنظمات العالمية، وسينشغل البشر كثيراً في إعادة بناء وترميم ما تهدّم في تلك الحرب المميتة.
جبهة القطاع الصحي
«كوفيد-19»، سيغيّر مفهومنا للجيوش في العالم وللعمل العسكري التقليدي، حيث ستعجز الطائرات الحربية والدبابات والمدفعية والأسلحة النووية عن مواجهة هذا الخطر المباشر، وسيقتصر دور الجيوش النظامية على مواكبة خطط الطوارئ والتعبئة العامة والمحافظة على النظام العام والخوض في الأمور الكلاسيكية للحروب. سيفرض ذلك علينا التفكير عميقاً في مفهوم الخطوط الأمامية للمواجهة مع العدو، ومن سيحلّ مكان القوة العسكرية في أنماط وأساليب المواجهة الجديدة. حتماً، الأطباء والممرضات والصيادلة وكل القطاع الصحي وعلماء المناعة والوقاية، سيكون لهم شرف التصدّي والمواجهة، لأنهم الأقدر على خلق استراتيجية دفاعية جديدة، وإلحاق الخسائر الجسيمة بالعدو، والإبقاء على الجبهة الداخلية متماسكة وسليمة، لمنع الانهيار وإن كان على حساب صحتهم وسلامتهم.
العدو «كورونا» كشف لنا عن هشاشة أنظمتنا الصحية في مواجهة الأزمات العالمية وهذا يستدعي من الحكومات أن تعيد النظر في البراديم السائد وتعمل على قوانين وتشريعات جديدة وتبني مؤسسات قادرة على المواجهة الاستراتيجية ولفترة زمنية طويلة. وعليها الانتقال إلى تكنولوجيا المعلومات في المجال الطبي بما فيها تعزيز الإعلام الطبي عبر التلفزيون والإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.
الأثر النفسي
قبل غزو الكرة الأرضية، نظّم «كوفيد ـــ 19» حلقات بحثية ومؤتمرات حول الآثار الاجتماعية لمرحلة ما بعد الأزمة، وكيف ستساهم القوة التدميرية لأمراض نفسية في إجبار الناس على تغيير أفكارهم وعاداتهم وسلوكهم. جمع العديد من علماء العلوم الإنسانية والاجتماعية، العاملين في جامعات ومراكز أبحاث عالم الفيروس الخفي، وخلصوا إلى النتيجة التي تقول علينا تشكيل صدمة للمجتمعات البشرية تستمرّ لسنوات، وهذه الصدمة يجب أن تترافق مع الشعور بالقلق والخوف واللّااستقرار لفترة طويلة: انضم إلى هؤلاء العلماء قادة عسكريون فيروسيون، أصحاب خبرة في حروب العالم، وطلبوا منهم استخدام أقصى درجات العنف والقتل والتدمير والتشريد والتهجير، لكي تكتمل عملية كيّ الوعي للعنصر البشري، كي لا تقوم له قائمة بعد اليوم.
انصاع الجميع للخطة، وستَظهر لاحقاً بعد الانتهاء من مسرح العمليات الميدانية، فوضى في العلاقات الدولية، وخللٌ في الأنظمة الاجتماعية، ودمار في البنى التحتية. وسوف يبتعد الناس عن بعضهم البعض ويلجؤون إلى العزلة، وسينصرفون أكثر إلى وسائل التواصل الاجتماعي لتفقّد الأقارب وتقديم واجب العزاء، والمشاركة الافتراضية في المناسبات الاجتماعية والمناسبات الأكاديمية والتربوية. وسيؤثر عليهم مفهوم «التباعد الاجتماعي» (Social distancing) لفترة طويلة، وستتكيّف البشرية مع الاعتزال والحجر، خوفاً من موجة ثانية تضرب الكرة الأرضية مجدّداً.
الألم الجماعي لمرحلة ما بعد الصدمة، سيكبر مثل كرة الثلج، وإن لم تبادر الحكومات والجامعات ومراكز الأبحاث ومراكز العلاج النفسي، من الآن، إلى تخفيف الآثار النفسية على الأفراد، وعلى الجماعات، ضمن خطط قصيرة وطويلة الأمد، سوف نتحول إلى مجتمعات مريضة، وستزداد الهوة بين من يخضع للعلاج وينجو، وبين من لا يخضع، وبالتالي بين من يملك ومن لا يملك. وسيتفاقم الأمر لدى هذا الفرد الكوني، عندما يحصل الركود الاقتصادي الكبير، كما حصل سابقاً بعد الحرب العالمية الثانية. سوف يفقد الكثيرون وظائفهم، وسوف تشحّ المصادر المالية وتهبط أسعار البورصة والنفط، وسوف يعاد النظر في النظريات الاقتصادية القائمة، حالياً، في المجتمعات الليبرالية، وسوف يكتشف الخبراء أنّ الأدوار التي يمكن أن يلعبها القطاع العام، هي أهم وأدوم من الأدوار التي يلعبها القطاع الخاص. خلاص البشر، هو أن يكونوا تحت رحمة حكوماتهم القوية والعادلة، لا تحت رحمة الشركات الرأسمالية الاحتكارية العابرة للقارات، وسوف يحاول العقل البشري طرح نظريات ومقاربات جديدة في الاقتصاد والسياسة والتربية والعلاقات الدولية.
الديكتاتور التاسع عشر
سيجلس كبير الفيروسيين الإمبراطور «كوفيد التاسع عشر» على كرسي عرشه، كالطاووس مزهوّاً بما حقّقه من قتل ودمار وخراب وفوضى، آملاً في أن تموت الحياة، رويداً رويداً، على كوكب الأرض، ومخاطباً بني البشر بأنّه لن ييأس من هزيمته المؤقّتة ومتوعّداً الناس، هذا الديكتاتور العنيد والظالم، بأنّه سوف يضرب ثانيةً، عندما تسكن آلامهم وتعود الدول والمجتمعات إلى طبيعتها الأنانية غير المتعاونة بالمستويات المطلوبة، وتنسى أنه في يوم من الأيام من عام 2020، ضربها وباء قاتل، أماتها لفترة (أحياها)، ثم أجهزت على نفسها (فشلت في التخفيف من آثار التداعيات).
* عميد المعهد العالي للدكتوراه في الآداب والعلوم الانسانية والاجتماعية - الجامعة اللبنانية
المصدر: الاخبار
بتوقيت بيروت