يرتفع منسوب المشاكل التي تواجه النظام السياسي للولايات المتحدة الاميركية داخليًا وخارجيًا، وتكبر علامات الاستفهام وتكثر حول مآلات هذا النظام، وكل ما كان حلولا لمشاكل عند التأسيس يتحول مع مرور الزمن الى مشاكل وتزداد عمقاً ويضاف اليها مشاكل جديدة يعتبرها كتَّاب ومفكرون اميركيون انها باتت تهدد وحدة البلاد والنظام برمته..
وفي هذا الاطار كتب لي دروتمان*، مؤلف كتاب «كسر الحلقة المفرغة لنظام الحزبين» مقالًا في صحيفة «ذي أتلانتك» الاميركية، افتتحه بمقولة جون آدامز، الرئيس الثاني للولايات المتحدة الاميركية، التي أعرب فيها عن قلقه «من أن انقسام جمهورية الولايات المتحدة الاميركية إلى حزبين كبيرين أمر يُخشى منه بوصفه شرًّا سياسيًّا عظيمًا»، وهو بالضبط ما حدث، وفقًا للكاتب.
يذكرنا الكاتب بخطاب الوداع الذي ألقاه جورج واشنطن، أول رئيس للولايات المتحدة الاميركية وأحد الآباء المؤسسين للدستور الاميركي، والذي حذر فيه من حالة التحزّب المفرطة، والتي يُقصد بها: «الهيمنة غير العادية لفصيل على آخر، المشحوذة بروح الانتقام، مما يُعد أمرًا طبيعيًّا في حالة الخلاف الحزبي، المسؤولة في مختلف العصور والبلدان عن ارتكاب أبشع الفظائع، وهو الأمر ذاته الذي يُعد استبدادًا مخيفًا».
وعبر آدامز، خليفة واشنطن، عن قلقه على نحو مماثل من أن «انقسام الجمهورية إلى حزبين كبيرين.. يجب أن يُخشى منه بوصفه شرًّا سياسيًّا عظيمًا".
ويضيف الكاتب أن اميركا باتت الآن تلك الجمهورية المنقسمة المفزعة. وأن الخطر الوجودي أصبح متوقعًا، ويدمر نظام الحكم الذي أرساه المؤسسون مع الدستور.
ورغم أن نظام الحزبين في اميركا يعود تاريخه إلى قرون، فإن التهديد الراهن جديد ومختلف؛ لأن الطرفين أصبحا الآن متمايزين حقًّا، وهو تطور يرجع تاريخه إلى انتخابات التجديد النصفي عام 2010. فحتى ذلك الحين، كان الحزبان يتمتعان بعدد كافٍ من التداخلات المتنوعة داخلهما بحيث يمكن لنوع من المساومة وبناء التحالفات الشائع في النظام الديموقراطي متعدد الأحزاب أن يعمل داخل نظام الحزبين. لكن هذا الوضع لم يعد قائمًا، فاميركا لديها الآن حزبان فقط، وهذا كل ما في الأمر.
التعلم من التاريخ وعدم تكرار أخطائه
ويوضح الكاتب أن النظرية التي وجهت الرئيسين جورج واشنطن وجون آدامز كانت بسيطة وواسعة الانتشار في ذلك الوقت. ومفاد هذه النظرية أنه إذا توحدت أغلبية حزبية متوافقة تمامًا للسيطرة على الحكم، فسوف تستخدم قوتها لقمع الأقلية. وسوف ينهار التوافق الجماعيّ الهش في صفوف المحكومين، وسيتبع ذلك انتشار العنف والاستبداد. وعلى هذا النحو، انزلقت الجمهوريات السابقة إلى مستنقع الحروب الأهلية، وكان الآباء المؤسسون عازمين على التعلم من التاريخ، وعدم تكرار أخطائه.
ويتابع الكاتب قائلًا: إن جيمس ماديسون، الرئيس الرابع للولايات المتحدة، المنظِّر البارز في مجموعة الآباء المؤسسين، والذي أُطلق عليه حقًا أبو الدستور، أيد فكرة إقامة «جمهورية موسعة» (وهي عبارة عن حكومة وطنية قوية، كخيار مضاد لقيام كونفدرالية فضفاضة من 13 ولاية) لهذا السبب بالتحديد. ففي جمهورية صغيرة، حسب رأي ماديسون، يمكن للفصائل أن تتحد بسهولة أكبر لتصبح أغلبيات حكم متسقة، ولكن في جمهورية كبيرة، في ظل وجود فصائل أكثر ومساحة أكبر، يصبح وجود أغلبية دائمة مع أقلية دائمة أقل احتمالًا.
وظنَّ الآباء المؤسسون لاميركا أنهم يستخدمون النظرية السياسية الأكثر تقدمًا في ذلك الوقت لمنع نشوء الأحزاب. فمن خلال فصل السلطات بين المؤسسات المتنافسة، ظن المؤسسون أن حزب الأغلبية لن يتشكل أبدًا. ورأوا، أو هكذا آمنوا، إمكانية الجمع بين الرؤيتين – قيام جمهورية كبيرة ومتنوعة مع الفصل بين السلطات – وتجنب الحزبية المفرطة التي أسقطت الجمهوريات السابقة.
ورغم ذلك، تشكلت الأحزاب السياسية تقريبًا على الفور؛ لأن الديموقراطية الجماهيرية الحديثة في حاجة إليهم، وأصبحت الحزبية هوية قوية، تعلو في أرجاء المؤسسات، وتؤدي في نهاية المطاف إلى انهيار تنوع الجمهورية ليقتصر على معسكرين فقط.
ومع ذلك، فإن الفصل بين السلطات واتباع النظام الاتحادي (الفيدرالي) نجح في تحقيق المقصود لفترة طويلة. فكل من الرؤساء، وأعضاء مجلس الشيوخ، وأعضاء مجلس النواب كانت لديهم حوافز انتخابية مختلفة، مما عقَّد الوحدة الحزبية، وكانت أحزاب الولايات والأحزاب المحلية أقوى من الأحزاب الوطنية، مما زاد من تعقيد الوحدة.
ويستطرد الكاتب قائلًا: باستعراض معظم التاريخ السياسي الاميركي، لم يكن نقد نظام الحزبين يتمثل في أن الأحزاب كانت مختلفة للغاية بعضها عن بعض؛ لأن تلك الأحزاب كانت متشابهة جدًّا، وكانوا يعبرون عن القليل جدًّا من المواقف. فالأحزاب كانت تعمل كائتلافات فضفاضة كبيرة من أحزاب الولاية والأحزاب المحلية، مما جعل من الصعب الاتفاق على الكثير منها على المستوى الوطني.
طفرة سياسية
ومنذ منتصف الستينيات وحتى منتصف التسعينيات من القرن العشرين، تمتعت السياسة الاميركية بما يشبه نظام الأحزاب الأربعة، في ظل وجود الديموقراطيين الليبراليين، والجمهوريين المحافظين، إلى جانب الجمهوريين الليبراليين، والديموقراطيين المحافظين. وربما يختلف الديموقراطيون المحافظون عن ولاية ميسيسيبي مع الديموقراطيين الليبراليين عن ولاية نيويورك أكثر مما يتفقون في الكونغرس، لكن ما يزال من الممكن انتخابهم على أساس شعارات محلية. ويمكن أن تقول الشيء نفسه عن الليبراليين الجمهوريين عن ولاية فيرمونت والجمهوريين المحافظين عن ولاية كنساس. وبناءً على القضايا التي تطرح، كانت هناك تحالفات مختلفة، الأمر الذي سمح بنوع من المساومة المرنة التي يتطلبها النظام الدستوري.
اربعة قسمة اثنان
لكن ذلك كان قبل أن تصبح السياسة الاميركية مؤممة بالكامل، وهي ظاهرة حدثت على مدى عدة عقود، وتسبب في ذلك إلى حد كبير بطء عملية إعادة تنظيم الحقوق المدنية لكلا الحزبين. وتحولت السياسة الوطنية من نزاع موجه نحو إيجاد حل وسط بشأن الإنفاق الحكومي إلى صراع أخلاقي صفري (وفيه أي فوز من جانب طرف يعد دائمًا خسارة للطرف الآخر) حول الثقافة والهوية الوطنية.
ومع تصاعد الصراع، غيّر الطرفان ما تبنوه من مواقف. فانعكس زيادة في حدة الصراع. بعد ذلك انقرض الجمهوريون الليبراليون والديموقراطيون المحافظون، وانهار نظام الأحزاب الأربعة لينتهي إلى حزبين فقط.
الحزب الديموقراطي، حزب التنوع والقيم العالمية، سيطر على المدن ولكنه اختفى من الضواحي، أما الجمهوريون، حزب القيم التقليدية والهوية المسيحية البيضاء، ففروا من المدن وحققوا ازدهارًا في الضواحي.
التمهيدية تحدد المنتصر
وبدأت الفقاعات الاجتماعية الحزبية تنمو، وأصبحت دوائر الكونغرس من نصيب حزب أو آخر بشكل أكثر وضوحًا. ونتيجة لذلك، أصبحت الانتخابات التمهيدية، وليست الانتخابات العامة، تحدد المنتصر في العديد من المناطق.
فخلال العقود الثلاثة الماضية، كان لدى كلا الحزبين قوة انتخابية متساوية تقريبًا على المستوى الوطني، مما جعل السيطرة على ولاية واشنطن مسابقة مستمرة يحاول الجميع الفوز بها. ومنذ عام 1992، دخلت البلاد في دورتين تأرجحت فيهما من حكومة ديموقراطية موحدة إلى حكومة مقسمة، ثم إلى حكومة جمهورية موحدة، ثم تكرر الموقف مرة أخرى، وسعى كلا الطرفين إلى تحقيق هذه الغالبية الدائمة بعيدة المنال، وحاولا تعميق الفروق بين الأطراف للفوز بالأغلبية، لكن هذا الأمر أدى إلى تكثيف الحزبية أيضًا.
ويرى الكاتب أن هذه التطورات الثلاثية – تأميم السياسة، والانقسام الحزبي الجغرافي الثقافي، والانتخابات متقاربة النتائج باستمرار – عززت بعضها بعضًا، ودفعت كلا الحزبين إلى هيكلة قيادتهما من القمة إلى القاع، وتعزيز الانضباط الحزبي، والقضاء على ما يعرف بالصفقات الحزبية. فالناخبون يصوتون الآن للحزب، وليس للمرشح، ويعتمد المرشحون على سمعة الحزب. فأهم شيء هو الولاء للفريق. وتتزايد الرهانات للغاية بحيث لا يكون الأمر خلاف ذلك.
نظام الحزبين.. نتيجة حتمية
ويخلص الكاتب إلى أن النتيجة هي أن اميركا أصبح لديها الآن نظامًا حقيقيًّا من حزبين بدون تداخل بينهما، وهو التطور الذي كان يخشاه الآباء المؤسسون أكثر من غيره.
وهذا لا يظهر أي بوادر لإمكانية الوصول إلى حل. فالحزبان يُفرزان بالكامل حسب الجغرافيا والقيم الثقافية، في ظل غياب عملية كبرى لإعادة التنظيم، إذ لا يملك أي من الطرفين الفرصة في أن يصبح الحزب المسيطر في المستقبل القريب، لكن الغالبية الدائمة البعيدة المنال تعد بالكثير من القوة، ولا أحد من الطرفين مستعد للتخلي عنها.
ويرى الكاتب أن هذا الوضع يحطم بشكل أساسي نظام الفصل بين السلطات والضوابط والتوازنات التي أرساها الآباء المؤسسون. ففي ظل حكومة موحدة، لا يصبح لدى الأعضاء الحزبيين المشاركين في الكونغرس حافز لكبح الرئيس؛ لأن نجاحهم الانتخابي مرتبط بنجاحه وشعبيته.
وفي ظل الحكومة المنقسمة، لا يصبح لدى أعضاء الحزب المعارض في الكونغرس حافزًا للعمل مع الرئيس؛ نظرًا إلى أن نجاحهم الانتخابي يرتبط بفشله وعدم شعبيته. إذن، فالنظام على هذا النحو ليس فيه مجال للمساومة أو الوصول لحل وسط، ولكنه نظام للمماطلة ورفض التعاون والتوقف عن إبداء الرأي.
ويؤدي رفض التعاون في الكونغرس، بدوره، إلى دفع الرؤساء إلى اتخاذ مزيد من التصرفات من خلال استغلال السلطة التنفيذية المخولة لهم، مما يعظم من سلطة الرئاسة. وإذا أصبحت الرئاسة أقوى، فهذا من شأنه أن يؤدي إلى انتخابات رئاسية عالية المخاطر، مما يؤدي إلى تفاقم الحزبية المفرطة، وهو الأمر الذي يؤدي إلى مزيد من الجمود.
وفي الوقت نفسه، تكثف الحزبية المفرطة من الجمود التشريعي، ويؤدي ذلك إلى إحالة المزيد والمزيد من القرارات المهمة للجهاز القضائي لحلها. وهذا الوضع يجعل مخاطر التعيينات في المحكمة العليا أعلى (خاصةً مع بقاء الشخص في منصبة طيلة فترة حياته، طالما لم يُعزَل بسبب سلوكه أو يختار الاستقالة)، مما يجعل معارك تأكيد الذات أكثر صرامة، ويزيد بالتالي من المخاطر الانتخابية.
لا ديموقراطية بدون أحزاب سياسية
ويؤكد الكاتب أن العلوم السياسية قطعت شوطًا طويلًا منذ عام 1787. ولو كان بإمكان الآباء المؤسسين الاستفادة من الحكمة المتراكمة اليوم، لكانوا قد قبلوا بفكرة أنه من المستحيل أن يكون لديهم ديموقراطية جماهيرية حديثة، بقدر ما أرادوا ذلك، بدون وجود أحزاب سياسية. فالأحزاب تجعل الديموقراطية تعمل من خلال هيكلة السياسة، وقصر خيارات السياسة والتصويت على عدد يمكن التحكم فيه وإدارته. فالأحزاب تمثل وتشرك المواطنين المنتشرين، ويجمعونهم من أجل هدف مشترك، وبدون أحزاب سياسية، تتحول السياسة إلى فوضوية واستبدادية.
كان الآباء المؤسسون لاميركا يعلمون أيضًا أن انتخابات الأكثرية (حيث كل من يحصل على أكبر عدد من الأصوات يفوز) تميل إلى تشكيل حزبين فقط، في حين أن انتخابات التمثيل النسبي (حيث نصيب الأصوات في دوائر الفائزين المتعددة تُترجم إلى عدد من المقاعد) تميل إلى تشكيل أحزاب متعددة، حيث يتحدد عدد المقاعد وفق حجم المنطقة والنسب المئوية المتحققة.
احزاب.. وديموقراطية
ولكن في ذلك الوقت، اعتقد الآباء المؤسسون للدستور أن بإمكانهم التمتع بديموقراطية بدون أحزاب، وكان النظام الانتخابي الوحيد المُطَبَّق هو النظام المبتكر في عام 1430 والخاص بتصويت الأكثرية، والذي جلبوه من بريطانيا دون نقاش. واستمر هذا الأمر حتى القرن التاسع عشر، حينما توصل الإصلاحيون إلى قواعد تصويت جديدة، إلى أن وصلنا إلى القرن العشرين حين انتقلت معظم الديموقراطيات المتقدمة إلى التمثيل النسبي، وهو ما دعم الديموقراطيات القائمة على أساس الأحزاب المتعددة.
ويعتقد الكاتب أن الآباء المؤسسين لو كانوا قبلوا بفكرة حتمية الأحزاب السياسية، وفهموا العلاقة بين القواعد الانتخابية وعدد الأحزاب، كانوا سيحاولون إضفاء الطابع المؤسسي على الديموقراطية متعددة الأحزاب. وكان جيمس ماديسون، الرئيس الرابع للولايات المتحدة وأحد الآباء المؤسسين المُلقب بأبي الدستور، سيُقدِم على هذا بالتأكيد. ويُعد المقال المُعنون «الاتحادي (الفيدرالي) رقم 10» الذي كتبه جيمس ماديسون – ضمن سلسلة المقالات السياسية الاميركية الشهيرة التي بدأها ألكساندر هاملتون للمطالبة بالتصديق على دستور الولايات المتحدة – وامتدح فيه التحالفات المرنة والسلسة، بمثابة رؤية للديموقراطية متعددة الأحزاب.
انظمة الاحزاب والانتخابات
أما الخبر السار في هذا الشأن فهو أنه لا يوجد في الدستور ما يُلزم بوجود نظام الحزبين، ولا شيء يُلزم البلاد بإجراء انتخابات أكثرية (تعددية) بسيطة. فالفقرة الخاصة بالانتخابات في الدستور تترك للولايات تقرير قواعدها الخاصة، وتحتفظ للكونجرس بسلطة التدخل، وهي سلطة استخدمها الكونغرس على مر السنين لفرض الدوائر الفردية الحائزة على الأكثرية، والتي تحافظ على نظام الحزبين القائم، وتضمن أن معظم الانتخابات لا تخلو من المنافسة.
وإذا أرادت البلاد أن تغير خيارها، فيمكنها التحول إلى نظام التمثيل النسبي لانتخابات الكونغرس التالية، وكل ما يتطلبه الأمر هو إصدار قانون من الكونغرس، ويمكن للولايات أن تتصرف وفق ما تراه مناسبًا لها.
ويختم الكاتب مقاله بقوله إن الديموقراطية متعددة الأحزاب ربما لا تكون مثالية، لكنها الأمثل للغاية في مجالات دعم التنوع والمساومة والتفاوض، التي أرادها الآباء المؤسسون، وبخاصة ماديسون، لمؤسسات اميركا، والتي رأوا أنها ضرورية للتجربة الهشة المتمثلة في الحكم الذاتي. فقد مرت اميركا بعدة موجات من الإصلاح السياسي عبر تاريخها. وتشير مستويات السخط والإحباط العالية اليوم إلى أنها قد تكون على وشك إصلاح آخر.
لكن مسار الإصلاح غير مؤكد دائمًا، والمفتاح لذلك هو فهم المشكلة التي يجب حلها. وفي هذه الحالة، يعتمد مستقبل الديموقراطية الاميركية على الاهتمام بما ورد من تحذير في الماضي. ويجب على البلاد أن تحطم الحزبية الثنائية المفرطة الغريبة على مؤسساتها الحاكمة، والتي تمثل أيضًا خطرًا على الحكم الذاتي. ويجب أن تصبح الولايات المتحدة الاميركية ديموقراطية متعددة الأحزاب.
بتوقيت بيروت