"حكومتنا تستند على الرأي العام. وكل من يستطيع تغيير الرأي العام، يمكنه تغيير الحكومة" *إبراهام لينكولن
لا يمكن لأحد مهما وصلت شعبيته أو نزاهته، أن يحكم دون دراية بكيفية التعامل مع الرأي العام، حتى في الأنظمة السلطوية. فقد تواجه الأنظمة السلطوية إذا أهملت الرأي العام؛ ثورة شعبية قادرة على إسقاطها. ويعرف الرأي العام بأنه «الرأي السائد بين أغلبية الشعب الواعية فى فترة معينة بالنسبة لقضية أو أكثر، يحتدم فـيها الجدل والنقاش وتمس مصالح هذه الأغلبية أو قيمها الإنسانية الأساسية مسًا مباشرًا».
دائمًا ما نسمع تساؤلات من نوعية كيف يخرج الشعب ضد الرئيس الذي انتخبه في انتخابات حرة ويستبدل به نظامًا ديكتاتوريًّا دمويًّا؟ وكيف تتحول هذه الجماهير المحبة لذاك الحزب، إلى جماهير غاضبة تريد سجنهم؟ وكيف تصدق الجماهير هذا الفاسد وتكذب ذاك السياسي النزيه؟ وأحيانًا تكون الإجابة عبارات مثل: «لأن هذا الشعب لا يستحق إلا الاستبداد، أو لأن العيب في هذا الشعب الجاهل». إذا كنت تقتنع بهذه الإجابات؛ فهل كان الشعب الألماني جاهلًا عندما اعتنق النازية وسار مع هتلر لغزو العالم، وهل الشعب الأمريكي الذي يجري التلاعب به من الساسة؛ لا يحظى بتعليم جيد؟
هذا التقرير يحاول الإجابة عن هذه التساؤلات وشرح أبرز الطرق والأساليب لتغيير الرأي العام والتلاعب به مع أمثلة بتجارب بدولة مختلفة حول العالم.
"إذا لم تكن حذرًا، فستجعلك الصحف تكره المظلومين وتحب الظالمين" مالكوم إكس
لو افترضنا معًا أن صراعًا سياسيًّا في دولة ما، بين أصلح السياسيين وأفسد السياسيين، هل يمكن أن يخلط الناس بينهما؟ الإجابة: نعم. وهذا ما يحدث دائمًا حين يسيطر الفسده على وسائل الإعلام ويعرفون كيف يستخدمونها، فببساطه يمكن الانحياز ضد المجموعة النزيهة في كل ما ينشر، وتضخيم أخطائهم وتجاهل نجاحاتهم مع بعض الفبركة، ستجد هذه المجموعة أصبحت العدو لدى شرائح كبيرة بالشعب، وشرائح أخرى تصبح مشوشة بين الجانبين، لذلك يمكن القول بأنه لا يمكن لأحد الحكم بدون دراية واسعة بأساليب التأثير على الرأي العام، وحد أدنى من وسائل الإعلام التي تتبنى نشر وجهة نظره ونجاحاته.
فهذا الأسلوب يعتمد على الانحياز المطلق في كل ما يذاع ضد مجموعة أو طائفة أو شعب ما، بالإضافة إلى تضخيم أي أخطاء تنتج منهم وتجاهل أي أخبار إيجابية تخصهم، بجانب فبركة بعض الأخبار والأحداث. ويُستخدم هذا الأسلوب في الدعاية السلبية والإيجابية لحشد الشعوب لاتخاذ موقف معين، أو لاختبار مواقف معينة أو لإضفاء الأهمية عليها رغم ضحالتها أو للدس والوقيعة بين شعوب أو دول أو جماعات.
من أمثلة ذلك الأسلوب ما حدث سنة 1916، بعد أن نجح الرئيس ويلسون للانتخابات الرئاسة الأمريكية، بشعار «ويلسون أبقانا بعيدًا عن الحرب»، إذ كان الشعب الأمريكي في ذلك الوقت يفضل السلام ويكره الحرب ولا يريد الدخول في حرب أوروبية بالأساس (الحرب العالمية الأولى).
وهنا حدثت المفارقة، هل يمكن التصديق بأن يرغب هذا الشعب نفسه بالمشاركة في الحرب تحت الرئيس نفسه الذي نجح بالانتخابات بشعار السلام؟ يروي نعوم تشومسكي عن هذا الحدث في كتاب السيطرة على الإعلام، ويقول: «أنشأت الإدارة الأمريكية لجنة للدعاية الحكومية أطلق عليها «لجنة كريل»، نجحت خلال ستة أشهر من تحويل المواطنين المسالمين إلى مواطنين تتملكهم هيستيريا الحرب، والرغبة في تدمير كل ما هو ألماني، وإنقاذ العالم في الحرب العالمية الأولى».
ويضيف تشومسكي أن اللجنة استخدمت ضمن وسائلها، «فبركة قصص عن مذابح يرتكبها الألمان، واتضح أن هذه القصص من اختراع وزارة الدعاية البريطانية التي كانت تستهدف توجيه فكر معظم دول العالم».
وننوه هنا أن اللجنة استخدمت وسائل عديدة لضمان اتساع التأثير، من بينها فكرة «رجال الدقائق الأربعة»، وهو جيش مكون من 75 ألف متطوع، يلقون خطبًا وطنية تثير الحماسة في الأماكن العامة لمدة أربع دقائق فقط، كي لا تتجاوز الخطبة فترة الانتباه، التي كانت تقدر آنذاك بأربع دقائق.
في مثال آخر على هذا الأسلوب، وقع بين عامي 1950 و1954 حين انتشرت حمى التخويف من الشيوعية «الذعر الأحمر» بالولايات المتحدة، بقيادة السناتور جو مكارثي، وهو جمهوري يميني، استغل حمى الانتقام من الشيوعيين، وقاد اتهامات التخوين والعمالة تجاه المعارضين. ولم يتطلب هذا الانتقام أدلة، بل كان يكفي وصف شخص أو أشخاص بأنهم شيوعيون، ليتم التنكيل بهم وفصلهم من أعمالهم وحبسهم وملاحقتهم وطالت الاتهامات شخصيات بوزارة الخارجية والبيت الأبيض، ووزارة الخزانة إبان حكم الرئيس الجمهوري إيزنهاور، وانتشرت أجواء من الخوف والشك في جميع أنحاء البلاد. ولم يجرؤ أحد على الوقوف أمام مكارثي خوفًا من وصفه بأنه خائن.
وبسبب هذه الواقعة خرج مصطلح «المكارثية» لوصف حالة اتهام وتخوين المعارضين دون أدلة وخلق أجواء الذعر من معارضة النظام بحجة الخوف على الوطن وحمايته من الأعداء. ودائمًا ما تجد الكثير من الدول الديكتاتورية تعيش في حالة مكارثية دائمة لوأد أي معارضة ممكنة للنظام بالتخوين والقمع.
غزو أمريكا للعراق عام 2003 مثال آخر على هذا الأسلوب. فبعد ترويج أن العراق لديها أسلحة دمار شامل تشكل خطورة كبيرة على العالم؛ لم يظهر بعد الغزو إلا دمار العراق وجثث نحو 500 ألف مدني عراقي، وسيطرة الشركات الأمريكية والبريطانية على نفط العراق، لتؤكد عدة تقارير بعد ذلك تحريض شركات نفط أمريكية وبريطانية للغزو طمعًا فيما سيعود عليها من مكاسب بعد السيطرة على آبار نفط العراق.
ويوجد أيضًا الفبركة العكسية، وينتهج هذا الأسلوب فبركة مواد دعائية تنتقد الجهة نفسها التي أصدرت هذه الدعاية، وقد يستغرب البعض لماذا قد تفبرك بعض الأنظمة أخبار وصورًا تنتقدها، لكن هذا الأسلوب قد يكون الأفضل لإرباك الجماهير في حالة حدوث أعمال قمع شديدة للحكومة وانتشار صور القمع على وسائل الإعلام المعارضة ومواقع التواصل الاجتماعي، فتتجه أجهزة النظام لنشر صور مفبركة عبر صفحات تدعي معارضة النظام، لتكون قرينة للتشكيك في كل الصور الحقيقية القمع النظام للتشويش على الجماهير وإبقائها في حالة ارتباك وتشكيك في كل صور قمع النظام.
يستخـدم هذا الأسلوب لنشر أفكار يصعب تقبلها من خلال الخطاب المنطقي الـهادئ، مثل بث روح الاستعلاء والتعـصب لـدى بعض الـشعوب أو المجموعات القومية أو العرقية عن طـريق تضـخيم إنجازاتهـا التـاريخية، بهدف بث الكراهية والاحتقار تجاه شعوب أخرى أو أقليات عرقية أو مجموعات فكرية، وقد يتضمن ذلك إثارة الجماهير للإقدام على أعمال عدوانية ضدها.
المذبحة الرواندية عام 1994 التي قُتل فيها حوالي 800 ألف شخص من أمثلة هذا الأسلوب. إذ اُستخدمت محطات الإذاعة والصحف لنشر الكراهية، واستباحة دماء عرقية التوتسي، وحثت وسائل الإعلام الناس لقتل التوتسي بتكرار جملة «التخلص من الصراصير»، ويستخدم مُروجو الكراهية مصطلحات حيوانية في دعايتهم لنزع الصفة الانسانية عن الضحايا، لتهيئة الجماهير نفسيًا لاستهدافهم وعدم التعاطف معهم.
يعتمد هذا الاسلوب على أن وصول الحقائق الملموسة إلى أكبر عـدد ممكن من الناس أقوى وأبقى من الأكاذيب والمبالغات والشائعات. ويرتكز هذا الأسلوب أيضًا على احترام عقلية المتلقي، ورفع الوعي الجماهيري بالمشاكل والتحديات، عن طريق الشرح والمناقشة والإقناع ورفع الوعي السياسي للجماهير.
ويستخدم هذا الأسلوب، بعض الحركات الإصلاحية والثورية لمحاولة مواجهة السطوة الإعلامية للأنظمة الديكتاتورية، ويستخدمه أيضًا بعض الأحزاب السياسية في الأنظمة الديمقراطية لخلق صلة قوية بالجماهير.
وكان يُطلق على هذا النوع من الـدعاية في الأصل لفـظ «الإعلام»، لكن هذا اللفظ لم يعد معبراً بعدما استخدم بنشر الأكاذيب والدعاية المضللة أكثر من نشر الحقائق. ويبرز أسلوب تشرشل رئيس وزراء بريطانيا كمثال للاستخدام الجيد لهذا الأسلوب خلال الحرب العالمية الثانية؛ ففي وقت كانت تسيطر في الجيوش والحكومات على وسائل الإعلام، مما قلل من مصداقية الإعلام وزاد من انتشار الشائعات، إذ فضل تشرشل قـيادة الرأي العام البريطاني على أساس المصارحة الشعب بالحقائق لحمايته من الشائعات.
يقوم هذا الأسلوب على فكرة إثارة قضية أو شائعة أو فضيحة لتحويل انتباه الجماهير إذا كان هناك رأي سائد يصعب معارضته تجاه موضوع أو حدث معين. ويستخدم أيضًا هذا الأسلوب لعدم ضمان نتيجة الوقوف أمام تيار جارف من الرأي العام بعد تكوينه حتى لو كان الـرأي العام علـى خطأ مـن وجهة نظـر السلطة أو أصحاب المصالح.
وقد تكون إشاعات وفاة مبارك بعد ثورة يناير (كانون الثاني) 2011 خير مثال لهذا الأسلوب. فبعد أن حل المجلس العسكري المصري (مجلس الشعب المنتخب عقب ثورة يناير) يوم 16 يونيو (حزيران) 2012، وأصدر إعلانًا دستوريًا مكملًا يوم 19 يونيو، يقضي بتوليه سلطة التشريع، وتحصين أعضائه من العزل، والانفراد بحق تشكيل جمعية تأسيسية جديدة إذا قام مانع يحول دون استكمال الجمعية التأسيسية المنتخبة لعملها خلال أسبوع؛ ظهرت إشاعة موت الرئيس المخلوع مبارك سريريًا ليتحول الحديث في الرأي العام تجاه مبارك.
يرى الكثيرون أن أسلوب التكرار أنجح الأساليب لتغيير الرأي العام، ودائمًا ما تعتمد عليه الأنظمة السلطوية والحركات الشعبوية، إذ تذيع وتكرر نفس الجمل والأفكار عبر وسائل إعلام متعددة، وتحاصر الجمهور وتحفر هذه الجمل في العقل اللاواعي للجمهور المستهدف. وقد كان هذا الأسلوب المفضل لوزير الدعاية النازية، غوبلز، الذي قال: «إن سر الدعاية الفعالة يكمن في التركيز على بعض الحقائق فقط، وتوجيه آذان الناس وأبصارهم إليها مرارًا وتكرارًا، لا في إذاعة بيانات تتناول آلاف الأشياء».
«إذا اخترعت كذبة كبيرة وظللت ترددها بإخلاص، فسيصدقها الناس في النهاية» *جوزيف غوبلز
ولضمان نجاح هذا الأسلوب لا بد من استخدام وسائل إعلام واسعة النطاق، ولغة دعاية تثير العواطف بدلًا من إعمال العقل. ودائمًا ما تجد الأنظمة السلطوية تستخدم هذا الأسلوب لتشويه معارضيها، فبعد السيطرة على كافة وسائل الإعلام، تكرار اتهام المعارضة، بالفساد أو الارهاب، أو العمالة لقوى خارجية.
يستغل هذا الأسلوب أن العقل يجنح إلى التنمـيط وترسيخ القوالب الجامدة لتسهيل تنظيم المعلومات وتخزينها واسترجاعها. وتمكن خطورة هذا النمط من التفكير، في تصنيف الناس وتكوين صورة ذهنية عن مجتمع أو بلد ما أو مجموعة معينة، وتعميم صفة على جميع أفرادها، والتعامل معهم على هذا الأساس قبل الاحتكاك بهم.
ودائمًا ما تكون هذه الصورة عن طريق وسائل الإعلام والتثقيف، مثل السينما والتلفزيون والأدب والمسرح وغيرهم من وسائل تشكل الوعي والصور الذهنية. فقد تلاحظ مثلًا تكرار ربط اللحية بالإرهاب والسلوكيات العنيفة في السينما والتلفزيون بدولة ما، مما يروج لصورة ذهنية سلبية نمطية عن الملتحين في هذه الدولة.
ولا تقتصر خطورة الصورة النمطية المتطرفة على نشر الكراهية فقط، لكن دائمًا ما يتطور الأمر لأعمال عنف وقتل وحشية وهذا يحدث حاليًا مع المسلمين من خلال انتشار ظاهرة الإسلاموفوبيا، ويتورط بعض اليهود في هذا الأمر، وكشف تحقيق لصحيفة «الجارديان» عن شبكة إسرائيلية تستثمر في الإسلاموفوبيا وتروج أخبار مزيفة لتعزيز كراهية المسلمين في عدة دول.
وقد يكون تغطية الإعلام الأمريكي للأعمال الأرهابية خير مثال لهذا أسلوب، إذ كشفت دراسة أمريكية عن تأثير هوية مرتكب الجرم على التغطية الإخبارية لأي هجوم إرهابي؛ أن من أصل 136 هجومًا إرهابيًا وقع في الولايات المتحدة على مدى 10 سنوات خضعت للدراسة، ارتكب المسلمون في المتوسط 12.5% من الهجمات فقط، لكنهم تلقوا أكثر من نصف التغطية الإخبارية، وبلغة أخرى حصلت الهجمات الإرهابية التي نفذها المسلمون على تغطية إعلامية بنسبة 357% أكثر من أن ترتكبها مجموعات أخرى. والصورة النمطية المتطرفة والكراهية مرتبطتان بشكل كبير بالأسلوب التالي وهو صناعة العدو.
"لا يجب إبادة كل اليهود، فلو زال اليهود علينا أن نخترعهم لضرورة وجود عدو ملموس، لا مجرد عدو مفترض" *هتلر
فبعد صنع صورة نمطية متطرفة، أصبح الرأي العام جاهزًا لصناعة العدو، والذي يمكن القول بإنه سلاح سحري قد يمكن القادة من تغيير الرأي العام وتهيئته لقمع أو قتل عدد كبير من البشر، وليس ذلك فقط ولكن جعل الجماهير تهلل وتحتفل أيضًا بقمعهم أو قتلهم، دون تشعر هذه الجماهير بأن هذا سيكون مصيرهم أيضًا إذا اعترضوا على قرارات أو إجراءات لهذا النظام.
وقد تلاحظ هذه الممارسات في بعض الأنظمة مثل تحويل المعارضة السياسة لعدو شيطاني أو اختلاق أو تضخيم عدو، بهدف توحيد صفوف الجماهير لقبول قمع المعارضة مما يساعد لترسيخ نظام استبدادي يعتبر أي معارض عدوًا مخربًا يستهدف تدمير الدولة.
وعن قوة الكراهية يقول الكاتب إيريك هوفر في كتاب «المؤمن الصادق»: «تستطيع الكراهية الجماعية أن توحد العناصر المتنافرة، بل إنها يمكن أن توجد رابطًا مشتركًا مع عدو آخر على نحو ينخر قواه ويضعف مقاومته، فهتلر لم يستخدم عداوة اليهود في توحيد صفوف الألمان فقط، بل لإضعاف مقاومة دول تكره اليهود مثل: بولندا ورومانيا وهنغاريا، كما استطاع أن يستخدم كراهية الشيوعية بنفس الطريقة عند دخوله دول الاتحاد السوفيتي.
وأضاف هوفر: «ودائمًا ما يبحث صانع العدو الداخلي لأي روابط خارجية لكي تكتمل صورة الشيطان الداخلي ذي أصول خارجية، وهكذا، ركزت الحركة الثورية الروسية على الأصول الأجنبية للأرستقراطية الروسية، وخلال الثورة الفرنسية اعتُبر الارستقراطيون أحفاد الألمان المتوحشين».
ولكن كيف يمكن أن تنتشر الكراهية غير المنطقية وتصبح دافعًا للوحدة؟ يجيب هوفر، «عندما لا تنبع كراهيتنا لظلم واضح فإن الحاجة للحلفاء تعظم، فالكراهية غير المنطقية تدفعنا للانضمام لمن هم يكرهون كما نكره، وهذه الكراهية محاولة يائسة لإخفاء الشعور بالنقص أو لطرد الشعور بالذنب، إذ لا توجد طريقة أكثر فاعلية لكره أحد، أكثر من إيقاع ظلم فادح به، فيكره المظلوم ، فيزداد كره الظالم للمظلوم (أكثر مما لو كان عنده سبب وجيه لكره المظلوم)، وبعد ذلك يحدث محاولات إقناع النفس والآخرين بأن المظلومين أشرار يستحقون الإبادة، ولا بد من كراهيتهم واضطهادهم وإلا فتحوا على أنفسهم باب احتقار النفس».
«في البداية جاء النازيون لاعتقال الاشتراكيين لم أبالِ لأنّي لست اشتراكيًا، وعندما جاؤوا لاعتقال النقابيين لم أقل شيئًا فلم أكن نقابيًا، وعندما جاؤوا لاعتقال اليهود لم أقل شيئًا فأنا لست يهوديًّا، وعندما جاؤوا لاعتقالي لم يبق أحد حينها ليدافع عنّي» *مارتن نيمولر
وحين يستخدم الديكتاتور هذا الأسلوب لقمع فصيل معارض، لا يقمع هذا الفصيل فحسب، فحالة القمع الشديدة تصنع حالة خوف من تصديق أن الفصيل المضطهد مظلوم، فيتجنب الكثير من الناس أي أخبار أو معلومات تثبت أنهم مظلومون أو على حق، خشية من الوقوع تحت الاضطهاد أو الشعور بالذنب للسكوت عن الظلم أو التعامل مع الظالم المتحكم.
وبعد قمع الفصيل المستهدف، تسهل عملية قمع أي أحد آخر، فأي محاولة للمعارضة تُوقع صاحبها في خانة العدو التي ساهم بصنعها سواء بتأيده أو بصمته على قمع ووصم الفصيل المضطهد، وينمو حاجز الخوف واليأس في نفوس الجماهير أكثر فأكثر، من ثمَ تزيد نسبة الرضا بالاستبداد والتأقلم عليه في الرأي العام، وخصوصًا أن كثيرًا ما تبقى الفصائل المعارضة في حالة اتهامات متبادلة، فالفصيل الذي اضطهد أولًا لا يستطيع نسيان دعم أو صمت بقية الفصائل لقمعه، والفصائل التي قمعت في النهاية لا تريد أن تعترف أن الفصيل الأول مظلوم لتجنب الشعور بالذنب، وهكذا قد تستمر حالة تشرذم المعارضة، مما يزيد من قوة النظام الديكاتوري.
هل يمكن تحويل الجماهير الثائرة التي لا ترضى إلا بالحرية والديموقراطية إلى جماهير عاجزة مستسلمة لا تبدي أي مقاومة تجاه القمع والظلم؟ كيف حول هتلر الشعب الألماني الذي تعود على الديمقراطية وحق الاختيار والمحاسبة إلى شعب يصفق للظلم ويستسلم أمام القمع والدكتاتورية؟ وكيف يُعيد مخططو الثورات المضادة الشعوب الثائرة على الظلم إلى حظيرة اليأس والاستسلام؟
في أواخر الستينات وضع عالم النفس الأمريكي مارتن إي. سليجمان في جامعة بنسلفانيا مفهوم نظرية العجز المكتسب، وحدث ذلك نتيجة لبحث تجريبي على الكلاب، إذ أكتشف أن الكلاب التي تتلقى صدمات كهربائية لا يمكن تجنبها، تحاول في البداية مرارًا للتخلص من الكهرباء، ولكن بعد ذلك تظل مستسلمة وعاجزة حتى إذا صعقت بالكهرباء وهي غير مقيدة، لا تحاول الهرب من الصدمة الكهربية وتجلس مستسلمة للألم وتنتظر زواله، في حين أن الكلاب التي تلقت الصدمات وهي غير مقيدة، هربت على الفور من الصدمة الكهربية .
وقام العالم سليجمان بتجارب مماثلة على البشر (باستخدام ضوضاء عالية بدلاً من الصدمات الكهربائية)، إذ وضع مجموعة من الأشخاص في غرفة وأخبرهم أن الضغط على أزرار يُوقف الضوضاء، وأجرى التجربة عدة مرات مع تعطل هذه الأزرار، فحاول المتطوعون إيقاف الضوضاء بالأزرار دون فائدة، ثم أعاد التجربة مع تشغيل الأزرار التي يمكنها إيقاف الضوضاء، ولكن ظل المتطوعون منزعجين ومستسلمين انتظارًا لتوقف الضجيج دون محاولة الضغط على الأزرار التي أصبحت قادرة على إيقاف الضجيج. ولاحظ سليجمان وزملاؤه عدة تأثيرات منها:
أ. التأثيرات التحفيزية: أي كائن يحاول بمحاولة ما أيا كان هدفها فهو يكون مدفوعًا من توقعاته المنتظرة بالحصول على النتيجة المرجوة، وبالتالي فعدم حصولهم على نتائجهم المرجوة يضعف الحافز لديهم للاستمرار في المحاولات.
ب. التأثيرات المعرفية: بسبب المحاولات الفاشلة أثناء التجارب غير متحكم بها كالصعقات الكهربائية والضجيج، فإن الكائن يتعلم أن هناك انفصالًا بين محاولاته وتوقف الضرر، أي أن يحدث للكائن عجزًا معرفيًا، فالكلاب والبشر بالتجربة لا يعرفون ما هو الإجراء الذي يجب القيام به للحصول على النتيجة المرجوة، وهذا العجز المعرفي يبقى ملازمًا للكائن حتى بعد زوال القيود وتغيير الظروف، والخطير بالموضوع أن الكائن يتعلم العجز بسرعة فائقة ويصعب تغيير هذا التعلم، إذ إن الكلاب التي تعلمت العجز استغرقت مدة طويلة جدًا كي تقتنع مجددًا بأن خطو خطوة واحدة سيبعدها عن صدمات الكهربية وكذلك البشر مع تجربة الضجيج.
ج. التأثيرات العاطفية: عند تعريض كائن ما لمحفز كريه ومؤلم غير قادر على التحكم به، فإن هذا الكائن سيختبر بالتأكيد عواطف سلبية من غضب وخوف وقلق وغيرها من العواطف السلبية، ستتطور حالته العاطفية إلى الرضوخ التام والاستسلام للأمر الواقع وتزيد قابليته للأوضاع السيئة.
وبنفس نفس هذا الأسلوب يحول الديكتاتور الجماهير الثائرة المطالبة بحقوقهم إلى جماهير يائسة ومستسلمة، فبعد أن يستخدم الدكتاتور أساليب الشيطنة وصناعة العدو تجاه إحدى فصائل الشعب (غالبًا يستهدف أقوى فصيل أولًا)، تبدأ عملية تعليم العجز للشعب كله، وكسر الرابط بين الاحتجاج وتلبية المطالب لتصل الجماهير لوضع الكلب الذي ينتظر مستسلمًا توقف الصدمة الكهربائية ولا يحاول التخلص من آلامه.
فبعد قمع أكبر فصيل يبدأ قمع أي محاولة احتجاج سياسي للمطالبة متعلقة بالديموقراطية أو الحرية، ويلي ذلك قمع أي احتجاج أيًا كان نوعه حتى لو كانوا عمالًا يطالبون بأجورهم المتأخرة أو طلاب مدارس يتظاهرون اعتراضًا على الامتحان، لإقناع الجماهير بعدم جدوى الاحتجاج ومحو الارتباط بين الاحتجاج وتلبية المطالب والوصول لمرحلة العجز والاستسلام، وليس ذلك فقط بل تصل شرائح كبيرة من الجماهير لإلقاء اللوم على الضحايا لمحاولتهم المطالبة بحقوقهم، ليستقر الدكتاتور فوق أعناق الشعب بعد أن أدخله حظيرة العجز الاستسلام، ويتخذ منهم ضحايا يقمعهم باستمرار ليؤكد للجماهير دائمًا بعدم جدوى محاولات فك القيود.
انظر على تلك الخطوط ناحية اليمين، ثم احزر أي منها يساوي طول الخط في الجهة اليسرى؟
هل اخترت «C»؟ لكن ماذا لو قلت لك إن الاختيار الصحيح «A». وماذا لو أخبرك 10 أفراد أخريين أن الاختيار «A» هو الصحيح وليس «C»، هل ستظل على رأيك؟
أجرى سوليمان أش الطبيب النفسي ورائد علم النفس الاجتماعي، تجربة لدراسة مدى تأثر الشخص بغيره حتى لو كان الاختيار واضحًا، وكان الشخص معتقدًا بصحة اختياره، وكشفت الدراسة أنها في حالة انعدام تأثير الآخرين على الخاضعين للتجربة؛ تمكن الجميع من اختيار الإجابة الصحيحة بنسبة 100% تقريبًا، ولكن عندما اتفق الآخرين على إجابة خاطئة، وافقهم المشاركون بنسبة 36.8%، فيما اختار 25% من المشاركين تحدي رأي الأغلبية.
أي أن نحو ثلث الناس يختار رأي الأغلبية ولو كان على خطأ، رغبةً منهم للتوافق مع الآخرين وخوفًا من الاختلاف عن رأي الأغلبية إذا شعروا أن هذا رأي الأغلبية بالفعل.
وهذا ما تسعى إليه الكثير من وسائل الإعلام حول العالم وخاصة الدول الديكتاتورية، إذا تحاول محاصرة الجماهير برأي ما تجاه قضية أو مرشح وتكراره بألسنة ووسائل مختلفة، وقد يصل الأمر لفبركة استطلاعات رأي، لحث الجماهير لاتخاذ نفس الرأي أو الموقف لتوافق رأي الأغلبية المصطنعة.
وهذا الأسلوب يتوافق أيضًا مع نظرية دوامة الصمت التي أسستها الباحثة الألمانية إليزابيث نيومان عام 1974م، والتي تضيف على هذا الطرح، أن الأفراد المعارضون لاتجاه وسائل الإعلام، يتخذون موقف الصمت تجنبًا للاضطهاد وخوفًا من العزلة الاجتماعية، مما يزيد من حالة التأييد الوهمي أو قلة الاعتراضات.
يمكن القول أنه الأقدر على تحويل الرأي العام من تأييد ودعم رئيس أو رأي ما إلى النقيض تمامًا، فهذا الأسلوب يحرك حتى شرائح جماهيرية لم تكن مهتمة بالسياسة أو بالشأن العام من قبل، إذ يعتمد على خلق أزمات تمس الاحتياجات الأساسية للشعب، مثل الأزمات الأقتصادية، أو أزمات الوقود والكهرباء والغذاء وغيرها من الاحتياجات التي يعتمد عليها الجميع بشكل أساسي لتدبير المعيشة ولقمة العيش. لكي تشعر الجماهير بتهديد المستوى الأول هرم ماسلو للاحتياجات الإنسانية، مما يخلق حالة غضب عارمة بشرائح واسعة تريد فعل أي شيء لحل الأزمة، ودائمًا ما يستغلها ويوجهها مُختلق الأزمة (صاحب النفوذ) لتحقيق مصالحه، ويجرى الاعتماد على هذا الأسلوب كثيرًا لإسقاط الأنظمة والتمهيد للانقلابات، أو إسقاط الديمقراطيات وحتى اندلاع الحروب.
من أمثلة ذلك ما كـانت تذيعة الإذاعـة السرية الموجهة إلى كوبا عام 1963 من تحريض معارضي حكم كاسترو على إشعال حرائق فـى مزارع القصـب التى تمثل الثـروة الرئـيسية بالبلاد، وبالإضافة انتزاع أسلاك التليفـون، وتحطيم أكبر عدد ممكن من الزجاجات بهدف إحداث أزمة زجاجات وإظهار عجـز حكومة كاسترو عن إدارة البلاد.
ويجب الانتباه أن دائمًا ما تستخدم عدة أساليب في وقت واحد كما حدث في التجربة البرازيلية، إذ بدأت الحكاية بعد أن تحدت الرئيسية البرزيلية ديلما روسيل السابقة المصرفيين وخفضت الفائدة، وقالت: «لا يمكن لأحد أكثر الأنظمة الاقتصادية ربحًا وثباتًا في العالم، أن يقدم أعلى الفوائد بالعالم».
لتبدأ الأزمات وتشتعل مظاهرات تقودها المعارضة اليمينية (بحجة رفع طفيف لأجرة المواصلات العامة) ويتفاقم الوضع وتنخفض شعبية روسيل من 56% إلى 30% في ثلاثة أسابيع فقط، وتخرج قضية فساد تورط فيها الأحزاب السياسية الرئيسية ويتبنى جزء كبير من وسائل الإعلام إلصاق الاتهامات ضد روسيل ولولا، ووصل الأمر بأن يعتقد 50% من الشعب أنها متهمة بسرقة أو فساد، رغم أن نصف أعضاء الكونجرس الذي عزل روسيل بتهمة «تأخير تحويل أموال للأموال العامة»، كانوا تحت التحقيق في قضايا احتيال أو جرائم عبودية أو حتى قتل.
وبعد ذلك حكم نفس المحقق والقاضي مورو الذي أثار قضايا الفساد (كان يقوم بالتحقيق والادعاء والحكم في القضية أيضًا) بسجن الرئيس السابق لولا دي سيلفا بعد إعلانه الترشيح للرئاسة بتهمة الحصول على شقة هدية، والتي نفى لولا ملكيته لها، وبعد أن فاز العسكري المتقاعد بولسونارو بالرئاسة، وأصبح القاضي مورو وزيرًا بحكومته.
يُعد هذا الأسلوب من أقوى وأقدم الأساليب للتأثير على الجماهير، فكل الناس تخاف، ومهما بلغت الشعوب من تعليم فإنها ترتبك إذا مس أحد احتياجاتها ويؤثر ذلك على سلوكها وآرائها، صحيح أن الوعي السياسي وفهم هذه الأساليب قد يقلل تأثيرها ولكن لا يلغي تأثيرها بشكل كامل، فجميع الجماهير يظلون بشرًا يتأثرون بشدة إذا مُست المستويات الأكثر أهمية المعتمدة في هرم ماسلو.
فحاجات الأمان تحتل المستوى الثاني في هرم ماسلو بعد الاحتياجات الجسدية مباشرة، مما يجعلها هدفًا للكثير ممن يريدون التأثير على سلوكيات الجماهير، وخصوصًا أولئك الذين يفتقدون لحجج منطقية وإنجازات فعلية تدعم موقفهم أو آراءهم، فتجد دائمًا الرؤساء الدكتاتوريين، يخوفون الشعب من الثورة ضده، أن لا بديل لحكمه سوى الفوضى والضياع، وكثير من الأحيان يتم افتعال الفوضى للتمهيد للانقلابات العسكرية، فعندما تحدث الفوضى ترضي أو تنادي الكثير من الشرائح بنظام القوي المستبد بدلًا عن الديموقراطية.
وهذا ما حدث بالفعل في الانقلاب العسكري الذي دبرته المخابرات الأمريكية والبريطانية (المخابرات الأمريكية اعترفت بدورها بالانقلاب) في إيران عام 1953 لإزاحة محمد مصدق المنتخب ديموقراطيًا بعد قراره بتأميم قطاع النفط بالبلاد. إذ دفعت المخابرات الأمريكية بعصابات مأجورة دبرت تظاهرات عنيفة تسرق وتنهب وتطلق الرصاص على المدنيين لإثارة الفوضى في الشوارع باسم مصدق، وانضم الشيوعيون والقوميون المتحمسون إلى تلك المظاهرات، لإظهار مصدق غير قادر على السيطرة على الوضع وخلق حالة غضب شعبي كبيرة تجاه حكومته للتمهيد للانقلاب العسكري والإطاحة بالحكومة المنتخبة.
وهذا ما حدث بالفعل وعاد الشاه للسلطة وجرى اعتقال مصدق، واحتفلت جماهير بالانقلاب الذي خلصهم من الفوضى المفتعلة لتدخل قفص الحديد والنار دون أن تدري.
ولا يقتصر التخويف على الأنظمة الاستبدادية فقط، ففي ديموقراطيات كبرى يحظى شعوبها بتعليم عالي الجودة، صعدت العديد من الأحزاب اليمينية بأوروبا اعتمادًا على التخويف من المهاجرين والمسلمين وسعت لتغذية الإسلاموفوبيا لتخويف الناخبين وجذب أصواتهم، فقد وصل ترامب لرئاسة الولايات المتحدة مستخدمًا خطابًا معاديًا للمهاجرين، وكذلك فعل أيضًا حملة الخروج من الاتحاد الأوروبي ببريطانيا، إذ اعتمدت دعاياتهم على التخويف من المهاجرين.
تُعرف الـشائعات بأنها التـرويج لخبر مختلق، لا أساس له أو تعمد المبالغة أو التهويل أو التشويه فى سرد خبر فيه جانب ضئيل من الحقيقة أو إضافة معلومة كاذبة أو مشوهة لخبر معظمه صحيح، أو تفسير خبر صحيح والتعليق عليه بأسلوب مغاير للـواقع بهـدف التـأثـير الـنفسـي فـي الـرأي العـام المحلي أو العالمـي لتحقيق أهداف سياسية أو اقتصادية أو عسكرية. على نطاق دولة واحدة أو عدة دول، أو النطاق العالمي بأجمعه.
ولعل ما حدث في بريطانيا في 1924 يشير لقدر التغيير التي يمكن أن تفعله الشائعات، فقبل أربعة أيام من الانتخابات، نشرت صحيفة «ديلي ميل» خطابًا مفبركًا يحمل توجيهًا وتحريضًا من غريغوري زينوفييف، رئيس الشيوعية الدولية (كومنترن) في موسكو، للشيوعيين البريطانيين، مما أثر بشدة على فرص حزب العمال في الانتخابات، وسهل فوز المحافظين، واتضح بعد ذلك أن الخطاب حيلة من المخابرات البريطانية لإسقاط حكومة العمال.
الشائعة الإيجابية
قد يظن البعض أن الشائعات متعلقة بالأخبار المختلقة السلبية فقط، ولكن قد لا يقل الخبر الإيجابي المختلق ضررًا عن السلبي، فالشائعة الإيجابية تُطلق باختلاق خبر إيجابي عن شخص أو هيئة ما فينتشر الخبر بسعادة وطموحات عالية حتى بين مؤيدو الشخص أو الهيئة، وعندما يتم نفي الخبر تنقلب مشاعر الفرح عند الجماهير لمشاعر غضب واستياء من الشخص أو الهيئة يصحبها تساؤلات لماذا لا يفعل ذلك.
ويحدث هذا النوع من الشائعات على عدة أشكال، مثل أن تختلق قوى المعارضة خبرًا عن قرار حكومي بزيادة المرتبات أو التعيينات أو الحد الأدنى للأجور أو خبر إيجابي، وتضطر الحكومة لنفي الخبر لتنقلب مشاعر الفرح عند الجماهير لمشاعر غضب واستياء، ويحدث هذا الأسلوب أيضًا لابتزاز الشخصيات العامة، مثل نشر أخبار مفبركة لتبرع الشخصيات العامة لجهة خيرية ما أو لمعالجة كارثة طارئة، لتجبر هذه الشخصية للتبرع بالفعل، أو تصدر بعد نفي الخبر سؤال «لماذا لا يتبرع مع أنه ثري؟».
ويهدف هذا الأسلوب إلى التلاعب بالحقائق ونشر تغيير أدوار الأطراف في أي قصة تُنشر، فيصبح المجرم بطلًا والمقتول مجرمًا، أو يصبح المُحتل رجل سلام، والمدافع عن أرضه أو نفسه إرهابيًا.
ويعلق مؤرخ أمريكي (خوان كول) عن ازدواج المعايير في اختيار المصطلحات: «الإرهابيون البيض ليسوا إرهابيين عمومًا، بل هم قتلة أو مجرمون بسيطون، بينما يصنف على الفور نظراءهم العرب أو المسلمين على أنهم إرهابيون»، وأضاف قائلًا إن: «الإرهابيين البيض أو الإرهابيين المسيحيين لن يقَدموا أبدًا نموذجًا للبيض أو المسيحيين. من ناحية أخرى، فإن العربي سوف يكون دائمًا ممثلًا للعيوب الافتراضية للمجتمع الذي يفترض أنه ينتمي إليه».
حشد الجماهير للحرب أو الضربات العسكرية وسيلة يستخدمها الكثير من الرؤساء لرفع شعبيتهم أو لتحويل انتباه الجماهير عن المشاكل الداخلية أو لقمع المعارضة أو لتنفيذ قرارات استثنائية لا يقبل بها الشعب في الأحوال العادية، فوقت الحرب لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وأي معارضة أو مطالب أو حتى فضائح يصعب أن تجد آذانًا مصغية عندما تقرع طبول الحرب.
ومن أمثلة هذا الأسلوب ما حدث في 31 أغسطس (آب) 1939، حين اقتحمت قوات خاصة ألمانية بلباس مدني محطة الإذاعة الألمانية في جليفيتش وبثوا إعلانًا بولنديًا: «انتباه! محطة البث بجليفيتش في أيدي البولندية»، لتكون هذه العملية ذريعة أمام الرأي العام العالمي لاجتياح بولندا، وفي اليوم التالي غزت القوات الألمانية بولندا. لتبدأ الحرب العالمية الثانية.
نجد أن الرؤساء الأمريكيين استخدموا هذا الأسلوب عدة مرات، إذ استخدم جورج بوش مصطلح الحرب الصليبية، لنيل تأييد جماهيري أكبر تحركاته العسكرية، حين قال في الأسابيع التي أعقبت هجمات 11 سبتمبر (أيلول) عام 2001: «هذه الحملة الصليبية. هذه الحرب على الإرهاب ستستغرق فترة من الوقت».
ووصلت نسبة القبول الشعبي للرئيس جورج بوش إلى 90% بعد أحداث 11 سبتمبر، التي استغلتها ماكينة الإعلام الأمريكي لنشر الخوف والتهديد بين الشعب الأمريكي مما ساعد على ترويج سياسة «الحرب على الإرهاب» الخارجية للولايات المتحدة التي لا تزال مستمرة حتى اليوم.
والرئيس كلينتون حاول الهرب من العزل بسبب فضيحة مونيكا بشن غارات جوية على العراق، واستمرت الغارات الجوية من يوم 16 إلى 19 ديسمبر عام 1998. واستهدفت الغارات مصانع أسلحة، ووكالات استخبارات عراقية، وتحصينات الجيش العراقي، وبذلك افشل تمرير قرار عزله في مجلس الشيوخ.
ولكن هذا الأسلوب قد يتحول لكارثة بمستخدمه إذا استُخدم بطريقة خاطئة، فالحرب قد تحرق النظام بدلًا من أن تثبته، وهذا ما حدث في عام 1982 حين دخل النظام العسكري بالأرجنتين حرب الفوكلاند لصرف أنظار الشعب عن المشاكل الداخلية والانهيار الاقتصادي، لكن الهزيمة في الحرب سرّعت من سقوط شرعية النظام، وخروج تظاهرات ضخمة ضده، لتكون بداية النهاية لهذا النظام العسكري.
المصدر: ساسة بوست
بتوقيت بيروت