أثار ارتفاع معدلات انتحار الجنود في صفوف الجيش الأمريكي مؤخرًا مخاوف مسؤولين أمريكيين من تداعيات ذلك الأمر على مستقبل أقوى جيوش العالم؛ إذ يعد الانتحار حاليًا السبب الرئيس الثاني للوفاة بين العسكريين الأمريكيين.
وقد خلص تقرير أصدرته «وزارة الحرب الأمريكية (البنتاغون)» في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي إلى ارتفاع معدلات انتحار الجنود الأمريكيين أثناء الخدمة بشكل كبير، إذ ارتفعت النسبة من 18.5 حالة انتحار لكل 100 ألف جندي عام 2013، إلى 24.8 حالة عام 2018.
وجاء تقرير البنتاغون بعد انتحار ثلاثة بحارة أمريكيين، يعملون على متن حاملة الطائرات جورج دبليو بوش في أواخر شهر سبتمبر الماضي؛ ليرتفع العدد الإجمالي للوفيات الانتحارية لأفراد الطاقم إلى خمسة خلال العامين الماضيين.
وقد كشف أحدث تحديث رسمي لسجلات البحرية الأمريكية عن انتحار نحو 46 من أفراد الخدمة الفعلية، وأربعة جنود احتياطيين خلال الفترة ما بين 1 يناير (كانون الثاني) و5 سبتمبر 2019. كما ارتفعت عدد حالات الانتحار أثناء الخدمة في البحرية بشكل مضطرد منذ عام 2016، عندما توفي 52 بحارًا.
وفي العام الماضي سجلت البحرية 68 حالة انتحار في الخدمة الفعلية، أي حوالي 20.7 لكل 100 ألف شخص، وهي نسبة مرتفعة مقارنة بأحدث معدل مدني متاح لعام 2016، والذي بلغ 26.8 حالة انتحار لكل 100 ألف شخص. وتشمل غالبية تلك الحالات الجنود الأصغر سنًا (25 سنة أو أقل)، والذين لم يشاركوا في أعمال القتال أو لم يروها.
حسب التقرير السنوي لعمليات الانتحار سُجلت 541 حالة انتحار في صفوف الجيش الأمريكي عام 2018، بينهم 187 مجندين، و79 بحارًا، و77 من المارينز، و63 طيارًا، بالإضافة إلى 118 من الحرس الوطني للجيش، و17 من أعضاء الحرس الوطني الجوي. وكانت الأسلحة النارية هي الطريقة الأكثر شيوعًا للانتحار بين العسكريين؛ إذ تمثل أكثر من 60% من جميع حالات الانتحار التي وقعت.
وأشار التقرير أيضًا إلى أن هناك زيادة سنوية بمعدل 6% من الوفيات كل عام، وأن الرجال المجندين الذين تقل أعمارهم عن 30 مثلوا نحو 60% من حالات الانتحار في عام 2018. ونُشر التقرير لأول مرة معدلات الانتحار بين أفراد الأسر العسكرية، وكان معدل انتحار الأزواج العسكريين 9.1 لكل 100 ألف من الإناث، و29.4 لكل 100 ألف للأزواج الذكور.
لا تقتصر ظاهرة ارتفاع معدلات الانتحار على أعضاء الخدمة العسكرية فقط، بل تطال أيضًا المحاربين القدامى. ففي سبتمبر الماضي، أًصدرت وزارة شؤون «المحاربين القدامى» تقريرًا ينذر بالخطر، يُظهر أن ما لا يقل عن 60 ألفًا من قدامى المحاربين توفوا بسبب الانتحار خلال الفترة من 2008 إلى 2017.
وأشار التقرير إلى أنه في عام 2017 توفي أكثر من 6100 من المحاربين القدامى بسبب الانتحار، بزيادة قدرها 2٪ عن عام 2016، وزيادة إجمالية قدرها 6٪ منذ عام 2008. ووجد التقرير أن الأسلحة النارية كانت هي الأكثر استخدامًا بين المنتحرين.
وكان البيان الذي أدلى به وزير شؤون المحاربين القدامى روبرت ويلكي، أشار إلى أن أزمة انتحار الجنود السابقين تجاوزت قدرة وزارة شؤون المحاربين القدامى على معالجتها، ويجب التنسيق مع الشركاء المحليين والولائيين والخاصين لمواجهة هذه الأزمة.
وقال ويلكي: «إن وزارة شؤون المحاربين القدامى تعمل على منع الانتحار بين جميع المحاربين القدامى، كما تبنت الوزارة نهجًا شاملًا للصحة العامة لمنع الانتحار، باستخدام إستراتيجيات مجمعة تضم قطاعات مختلفة: المجتمعات الدينية، وأصحاب العمل، والمدارس، ومنظمات الرعاية الصحية، للوصول إلى قدامى المحاربين ومساعدتهم».
وفقًا للتقارير الأمريكية كان معدل الانتحار بين الأفراد العسكريين أقل من المدنيين المتطابقين في العمر والجنس في بداية الأمر، ولكنه ارتفع بعد ذلك في غضون 10 سنوات منذ بدء حرب العراق عام 2003. ومن ثم بدأت موجة تصاعد القلق بشأن انتحار العسكريين؛ إذ جاء الجنود المشاركون في عمليات عسكرية في مقدِّمة المعرَّضين لخطر الإقدام على الانتحار. ووصل معدل الجنود الذين يحاولون الانتحار، أو إلحاق إصابات بأنفسهم إلى 17.5 لكل 100 ألف عام 2006، في الوقت الذي حاول فيه 2100 جندي أيضًا الانتحار عام 2007.
وبدا ارتفاع معدلات الانتحار واضحًا، عندما أفادت وزارة الدفاع الأمريكية أن سنة 2009 كانت «قاسية»، إذ سُجل فيها رقم قياسي في حالات الانتحار بين عناصر سلاح البر الأمريكي وصل إلى 160 حالة. وقال الكولونيل كريستوفر فيلبريك، العضو في مجموعة عمل لمكافحة عمليات الانتحار في صفوف الجيش: «لا شك أن 2009 كانت سنة قاسية بالنسبة لسلاح البر على صعيد عمليات الانتحار». ومع مطلع عام 2012 سُجلت أيضًا 154 حالة انتحار وقعت خلال 155 يومًا بين القوات العاملة خارج الولايات المتحدة، 50% منها وقعت في أفغانستان.
وحسب ما أشارت إليه التقارير فإن أرقام حالات الانتحار في تلك الفترة التي أعقبت حرب العراق كانت مثيرةٌ للقلق؛ لأن البنتاغون كان يتوقع أرقامًا أقل. غير أن هذه الإحصائيات كانت تشمل فقط الجنود العاملين في الخدمة بالجيش الأمريكي، ولا تشمل حالاتِ الانتحار بين قدامى المحاربين.
لم يقدم تقرير البنتاغون المشار إليه أي شرح لأسباب زيادة حالات الانتحار بين الجنود، ومع ذلك يرى عدد من المحللين أن أسباب تزايد معدلات الانتحار «معقدة» وتُنذر بحدوث أزمات خطيرة في المستقبل.
فقد أشارت بعض الدراسات إلى أن الإحراج من طلب المساعدة يمنع الكثير من الجنود من الحصول على العلاج الذي يحتاجونه، وهو ما يزيد من فرص تعرضهم للانتحار. وهو ما أشار إليه قائد العمليات البحرية، مايك جيلداي، في تعليقه على حادث انتحار ثلاثة بحارة أمريكيين، قائلًا: «إن البحارة غالبًا ما تظهر عليهم علامات الضيق، لكن زملاءهم من أعضاء الخدمة لم يتمكنوا من التعرف على مؤشرات لخطر الانتحار»، مشددًا على أهمية أن يشعر البحارة بالراحة، وأن يكون لديهم الشجاعة لطلب المساعدة دون خوف من الحكم أو العواقب.
ومن بين الأسباب التي أشار إليها أيضًا الخبراء، العمليات العسكرية المتزايدة، وضغوط ما بعد الصدمة، وسوء استخدام العقاقير الطبية، والمشكلات المادية الشخصية، كما أظهرت إحصائيات لوزارة الدفاع الأمريكية أن الاعتداءات الجنسية، والإفراط في الكحوليات، والعنف المنزلي، تتكرَّر من الجنود العاملين في الخدمة بشكل كبير.
وحسب المحللين يرتبط عدد من العوامل النفسية والاجتماعية بخطر الانتحار، إذ كانت الضغوطات الفردية هي السبب الأكثر شيوعًا لدى العسكريين المنتحرين، أعقبها المشاكل المرتبطة بصعوبات أماكن العمل. فيما تشمل الحالات الطبية الأخرى المرتبطة بزيادة خطر الانتحار، إصابة الدماغ الرضخية (TBI)، والألم المزمن، واضطرابات النوم، وهذه الظروف يمكن أن تُسهم بشكل كبير في زيادة خطر الانتحار للأفراد المتضررين.
ويرى علماء الاجتماع العسكري في الولايات المتحدة أن القوات المسلحة كانت تمثِّل اختيارًا للجنود الراغبين في الهروب من مجتمعٍ يقوم في بنائه على المنافسة الحرة، والتي لا يستطيعون الدخول إلى حلبتها، بالإضافة إلى رغبتهم في الحصول على دَخْلٍ عالٍ لا يتمكنون من إيجاده في الحياة المدنية؛ ولهذا يكون مِن المنطقيِّ أن يفكر الجنود الأمريكيون في الانتحار، في ظلِّ ظروف قتالية صعبة، يعانون فيها من الخوف والذعر، ولا يَرَوْنَ حولهم إلا القتل والدمار والنيران والقنابل.
ويمكن القول إن حالات الإحباط، والانهيار العصبي، والخواء النفسي والروحي، المختلط بالإحساس بالذنب لقتل الأبرياء يكون الدافع الرئيس وراء إقدام العسكريين على الانتحار.
ووفقًا لدراسة أجرتها مؤسسة «راند» في 2008 فإن هناك 300 ألف من قدامى المحاربين في العراق وأفغانستان يعانون حاليًا من اضطراب ما بعد الصدمة أو الاكتئاب الشديد، ويعاني نحو 320 ألف شخص آخر من إصابة دماغية رضخية، أو تلف في الدماغ. وهذه الغالبية لا تتلقى المساعدة من البنتاغون ووزارة شؤون المحاربين القدامى الذين يهتمون بإخفاء الحقائق غير السارة أكثر من اهتمامهم بتوفير الرعاية. واتهمت الدراسة الحكومة الفيدرالية بالفشل في رعاية المحاربين القدامى على مسؤوليتها الخاصة، محذرة من اضطراب ما بعد الصدمة وإصابة الدماغ المؤلمة، والذي سيكون لها عواقب بعيدة المدى ومدمرة.
وحذرت الدراسة من أن الجنود الأكثر عرضة للانتحار داخل الخدمة العسكرية وخارجها، يواجهون مخاطر أكبر للمشاكل النفسية الأخرى، والتي قد تسبب خسائر اقتصادية عالية. إذ أن لديهم معدلات أعلى من السلوكيات غير الصحية – مثل التدخين، والإفراط في تناول الطعام، والجنس غير الآمن – ومعدلات أعلى من مشاكل الصحة البدنية والوفيات. علاوة على أن هذه الظروف يمكن أن تُضعف العلاقات، وتُعطل الزواج، وتزيد من صعوبة الأبوة والأمومة، وتسبب مشاكل في الأطفال قد تمتد إلى عواقب الصدمات القتالية عبر الأجيال.
ومع زيادة معدلات الانتحار بشكل كبير في عدد العسكريين، يرى الخبراء أنه من الضروري تقديم علاجات نفسية متطورة لاستهداف الأفكار والسلوكيات الانتحارية، ومساعدة المرضى على تطوير مهاراتهم للتغلب على الأزمات الانتحارية. بالإضافة إلى إقامة ورش عمل تدريبية للجنود تستهدف تقييمهم وتوعيتهم بمخاطر الانتحار. كما شدد الخبراء على أهمية توفير رعاية فعالة واستعادة قدامى المحاربين للصحة العقلية وتوفير الإمكانيات اللازمة لهم لعلاجهم.
وأشار تقرير البنتاغون مؤخرًا إلى أن وزارة الدفاع ملتزمة بمنع الانتحار داخل الجيش، وتعتمد الوزارة على منهج الصحة العامة لمعالجة قضية ارتفاع عدد حالات انتحار العسكريين. ويركز هذا النهج على الحد من مخاطر الانتحار لجميع أفراد الجيش وأسرهم من خلال محاولة معالجة عدد لا يحصى من المخاطر الكامنة والعوامل الديموغرافية الاجتماعية (على سبيل المثال، التردد في طلب المساعدة، والمشاكل الزوجية، والوصول إلى الوسائل المميتة)، كما يعزز عوامل الحماية (مثل الروابط الاجتماعية القوية، وحل المشكلات، ومهارات التعامل).
كذلك وضعت وزارة الدفاع الأمريكية، عددًا من موارد الصحة العقلية لأفراد الخدمة والمحاربين القدامى، بما في ذلك خط المساعدة لدعم الأزمات للمتضررين ممن يرغبون في التحدث إلى مستشارين للتعامل مع مشكلاتهم.
يذكر أنه في أغسطس (آب) 2018، وقًع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على ميزانية البنتاغون لعام 2019 بقيمة بلغت 716 مليار دولار، وينص قانون الموازنة على زيادة رواتب أفراد القوات المسلحة بنسبة 2.6%، وهو ما اعتبره البعض خطوة جيدة لتحسين رواتب الجنود وظروفهم المادية.
المصدر: ساسة بوست
بتوقيت بيروت