لم تجد بيروت حرجاً، منذ مئة سنة على الأقل، في الاصطفاف في المحور الفرنكوفوني ثقافياً. فهذه المدينة التي اختبرت الانتداب الفرنسي، وقبله الرعاية السياسية والثقافية الفرنسية في زمن حكم القناصل إبان الحقبة العثمانية، لا تنظر إلى اللغة الفرنسية بوصفها لغة محتل، بل لغة النخب التي يجب الحفاظ عليها، وهي تتسم بالانسجام مع مكونات لبنانية تعاطت مع الفرنسية كلغة صالونات، وفرضتها كجزء من صورة نخبوية يتمسك بها اللبناني، تميزه في محيط عربي تمسك باللغة العربية كخيار أول، قبل أن يتشظى في الثقافة الإنجليزية.
والفرنكوفونية، إرث يعبر به اللبنانيون منذ مئة عام على ضفاف الكتب والفعاليات الثقافية في العالم، يبدأ من الأدب والرواية، ولا ينتهي بالسينما والموسيقى، بالنظر إلى أن بيروت تتعاطى مع الفرنكوفونية كفكر وثقافة ورؤى للعالم، وكرافد للهوية الثقافية. وخلافاً للمسافة التي بدأت تتسع بين المكونات الشعبية والثقافة الفرنكوفونية في دول أعضاء في المنظمة الفرنكوفونية، فإن لبنان واحد من 3 دول من أصل 55 يلتزم الفعاليات الثقافية بكاملها، إلى جانب فرنسا وكندا، ومنها الشهر الفرنكوفوني الذي يُحتفل به طوال الشهر، خلافاً لدول أعضاء أخرى في المنظمة.
أبعد من العلاقة السياسية
يتجنب لبنان وسم العلاقة مع الفرنكوفونية بالبُعد السياسي، رغم الاصطفافات السياسية في القرن الماضي التي دفعت لبنان إلى هذا المحور، والانقسام الطائفي حول العلاقة مع فرنسا. فالتجارب التي تلت مرحلة الاستقلال، وتنوع الإنتاج الفكري اللبناني باللغة الفرنسية، والذي قدمه مبدعون من مختلف الطوائف، يثبت أن الفرنسية في لبنان، ليست لغة أجنبية بقدر ما هي لغة تسهم في تنوع لبنان الثقافي. وثمة عامل اجتماعي يحدد العلاقة باللغة الفرنسية تكشفه الأستاذة الجامعية الدكتورة زهيدة درويش في دراسة أعدتها في السابق، تفضي إلى أن هذه اللغة بقيت امتيازاً لطبقة ميسورة أو لطائفة يسهل عليها إرسال أبنائها إلى مدارس الإرساليات الأجنبية، فأصبحت بذلك عنصر تمايز طبقي ولغة تمايز فرضت نفسها في بعض الصالونات البيروتية.
هاجس الحرية
وخلافاً لرؤية عربية مغاربية للغة الفرنسية على أنها لغة استعمار، يتضح أن التمسك اللبناني بالفرنسية يعود إلى إيمان عميق بأن فرنسا تتيح مساحة حرة في التعبير، انعكست في الإرث الأدبي الذي تركه مبدعون فيها، وهي لغة، إلى جانب هذا الموروث الإبداعي الحر، يُنظر إليها على أنها نتاج اختيار واعٍ وحر لدى شريحة من اللبنانيين الذين تمازجوا مع اللغة الفرنسية. وهذا لا يعني رفضاً للهوية العربية، بقدر ما هو تكريس لخصوصية لبنانية تقوم على التفاعل مع اللغة الفرنسية، وهي لغة الإرساليات الأجنبية منذ القرن التاسع عشر.
ويُستدل إلى ذلك في دفاع الكاتبة الراحلة ناديا التويني عن الكتابة بالفرنسية التي قالت يوماً إن اللبنانيين يسعون إلى "بلورة هذه الهوية وإلى التأكيد عليها وتفعيلها عن طريق التعبير عنها باللغة الفرنسية التي تؤمن لها وسيلة لتعرّف عن نفسها أمام الشعوب التي يجمعها عشق الكلمات ذاتها والتي تدخل في علاقة أخذ وعطاء هي في الواقع الغاية العميقة من كل ثقافة".
لذلك، يفاخر الأدباء الذين يكتبون باللغة الفرنسية، وينظر إليهم على أنهم كتاب نخبة. وبرز كثيرون منهم في لبنان، بينهم الشاعرة اللبنانية الراحلة ناديا تويني، زوجة الصحافي الراحل غسان تويني، والكاتب الفرنكوفوني أمين المعلوف الحائز على جائزة غونكور عن روايته "صخرة طانيوس"، والكاتبة ليلى بركات، والكاتبة الراحلة مي منسى والروائي ربيع جابر الحائز على جائزة "البوكر" العربية ربيع جابر، والكاتب الكسندر نجار الذي ابتكر جائزة "فونيكس" للأدب، التي تكافئ الكاتب اللبناني الناطق بالفرنسية وبالعكس، وغيرهم الكثير.
قطب اللغة الفرنسية في المشرق
لبنان الذي ينظم في تشرين أول (أكتوبر) من كل عام معرض الكتاب الفرنكوفوني، وانتخب رئيسه ميشال عون في العام الماضي نائبا لرئيس القمة الفرنكوفونية، واعتمدت المنظمة الفرنكوفونية، بيروت مقرا لمكتبها الإقليمي في الشرق الأوسط، يعتبر هذا البلد قطباً لنشر اللغة الفرنسية في المشرق. كما يعتبر شريكاً لفرنسا في جهود الحفاظ على هذه اللغة وانتشارها، رغم أنها ليست اللغة الرسمية الأولى في البلاد، بل العربية هي اللغة الرسمية، بالنظر إلى أن لدى فرنسا في لبنان أكبر شبكة من المدارس الفرنسية في العالم بالإضافة إلى برنامج لدعم وسائل الإعلام الفرنكوفونية. ويتضمن البرنامج الثقافي الفرنكوفوني في لبنان فعاليات أساسية بينها معرض الكتاب الفرنكوفوني في بيروت، وهو ثالث المعارض الفرنكوفونية في العالم، وشهر الفرنكوفونية الذي يختتم في نيسان (أبريل) من كل عام بيوم المتاحف.
جزء من ثقافة اللبنانيين
ومع أن هذه اللغة، باتت عرضة لتحديات أبرزها تنامي اللغة الأنجليزية، إلا أن أفولها في لبنان لا يبدو تصوراً منطقياً. ويقول الأستاذ في المعهد العالي للدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية في الجامعة اللبنانية الدكتور هيثم قطب: "إن اللغة الفرنكوفونية دخلت في ثقافة اللبنانيين، والاقتناع بثقافة معينة شيء صعب جدا ولو كانت دخلت بأسلوب سطحي لكانت اختفت منذ وقت طويل".
ويعرب قطب عن استغرابه كيف اللغة الفرنسية لا تزال تقاوم في لبنان وموجودة بهذا الوجود القوي، بالرغم من كل الاجتياح الذي أحدثته اللغة الأنجليزية في عالمي الاقتصاد والسياسة، لافتاً إلى أن هذه اللغة "حافظت على وجودها القوي"، مشدداً على أن "الوجود الثقافي الفرنسي ليس مرتبطا بمصلحة فرنسية بل مرتبط بالثقافة الفرنسية بحد ذاتها".
ويقول: "معرض الكتاب الفرنسي الذي ينظم في بيروت هو ثالث أكبر معرض في العالم بعد الأول في باريس والثاني في مونريال، وهو من أهم المعارض في العالم، والتأثير الفرنكوفوني لا يقتصر على المعارض والمتاحف التي تفتح مجانا في الليل، لا بل هناك عيد الموسيقى الآتي من خلفية فرنكوفونية، وكذلك الكثير من النشاطات التي تنظمها المنظمات غير الحكومية مثل أطباء بلا حدود وممرضون بلا حدود وكل النشاطات الإنسانية والبيئية المنظمة كلها آتية من خلفية فرنسية إلى لبنان".
ويضيف قطب: "إذا نظرنا إلى بيت بيروت حيث سينظم الملتقى الخامس للرابطة العربية للبحث العلمي وعلوم الاتصال في أواخر تشرين ثاني (نوفمبر) المقبل، فالبيت هو من تنظيم بلدية باريس، والكثير من المراكز الفرنسية في لبنان ومنها المركز الثقافي الفرنسي تتابع دائما موضوع الفرنكفونية"، مشيراً الى ان "نظرة اللبنانيين إلى اللغة الفرنسية ليست نظرة "محتلة" بل نظرة ثقافية، فاللبناني عندما يتحدث الفرنسية فإنه يفتخر بها وينظر إليها نظرة إيجابية وليس نظرة على أنها لغة "محت" بينما إذا ذهبنا إلى الجزائر والمغرب وخصوصا الجزائر فنجد أنهم ينظرون إليها على أنها لغة محتل ولغة قمع وأنها ليست ذات تاريخ مشرف".
أسس سياسية ومؤسساتية
يُستدل إلى هذه المكانة، بالرؤية الفرنسية للثقافة الفرنكوفونية في لبنان. وترى فرنسا أن مستقبل اللغة الفرنسية في لبنان لا يتوقف على فرنسا بل على لبنان. ذلك أن التنوع الثقافي واللغوي لا يمكن فرضه بقرار ولا يمكن بناؤه بتمويل خارجي فهو يقوم على أسس سياسية ومؤسساتية وقانونية، في وقت تلتزم فرنسا بتنفيذ "الميثاق اللغوي" الذي وقعه لبنان منذ بضع سنوات مع المنظمة الدولية للفرنكوفونية وذلك دعماً للفرنكوفونية اللبنانية.
ويركز الرسميون في لبنان على دور الفرنكوفونية في تشجيع الحوار بين مختلف الثقافات ومساهمتها في إعطاء اللبنانيين لغة مشتركة غنية وثقافة عريقة هدفها التقريب بين مختلف الثقافات ومد جسور المعرفة والتواصل والتقدم. ويعتبر الرئيس اللبناني ميشال عون أن الفرنكوفونية تهدف، فضلاً عن جعل اللغة الفرنسية قريبة ومحبوبة من المجتمعات، إلى تعميق الحوار بين الحضارات وتقريب الشعوب عبر معرفة بعضها البعض.
وبالارقام، تحتل اللغة الفرنسية المرتبة الثانية، بعد العربية، على قائمة اللغات التي يتم تدريسها في المدارس، ذلك أن أكثر من 50% من التلاميذ مسجلون في مناهج فرنكوفونية وتصل هذه النسبة إلى حوالى 60% في القطاع الرسمي والأمر نفسه ينطبق على الجامعة اللبنانية، التي تستقبل نصف تلاميذ لبنان، والتي تحل اللغة الفرنسية فيها في المرتبة الثانية كلغة تدريس بعد اللغة العربية.
هوية اجتماعية
يشير الإقبال على الكتابة بالفرنسية، وقراءتها التي تضاعفت 10% في الأعوام الأخيرة، بحسب إحصاءات فرنسية، على ميل لبناني نحو هوية سوسيوـ سياسية، تنطوي على مقاربات طبقية وطائفية، تتخطى حضورها في الجانب الأكاديمي الذي لم يفقد الكثير من شغف اللبنانيين نحو الفرنسية، رغم تمدد اللغة الأنجليزية بشكل كبير، مدفوعاً بتغييرات تكنولوجية ورقية وعلمية.
ولا ينفي الأستاذ محاضر في الألسنية المعلوماتية والإعلام الرقمي الدكتور غسان مراد أن الثقافة الفرنكوفونية تراجعت في لبنان، ويرجع ذلك إلى أسباب واضحة يتقدمها تمدد التكنولوجيا وكل استخداماتها والتصنيع الحاصل في العالم الذي يتم باللغة الانجليزية.
ويقول مراد: "الناس تتبع من يصنع لا من يستخدم، وحتى في فرنسا هناك صعود للغة الأنجليزية، ذلك أن التوجه العالمي أصبح ميالا نحو الأنجليزية أكثر من الفرنسية، وانتشار اللغة الانجليزية وانفتاحها بات يؤدي إلى تراجع اللغة الفرنسية، ومن ضمن الأسباب أن اللغة الفرنسية هي لغة محافظة".
وليس من المفترض أن تحل الأنجليزية مكان الفرنسية، ولا العكس في لبنان، بل اللغة العربية في التعامل الثقافي في بلد كلبنان، لأنه أساسا من الخطأ أن يتعامل لبنان باللغة الأنجليزية أو الفرنسية بل العربية بغض النظر عن أهمية هاتين اللغتين الغربيتين ومدى تطرهما أو تراجعهما، كما يقول مراد.
ويستطرد: "الفارق أن المثقفين الذين يطلعون على الثقافات العالمية ممن يتكلمون اللغة الفرنسية لديهم امكانية الإطلاع لأن الفرنسيين لا يزالون يترجمون بسرعة الإنتاج الأنجليزي ما يعني أن بإمكانهم الاطلاع على الإنتاج الأنجليزي باللغة الفرنسية، لكن انتشارهم سيكون أصعب لأنهم ينشرون باللغة الفرنسية، وانتشار اللغة الفرنسية كما قلت بدأ يضعف تدريجيا في كل العالم، بالإضافة إلى أن البحث العلمي والانتشار الثقافي والمجلات التي تنشر الأبحاث والدراسات والمحسوبة في العالم على أنها ذات قيمة علمية فأكثرها محددة من المجلات الأمريكية، وباتت المجلات التي تنشر بالفرنسية في مرتبة متدنية في عملية ترتيب المجلات عربياً.
ويشير مراد إلى أنه "على مستوى الـ 55 دولة فرانكوفونية، يعتبر الفرنسيون أن هذه الدول تحافظ على اللغة الفرنسية أكثر مما يحافظ عليها الفرنسيون، في إشارة إلى متحدثي اللغة الفرنسية في الجزائر والمغرب ولبنان وتونس وكندا ودول إفريقية كثيرة، على الرغم من أن هناك الكثير من الأشخاص والجمعيات تتكلم عن أهمية وضرورة المحافظة على اللغة الفرنسية، وذلك يعود إلى انتشار الأبحاث والدراسات العلمية والتطور التكنولوجي".
تفوق فرنسي
كان لبنان وما زال يقرأ الناس فيه كثيراً بالفرنسية، وتمثل هذه اللغة ركناً من أركان الحياة الثقافية اللبنانية الفرنكوفونية. وتظهر الإحصاءات أنّ متوسّط بيع الكتب الفرنسية في لبنان أكثر بـ 4 مرات من الكتب المُباعة في المغرب مثلاً.
يؤكد قطب أنه في لبنان لا تزال اللغة الفرنسية معتمدة بنسبة 60 ـ 65% من إجمالي عدد المدارس فيه واللغة الأنجليزية بنسبة 35%، من غير أن ينفي أن "التوجه نحو اعتماد الأنجليزية ترك أثره على المدارس الخاصة وليس على المدارس الرسمية"، لافتاً إلى أن "الكثير من طلاب لبنان ينالون شهادة البكالوريا باللغة الفرنسية، وبعدها وعندما يتوجه معظمهم إلى الجامعات الخاصة يتحولون إلى اللغة الأنجليزية".
ويقول: "ما لاحظناه أن من يدخل إلى الجامعات الأنجليزية ويحتلون المراكز الأولى، فإن خلفيتهم هي فرانكوفونية وليست أنجليزية، فالطالب المتخرج من المدارس الخاصة لا سيما المشهورة وتعلم فيها اللغة الفرنسية يتفوق في الجامعات التي تعتمد اللغة الأنجليزية في مناهجها".
تراجع لا انحسار
أمام الحديث عن تراجع اللغة الفرنسية في لبنان، يرى قطب أن الثقافة الفرنكوفونية تراجعت ولم تتراجع، والعديد من الدراسات تفيد أنه في تاريخ لبنان كله لم يكن عدد الفرنكفونيين كما هو اليوم، رغم أنه، في نفس الوقت، هناك "طحشة" من اللغة الانكليزية ، حيث أن الفرنكفونيين هم في الوقت نفسه فرانكوفون وأنكلوفون، والعدد يتزايد إذ أن هناك إقبال من الناس على اللغة الانكليزية.
وإذ يشير إلى أن "الناس باتت تتجه نحو الأنجليزي أكثر"، يقول قطب: "هذا ليس تراجعا بقدر ما أن اختيار اللغة الأنجليزية كلغة إضافية إلى جانب الفرنسية".
ويضيف: "هناك مدارس تلغي اعتماد الفرنسية ضمن منهاجها ومدارس أخرى تدخله أو تحافظ عليه، وأكثر العوامل وراء تراجع الثقافة الفرنكوفونية في لبنان هي التكنولوجيا، كونه يتم إنجازها باللغة الأنجليزية والعامل الثاني أن أكثر البحوث العلمية تنشر بالأنجليزية، وحتى الكثير من المجالس العلمية داخل فرنسا يتحدثون باللغة الأنجليزية لأن النشر والتأليف هو باللغة الأنجليزية كما وأن الكثير من الأبحاث الفرنسية تكتب بالفرنسية لكنها تقرأ معظم المراجع بالأنجليزية".
من جهته، يقول مراد: "حاليا لا يمكن لأحد التوقع ماذا سيحصل، ولكن كل المؤشرات منذ الآن وحتى العام 2050 تؤكد أن اللغة الفرنسية هي من اللغات التي ستكون موجودة ومستخدمة، وكذلك بالنسبة للعربية لأن الدول الفرنكوفونية والدول العربية هما بالنسبة للإنتاج الحاصل "أسواق" والعالم استوعب اليوم أنه في حال أردت البيع، عليك أن تتكلم بلغة المشتري وليس بلغة البائع وهذ أصبح الأساس في يومنا هذا"، وفق تعبيره.
المصدر: عربي 21
بتوقيت بيروت