أستاذ سياسة العرب الحديثة وتاريخ الأفكار بجامعة كولومبيا في نيويورك
اعتبرت الصحافة الغربيّة وبعض السياسيين الغربيين أن الانتخابات الإسرائيلية المنعقدة في الربيع الماضي تعد بمثابة تأكيد على أن "إسرائيل" أصبحت أقل ديمقراطية وأكثر عنصرية وشوفينية. ويقال لنا إن هذا الوضع يقوّض صورة "إسرائيل" "كدولة يهودية وديمقراطية". وفي هذا السياق، ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" أن "اليسار يرى أن الديمقراطية الإسرائيلية تتخذ موقفا دفاعيا، في حين أن اليمين العرقي، الذي نجح السنة الماضية في ترسيخ التعريف الذاتي لـ"إسرائيل" كدولة قومية لليهود في إطار قانون أساسي، يعتقد أن هذه الديمقراطيّة تحتاج إلى التعديل".
لقد تغيّر الوضع الاحتفالي العام المتعلّق بقدرة "إسرائيل" على الموازنة بين مُثُلِهَا العليا ومبادئها الأساسية، أي فكرة أنها "دولة يهودية وديمقراطية"، حيث أصبح البعض مؤخّرا يتحسّر على حقيقة أن هذا التوازن المزعوم يعادل الدعم الحديث الذي يتلقاه التيار اليميني.
الالتزام بالتطهير العرقي
يتجاهل هذا التفكير الحقيقة الرئيسية المتمثّلة في أن "الديمقراطية" في "إسرائيل" ترسّخت من أجل اليهود الإسرائيليين بعد أن طرد الصهاينة 90 بالمئة من السكان الفلسطينيين خلال تأسيس "إسرائيل" سنة 1948، وتحوّلهم لأغلبية بين عشية وضحاها في هذا البلد الذي خضع لتطهير عرقي. واختار الصهاينة الحكم الديمقراطي الليبرالي للأغلبية اليهودية الاستعمارية، بينما أقاموا نظام فصل عنصري قانوني للفلسطينيين الذين لم يتمكنوا من طردهم، بالإضافة إلى عشرات القوانين العنصرية.
في الواقع، مثّل هذا الالتزام بالتطهير العرقي والحكم اليهودي حجر الأساس الأيديولوجي للحركة الصهيونية منذ نشأتها، إذ وضع والد الصهيونية، تيودور هرتزل، خططًا بشأن ما يجب فعله بالفلسطينيين الأصليين. وفي كتابه التأسيسي لسنة 1896 بعنوان "دولة اليهود"، حذّر هرتزل من اعتماد أي التزامات ديمقراطية، مشيرا إلى أن "تسلل اليهود إلى فلسطين من شأنه أن ينتهي بكارثة. وسيستمرّ هذا الأمر حتى اللحظة التي لا مفر منها عندما يجد السكان الأصليون أنفسهم عرضة للتهديد، فيجبرون بدورهم الحكومة [الحالية] على وقف توافد المزيد من اليهود. وهذا يجعل الهجرة غير مجدية ما لم تستند إلى مبدأ تفوق مضمون".
كتب هرتزل في مذكّرته أن المستعمرين اليهود "يجب أن يحاولوا دفع السكان المفلسين نحو الحدود عن طريق توفير عمل لهم في بلدان المرور العابر، وحرمانهم من أي عمل في بلدنا … يجب أن تنفّذ عملية إزالة الفقراء بشكل سري ودقيق. دعوا مالكي الممتلكات غير المنقولة يعتقدون أنهم يخونوننا ويبيعوننا أشياء بأكثر من سعرها الحقيقي، لكننا لن نبيعهم أي شيء في المقابل". ومع تضاعف عدد المستعمرات اليهودية، تضاعف نسق طرد الفلسطينيين.
في سنة 1920، أفاد عالم الهندسة الزراعية والمستعمر البولندي ومدير جمعية الاستعمار اليهودي، حاييم كالفاريسكي، بأنه باعتباره شخصا اعتاد سلب الفلسطينيين أراضيهم منذ تسعينيات القرن التاسع عشر، "انتبهت إلى مدى جديّة مسألة العرب لأول مرة بعد أول عملية شراء أرض أتممتها هنا، حيث اضطررت إلى طرد السكان العرب من أراضيهم من أجل توطين إخواننا". واشتكى كالفاريسكي من أن "الأقوال الحزينة" لأولئك الذين كان يجبرهم على الخروج "لم تتوقف عن الرنين في أذنه لفترة طويلة بعد ذلك".
المعارضة القاطعة
كان خوف الصهاينة من الديمقراطية العالمية والتزامهم بالتطهير العرقي قويًا لدرجة أنه عندما أراد البريطانيون بعد الحرب العالمية الأولى مطالبة الولايات المتحدة بتحمّل جزء من المسؤولية في مسألة فلسطين، عارض الصهاينة هذا الأمر بشكل قاطع.
من جهة أخرى، اعترضت المنظمة الصهيونية العالمية بشدة على تورط الولايات المتحدة مشيرة إلى أن "الديمقراطية في الولايات المتّحدة تعني حكم الأغلبية دون الأخذ بعين الاعتبار حقيقة تعدّد أنواع الحضارات أو مراحلها أو الاختلافات في الجودة ... فالأغلبية العددية في فلسطين اليوم هم العرب وليس اليهود. ولكن من حيث النوعية، فالحقيقة هي أن اليهود يشكّلون اليوم الأغلبيّة في فلسطين، وبالنظر إلى وجود الظروف المناسبة، سيصبحون هم الأغلبيّة أيضا من حيث العدد في غضون جيل أو جيلين قادمين".
في شأن ذي صلة، أضافت المنظمة الصهيونية العالمية: "في حال طُبّق المفهوم الحسابي الأوّلي للديمقراطية اليوم أو في مرحلة مبكرة من المستقبل على الظروف الفلسطينية، فإن الأغلبية العربية هي التي ستتفوّق، وستواجه مهمةُ إنشاء وتطوير فلسطين اليهودية القويّة بلا حدود العديد من الصعوبات".
تجدر الإشارة إلى أن المنظمة الصهيونية العالمية تجاهلت حقيقة أن الأمريكيين الأصليين والأفريقيين الأمريكيين والبعض الآخرين لا يتواجدون ضمن نسخة "الديمقراطية" الخاصة بالولايات المتّحدة. وفي السنة ذاتها، قدّم عضو الكونغرس الأمريكي اليهودي يوليوس خان بيانًا دعمه حوالي 300 شخصية يهودية من الحاخامات والعلمانيين على حد سواء، إلى الرئيس وودرو ويلسون، الذي كانت إدارته تدعم الصهاينة. وأدان هذا البيان الصهاينة بسبب محاولتهم عزل اليهود وعكس الاتجاه التاريخي المعتمد نحو التحرر، كما اعترض على قيام دولة يهودية قويّة في فلسطين باعتبارها "تتعارض مع مبادئ الديمقراطية".
"نقل إلزامي"
تبنى أتباع هرتزل الصهاينة خوفه الأساسي من الديمقراطيّة. وبالنسبة للتيار اليميني، جادل مؤسس الصهيونية التصحيحيّة، فلاديمير جابوتنسكي، سنة 1923 ضد الصهيونيّة الاشتراكيّة "الجناح الأيسر" الذي أراد طرد السكان الفلسطينيين من خلال اعتماد أساليب مخادعة. واوضّح جابوتنسكي أنه لم يكن هناك مفر من العنف وأن الاستعمار اليهودي وطرد الفلسطينيين أمران متشابهان.
خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، وضع الصهاينة خططًا للتطهير العرقي للفلسطينيين (الذي أطلقوا عليه "النقل")
علاوة على ذلك، أفاد جابوتنسكي بأنه "لن يقبل أي من السكان الأصليين طواعية بوجود سيد جديد أو حتى شريك جديد، وهو ما ينطبق أيضا على العرب. يحاول المتنافسون في هذا الوسط إقناعنا بأن العرب هم أغبياء نوعا ما ويمكن خداعهم ... [و]أنهم مستعدون للتخلي عن حقهم المكتسب منذ الولادة من أجل تحقيق مكاسب ثقافية واقتصادية. وأنا أرفض بشدة هذا التقييم المسلّط على العرب الفلسطينيين".
خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، وضع الصهاينة خططًا للتطهير العرقي للفلسطينيين (الذي أطلقوا عليه "النقل"). ومن خلال إبداء اتفاقه مع جابوتنسكي، أعلن الزعيم الصهيوني العمالي للمستوطنين الاستعماريين دافيد بن غوريون، في حزيران/ يونيو 1938: "أنا أؤيد النقل الإلزامي، ولا أرى أي شيء غير أخلاقي في الأمر". وجاء بيانه على إثر السياسة التي تبنتها الوكالة اليهودية، التي أنشأت أول "لجنة لنقل سكان" خاصة بها في تشرين الثاني/ نوفمبر 1937 لوضع استراتيجية لعمليّة الطرد القسري للفلسطينيين، كما أنشأت لجنتان إضافيتان في سنتي1941 و1948.
أعداء الفلسطينيين
في سنة 1941، خطط رئيس المنظمة الصهيونيّة العالميّة حاييم وايزمان، لطرد مليون فلسطيني إلى العراق واستبدالهم بخمسة ملايين مستعمر يهودي بولندي وأوروبي. وأفصح وايزمان عن خططه للسفير السوفيتي في لندن، إيفان مايسكي، على أمل الحصول على الدعم السوفيتي. وعندما أعرب مايسكي عن دهشته، استعمل وايزمان حجة عنصرية، شبيهة بتلك التي استخدمها الفاشيون ضد اليهود الأوروبيين في الفترة ذاتها، مردفا: "الكسل والبدائيّة التي يبديها الفلسطينيون قادرة على تحويل حديقة مزدهرة إلى صحراء. أعطني الأرض التي يحتلها مليون عربي، وسأجعل خمسة أضعاف هذا العدد من اليهود يستقرون بسهولة مكانَهم".
يخشى العديد من المدافعين عن "إسرائيل" أن تكون الفكرة المزعومة عن "دولة يهودية وديمقراطية" في خطر الآن. ولطالما استندت هذه الفكرة دائمًا إلى الموازنة بين التفوق اليهودي والتطهير العرقي، بشكل مماثل للديمقراطيات الليبرالية المتفوّقة البيضاء التي نشأت بعد عمليّات التطهير العرقي التي جدّت في كل من الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا.
في حين تمكنت مستعمرات المستوطنين الأخرى، بعد قرون من التطهير العرقي، من فرض تفوّق البيض الديموغرافي، رغم كشف السياسات الحالية المناهضة لغير البيض في الولايات المتحدة عن مدى هشاشة هذا التوازن، أصبح السكان اليهود المستعمرون في "إسرائيل" يمثّلون الأقلية من جديد في مواجهة أغلبية فلسطينية أصيلة. وتستمر تلك الأغلبية في مقاومة التطهير العرقي والحكم اليهودي المتفوق، الذي يحتفل به أنصار "إسرائيل" وأعداء الفلسطينيين تحت عنوان "الدولة اليهودية الديمقراطية".
المصدر: نون بوست
بتوقيت بيروت