قبل 10 سنوات، وتحديدًا في 2008، شهدت أكبر اقتصادات العالم ما عرف آنذاك بالأزمة المالية العالمية، أو الكساد الكبير، الذي حاولت الولايات المتحدة تفاديه بخطط تجاوزت قيمتها 3 تريليون دولار.
مرت مياه كثيرة تحت الجسور، وها هي الأسواق العالمية تشهد مرة أخرى بعض التقلبات الحادة في عدة دول، من بينها الولايات المتحدة، وهي الحالة التي وضعها الكاتب دومينيك روش على طاولة التشريح لاستشراف ما إذا كانت الولايات المتحدة مقبلة على حالة كساد جديدة.
يقول الكاتب في تقرير نشرته صحيفة «الجارديان»: «إن 10 سنوات مرت على الكساد الكبير، وبمقاييس كثيرة لا يزال الاقتصاد الأمريكي يزدهر. حيث بلغت البطالة أدنى مستوياتها منذ 50 عامًا مضت، بينما تقترب أسواق الأسهم، رغم تذبذبها، من مستويات قياسية مرتفعة، وثقة المستهلك عالية، فيما يستمر المتسوقون في التسوق. ومع ذلك هناك مخاوف من كساد يلوح في الأفق الأمريكي".
وتحذر مجموعة من الاقتصاديين من تزايد فرص الكساد؛ إذ إن الحرب التجارية التي تخوضها إدارة ترامب مع الصين تؤثر سلبًا على الدول الأخرى، وهناك الآن مؤشرات على أن الكساد قد يعود إلى الولايات المتحدة مرة أخرى. وقد تصدر وسم (#كساد_ترامب #TrumpRecession) موقع «تويتر» هذا الأسبوع، حيث عانت أسواق الأسهم الأمريكية أسوأ أيامها هذا العام.
وأشار الكاتب إلى أن دونالد ترامب تعهد بإعادة الوظائف في (قطاع) التصنيع وإنهاء العلاقات التجارية «غير العادلة» مع أكبر شركاء الولايات المتحدة التجاريين. ورغم جدال الاقتصاديين لفترة طويلة حول مدى سيطرة رئيس فعليًا على الاقتصاد، إلا أن الأسواق حاليًا قد تحركها تغريدة. وبينما قطف ترامب ثمار هذه الطفرة الاقتصادية طويلة الأمد، فإن سياساته مرتبطة أيضًا ارتباطًا وثيقًا بالقضايا التي تثير قلق المستثمرين الآن.
وجاءت عمليات بيع التصفية في السوق هذا الأسبوع بعد أن بدأ المؤشر الاقتصادي، الذي يخضع لمراقبة وثيقة، وهو منحنى العائد، في إطلاق إشارت تحذيرية. فهل يمكن أن يكون الكساد مصير أطول فترة توسع اقتصادي في تاريخ الولايات المتحدة؟
للإجابة على هذا السؤال يرصد الكاتب أربعة مجالات ينصح بمراقبتها عن كثب:
1 – منحنى العائد
يقول الكاتب: «إن كل فترة كساد خلال الستين عامًا الماضية سبقها حصول انقلاب في منحنى العائد. والمصطلح يشير إلى أن المستثمرين يترقبون وقوع مشاكل مستقبلية".
وتعتبر سندات الخزانة الأمريكية استثمارات آمنة، وعادة ما يتوقع المستثمرون فوائد أعلى لربط أموالهم بالسندات طويلة الأجل أكثر مما يتوقعون بالنسبة للسندات قصيرة الأجل. وعندما تقدم السندات طويلة الأجل أسعار فائدة أقل من السندات قصيرة الأجل؛ ينقلب منحنى العائد.
انخفضت عائدات هذا الأسبوع على سندات الخزانة لأجل عشر سنوات إلى أقل من عوائد لأجل عامين للمرة الأولى منذ عام 2007. وبالنظر إلى منحنيات العوائد، فقد رفع بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك الآن احتمال حدوث كساد بحلول يوليو (تموز) 2020 إلى نسبة 31.5 % .
وأشار الكاتب إلى الحجة القائلة بأن القوة التنبؤية لانقلاب منحنى العائد لم تعد كما كانت في السابق؛ بفضل السياسات النقدية الجريئة التي اتبعتها البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم. لكن جوس فوشر، كبير الاقتصاديين في بنك «بي إن سي»، يرى أن انقلاب العائد لا يزال «مؤشرًا موثوقًا للغاية»، ويراهن على حدوث تباطؤ في العام المقبل بدلًا عن الكساد، لكنه في كلتا الحالتين يجادل بأن انقلاب منحنى العائد يمثل أخبارًا سيئة.
الحكم: إشارة سلبية
2- الوظائف
وفيما يتعلق بالوظائف استشهد الكاتب بتغريدة لـترامب الشهر الماضي قال فيها: «وظائف.. وظائف.. وظائف»، وذيلها باختصارٍ لشعار (اجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى) ونشر رسمًا بيانيًا يظهر الانتعاش الكبير في الوظائف، عبر مجموعة واسعة من الصناعات، بدءًا من الخدمات المهنية وصولًا إلى التعدين.
وذكر المقال أن الولايات المتحدة أضافت الآن وظائف لمدة 106 أشهر على التوالي، وهي أطول سلسلة مسجلة. كما انخفض معدل البطالة إلى 3.7%، مقتربًا من أدنى مستوياته المسجلة، وهو 3.6% في عام 1969. ولا يوجد مؤشر على وجود زيادة في مطالبات إعانات البطالة.
لكن معدل نمو الوظائف يتباطأ، حيث أضاف أرباب العمل 165 ألف وظيفة شهريًا، في المتوسط، على مدار الأشهر السبعة الأولى من العام، منخفضًا عن المتوسط الذي بلغ 223000 في الشهر عام 2018. ولا تزال الأجور تنمو ببطء، بزيادة 3.2% فقط في يوليو عن العام الماضي.
وأشارت مؤسسة «كابيتال إيكونوميكس» في مذكرة حديثة، إلى أن كل كساد في الخمسين عامًا الماضية تميز بارتفاع كبير في مطالبات العاطلين عن العمل، والتي تبدأ قبل الكساد بقليل، أو في وقت بداية الكساد. وكتب الاقتصادي الأمريكي، بول أشورث: «مع بقاء المطالبات قريبة من أدنى مستوى خلال 50 عامًا، سيكون من غير المعتاد للغاية أن يكون الاقتصاد في حالة كساد بالفعل (أو في مرحلة قريبة منها) الآن".
الحكم: إشارة إيجابية
3 – سوق الأسهم
سجلت أسواق الأسهم الأمريكية مستوى قياسي جديد الشهر الماضي، لكن التقلبات اليومية في أسعار الأسهم تثير قلق المستثمرين. حيث فقد مؤشر داو جونز 800 نقطة (3%) في يوم واحد، وهو أسوأ أداء له خلال العام، مدفوعًا بانقلاب منحنى العائد والمخاوف من تصاعد الحرب التجارية مع الصين.
لكن مؤشر إس & بي 500 ارتفع بما يقرب من 26% منذ تولي ترامب منصبه (ارتفع بنسبة 175.9% في عهد أوباما، وإن كان من انخفاض ساحق) واستمر في الارتفاع في ظل بحث المستثمرين عن طرق لكسب المال في بيئة ذات سعر فائدة منخفض.
ويرى الكاتب أن هبوط سوق الأوراق المالية ليس مؤشرًا على توقع الكساد. حيث تراجعت الأسواق قبل كساد عام 2001، وفي بداية كساد عام 2008، لكن وفقًا لتحليل أجراه بن كارلسون، وهو مدير محفظة في شركة ريثولتز لإدارة الثروات، فإن معظم حالات الكساد لا يسبقها هبوط في سوق الأسهم. ويقول كارلسون: «سنواجه كسادًا في مرحلة ما، لكن الاحتمالات هي أن سوق الأسهم لن يقدم لنا إشارات تحذيرية في الوقت المناسب".
الحكم: إشارة مثيرة للقلق ولكن ليست تنبؤية
4 – إجمالي الناتج المحلي
حدوث كساد يتطلب ربعين متعاقبين من النمو الاقتصادي السلبي. وتمثل الولايات المتحدة، أكبر اقتصاد في العالم، حوالي ربع الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وتباطأ الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي في الربع الأخير إلى 2.1%، منخفضًا من 3.1% في الأشهر الثلاثة الأولى من العام، وأقل بكثير من نمو 2.98% في 2018، ولكن لا يزال إيجابيًا.
ويرى الكاتب أن العقبة الرئيسة لتباطؤ النمو في الولايات المتحدة تتمثل في سياسة ترامب الاقتصادية: الحروب التجارية. فقد بدأ ترامب نزاعات مع جميع الشركاء التجاريين البارزين للولايات المتحدة.
وبحسب الكاتب يثير النزاع مع الصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم، قلق الاقتصاديين أكثر من غيرهم؛ حيث انخفض نمو الإنتاج الصناعي في الصين في يوليو إلى أدنى مستوى له منذ 17 عامًا، وكان ذلك قبل إعلان ترامب عن جولة جديدة من التعريفات، وقد حذر كبير الاقتصاديين في جولدمان ساكس، يان هاتزيوس، هذا الشهر من «تزايد المخاوف من أن الحرب التجارية ستؤدي إلى الكساد".
ولفت الكاتب إلى أن أوروبا أيضًا ليست بمنأى، حيث تعاني ألمانيا في ظل التنافس بين الولايات المتحدة والصين، فقد تباطأ النمو إلى 0.1% في الأشهر الثلاثة حتى نهاية يونيو، كما أثر خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سلبًا، على الأقل في المملكة المتحدة حيث أعلنت الحكومة عن أول انخفاض في الناتج المحلي الإجمالي الفصلي خلال ست سنوات ونصف.
وتمثل صادرات السلع والخدمات من الولايات المتحدة حوالي 12% من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة، ويمثل الإنفاق الاستهلاكي، الذي لا يزال قويًا، ما يقرب من 68%. وقد نجحت الولايات المتحدة حتى الآن في التغلب على أزمات ترامب التجارية، لكن إلى متى سيستمر ذلك مع ارتفاع أسعار السلع وضعف اقتصادات شركائها التجاريين؟ ستتم مراجعة أرقام الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي للربع الثاني في نهاية الشهر، وستصدر أرقام الربع الثالث في نوفمبر (تشرين الثاني). وستكون تلك الأرقام هي المقياس الكبير التالي لمعرفة ما إذا كانت الطفرة الأمريكية تتحول إلى كساد أم لا، فيما يتوقع الاحتياطي الفيدرالي بالفعل تباطؤًا آخر.
بتوقيت بيروت