في الحادي عشر من كانون الثاني/ ديسمبر، من عام 1981، بدأت وحدة عسكرية في السلفادور، أُنشِئت ودُربت على يد الجيش الأميركي، بذبح كل من استطاع أفرادها العثور عليه في قرية إلموزوتي. وقبل أن يقتلوا نساء القرية وطفلاتها، قام الجنود باغتصابهن. وبلغ عدد ضحايا المجزرة أكثر من 800 شخص.
وفي اليوم الذي تلا المجزرة، بدأ إليوت أبرامز، العمل مساعدا لوزير الخارجية المعني بشؤون حقوق الإنسان والعلاقات الإنسانية في إدارة الرئيس الأميركي الأسبق، رونالد ريغان. وهمّ أبرامز بالعمل على مساعدة القيادة في التستر عن المجزرة. وزعم أمام مجلس الشيوخ أن الأنباء التي وردت عن عملية القتل الجماعي "لم تكن ذات مصداقية"، وأن الموضوع بأكمله "أُسيء استخدامه" للترويج للحركات المسلحة المناهضة للحكومة.
وفي 26 كانون الثاني/ يناير الماضي، عيّن وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، أبرامز، في منصب مبعوث الولايات المتحدة الخاص في فنزويلا، مدعيا أن الأخير "سيكون مسؤولا عن كل ما يتعلق بجهود استعادة الديمقراطية" في الدولة الغنية بالنفط.
واختيار الولايات المتحدة لأبرامز، لهذه المهمة، كان بمثابة رسالة واضحة لفنزويلا والعالم، مفادها أن إدارة الرئيس الأميركي الحالي، دونالد ترامب، تنوي التعامُل مع فنزويلا بوحشية مغلفة بالخطاب المداهن (المعتاد) عن "حب" الولايات المتحدة للديمقراطية وحقوق الإنسان. وتكمن "كفاءة" أبرامز الأساسية في دمج هذين العاملين (الوحشية والمداهنة).
وشغل أبرامز مناصب عديدة في إدارتَي ريغان، وجورج بوش الابن، وكانت في غالبيتها مناصب حكومية تحمل عناوين فضفاضة مرتكزة على "الأخلاق". فقد كان مساعدا لوزير الخارجية لشؤون المنظمات الدولية (عام 1981)، ومساعد وزير خارجية المعني بشؤون حقوق الإنسان والعلاقات الإنسانية (1981-1985)، ومساعد وزير الخارجية لشؤون الأميركيين الداخلية (1985-1989)، ومدير الديمقراطية وحقوق الإنسان والعمليات الدولية، في مجلس الأمن القومي (2001-2005)، وأخيرًا، نائب مستشار الأمن القومي في إدارة بوش الابن، المعني بشؤون لإستراتيجية الديمقراطية العالمية (2009-2005).
وخلال عمله في هذه المناصب، شارك أبرامز في الكثير من أفظع الممارسات السياسية للخارجية الأميركية على مدار العقود الأربعة الماضية، والتي كان يدعي خلالها، تعاطفه واهتمامه بأولئك الذين كانوا يُقتلون بالتعاون مع أصدقائه. وبالنظر إلى الوراء، من المدهش أن نرى مدى تدخل أبرامز بأسوأ الإجراءات الأميركية.
وفي جميع هذه الدول، لم تكن القطاعات الواسعة من الشعوب، راضية عن موت أبنائها في مزارع البن أو جرّاء الأمراض التي يسهل معالجتها. لذا فإنه من المنطقي أن يحمل بعضهم السلاح لمواجهة الأنظمة القمعية، أو تفضيل شرائح واسعة المهادنة عن المواجهة، لكن من وجهة نظر البيت الأبيض، فقد كان جميع فقراء هذه الشعوب، "منتمين" على الأرجح للشيوعية، ويتلقون أوامر من موسكو، وبالتالي فيجب أن يتعلموا درسا.
السلفادور، حماية الجزارين..
لم تكن مجزرة قرية إلموزوتي سوى نقطة في بحر المجازر التي ارتُكبت خلال ما سُمي بـ"الحرب الأهلية" في السلفادور خلال ثمانينيات القرن الماضي، والتي قُتل فيها نحو 75 ألف إنسان، فقدوا أرواحهم بشكل أساسي على يد الحكومة وفرق الموت المرتبطة بها. حيث ارتكب النظام السلفادوري جرائم بربرية وشنيعة لا يوجد مكافئ معاصر لها سوى "داعش".
وانتقد مسؤول ملف محاربة التمرد في الوزارة الخارجية الأميركية خلال الستينيات، تشارلز ميشلينغ جي آر، سياسيات إدارة ريغان في الثمانينيات، من خلال مقالة كتبها في صحيفة "لوس أنجلس تايمز"، قال فيها إن الولايات المتحدة تدعم "عصابات أوليغارشية" في السلفادور وأماكن أخرى، والتي كانت تنفذ عمليات إبادة بحقّ المدنيين على نمط المجازر التي ارتكبتها النازية.
وكان أبرامز، أحد مهندسي سياسة إدارة ريغان التي تمثلت في منح الدعم الكامل للحكومة السلفادورية. ولم تُزعجه ممارسات النظام، بل إنه لم يُشفق على الهاربين من المسلخ السلفادوري. ففي عام 1984، بدا تماما مثل مسؤولي ترامب اليوم، حيث أنه عارض أن يحصل السلفادوريون الذين لجأوا إلى الولايات المتحدة بشكل غير قانوني، على أي نوع من الوضع أو التعامل الخاص. وقال إن "بعض المجموعات تدعي أن الأجانب غير النظاميين الذين تتم إعادتهم إلى السلفادور يواجهون الاضطهاد وغالبا بالموت. ومن الواضح أننا لا نعتقد أن هذه الادعاءات صحيحة وإلا لما كنا سنرحل هؤلاء الناس".
وبعد أن وجدت لجنة تقصي حقائق تابعة للأمم المتحدة عام 1993، أن أصدقاء أبرامز في النظام السلفادوري، ارتكبوا 95 في المائة من الجرائم العنيفة في السلفادور منذ عام 1980، قال المسؤول الأميركي إن ما فعله رفقة زملائه داخل إدارة ريغان، كان بمثابة "إنجاز رائع".
في غواتيمالا ابادة جماعية..
كانت الأوضاع في غواتيمالا خلال ثمانينيات القرن الماضي، مُشابهةً للأوضاع التي عانت منها السلفادور، تماما كما تشابهت سياسات أبرامز في الحالتين.
بعد أن نجحت الولايات المتحدة في إسقاط رئيس غواتيمالا المنتخب ديمقراطيا عام 1954، انحدرت البلاد إلى كابوس من الدكتاتوريات العسكرية المتجددة. وقُتل في ما وصف أيضا بأنه "حرب أهلية" في غواتيمالا، بين عامي 1960 و1996، أكثر من 200 ألف إنسان. ووجدت لجنة تابعة للأمم المتحدة في وقت لاحق أن الدولة الغواتيمالية كانت مسؤولة عن 93 في المائة من انتهاكات حقوق الإنسان.
وأدانت المنظومة القضائية في غواتيمالا، عام 2013، إفراين ريوس مونت، الذي حكم البلاد خلال الثمانينيات، بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية بحق السكان الأصلانيين في الدولة. وهو شخص وصفه أبرامز بأنه "حقق تقدما كبيرا" خلال إدارته، مطالبا الحكومة الأميركية آنذاك برفع حظر تصدير السلاح المفروض عليه.
نيكاراغوا دعم متمردين بالسلاح والمال..
اشتهر أبرامز، بسبب مشاركته المتحمسة في دفع إدارة ريغان للإطاحة بحكومة الساندينستا الثورية في نيكاراغوا. حيث دعا إلى غزو كامل لنيكاراغوا في عام 1983، مباشرة بعد الهجوم الأميركي الناجح على دولة جزيرة غرينادا الصغيرة. وعندما قطع الكونغرس الأموال عن حركة "كونترا"، وهي عصابة عسكرية مسلحة أسسها الأميركيون لمحاربة حكومة حزب "الجبهة الساندينية للتحرير الوطني"، نجح أبرامز في إقناع سلطان دولة بروناي، بدعم العصابة المسلحة بعشرة ملايين دولار.
لكن لسوء حظه، قدم أبرامز، الذي كان يعمل تحت الاسم الحركي "كينيلورث"، للسلطان، رقم حساب مصرفي سويسري خاطئ، لذلك تم تحويل الأموال إلى مستلم عشوائي محظوظ بدلا من ذلك.
واستجوب الكونغرس أبرامز حول نشاطاته المتعلقة بـ"كونترا"، لكنه كذب. واعترف في وقت لاحق بأنه مذنب في تهمتين بحجب المعلومات. كانت إحداهما عن السلطان وأمواله، والأخرى عن إرسال أبرامز طائرة محملة بالأسلحة إلى "كونترا" وتم إسقاطها عام 1986.
حُكم على أبرامز في هذه القضية، بالعمل في خدمة الجمهور لمدة 100 ساعة، وصدر عفو عنه في وقت لاحق من الرئيس جورج بوش الأب قبل أن يترك منصبه عام 1992.
بنما.. انقلاب ونشر رأس:
رغم أن هذه التفاصيل يتم تناسيها اليوم، إلا أنه قبل غزو الولايات المتحدة لبنما بهدف الإطاحة بمانويل نورييغا، عام 1989، كان الأخير حليفا مقربا لها، مع العلم أن إدارة ريغان كانت تعي أنه كان مهربا للمخدرات.
وخلال عام 1985، قام وزير الصحة البنمي هيوغو سبادافورا، الذي كان يجسد شخصية ذات شعبية في بلاده، بإثبات تورط الرئيس نورييغا بتهريب المخدرات، ما أدى إلى اختطاف الأول لاحقا.
وبحسب كتاب "الإطاحة" لمراسل صحيفة "نيويورك تايمز" السابق، ستيفن كينزر، فإن المخابرات الأميركية، منحت الخط الأخضر لخاطفي سبادافورا، بقتله كـ"كلب مسعور". وقبل مقتله عُذب لليلة كاملة، ونُشر رأسه بينما كان لا يزال على قيد الحياة.
جذبت فظاعة الجريمة اهتماما شعبيا في بنما، لكن أبرامز قفز إلى الدفاع عن نورييغا، ومنع السفير الأميركي في بنما من ممارسة الضغط على الزعيم البنمي.
.. ومنذ 2002 في فنزويلا
مع بداية عام 2002، تحول رئيس فنزويلا، هوغو تشافيز، إلى مصدر إزعاج حقيقي للبيت الأبيض تحت إدارة بوش الابن، التي امتلأت بـ"محاربي" الثمانينيات القدماء. وفي نيسان/ إبريل من نفس العام، طُرد تشافيز من السلطة بانقلاب عسكري. وليس هناك إثبات قاطع حتى اليوم، عن تورط الولايات المتحدة في ذلك الانقلاب وكيفية تنفيذه، ولن يُعلن عن ذلك على الأرجح إلا بعد عقود من الزمن بعد رفع السرية عن المستندات المتعلقة.
لكن بالنظر إلى القرن الأخير، سيكون من المدهش حقا ألا يكون للولايات المتحدة دور مركزي خلف الكواليس. وذكرت صحيفة "لندن أوبزرفر" في ذلك الوقت أن "الشخصية الأساسية المرتبطة بالانقلاب كانت أبرامز" وأنه "أعطى موافقة" للمتآمرين.
على أية حال، حصل تشافيز على دعم شعبي كافٍ مكنه من إعادة تنظيم صفوفه والعودة إلى منصبه في غضون أيام.
تقسيم الشعب الفلسطيني:
شارك أبرامز أيضا في لبّ محاولة أخرى لإحباط نتيجة انتخابات ديمقراطية عام 2006. وذلك بعد أن دفع بوش الابن، لإجراء انتخابات تشريعية في الضفة الغربية وغزة من أجل إعطاء فتح، "المنظمة الفلسطينية (...) التي يرأسها خليفة ياسر عرفات، محمود عباس، بعض الشرعية المطلوبة بشدة". لكن فازت منافستها حركة حماس، بشكل مفاجئ، الأمر الذي منحها الحق في تشكيل الحكومة.
لم تقبل إدارة بوش بهذه الثورة الديمقراطية على فتح، وخصوصا أبرامز وكونداليزا رايس، ولذلك وضعا خطة لتشكيل "ميليشيا تابعة لفتح" للسيطرة على قطاع غزة، وسحق حماس في مناطقها الأساسية. وكما أفادت مجلة "فانيتي فير" في ذلك الوقت، فإن ذلك شمل قدرا كبيرا من "التعذيب والإعدامات". لكن حماس أعاقت خطط فتح بـ"عنفها الخاص". وقال المحافظ الجديد الذي عمل لدى ديك تشيني في ذلك الوقت، ديفيد وورمسر، للمجلة: "يبدو لي أن ما حدث لم يكن انقلابا من جانب حماس، بل محاولة انقلاب من جانب حركة فتح تم استباقها قبل وقوعها". لكن منذ ذلك الحين، انقلبت هذه الأحداث رأسا على عقب في وسائل الإعلام الأميركية، التي تعرض حماس على أنها المعتدية.
وفي حين أن خطة الولايات المتحدة لم تكن ناجحة بشكل كامل، إلا أنها لم تكن فشلا تاما من المنظور الأميركي والإسرائيلي، فقد أدت "الحرب الأهلية" الفلسطينية، إلى تقسيم الضفة الغربية وغزة إلى كيانين، مع حكومتين متنافستين في كليهما. وعلى مدى السنوات الـ13 الماضية، لم تكن هناك أي بارقة أمل لوحدة سياسية ضرورية، لحصول الفلسطينيين على حياة كريمة لأنفسهم.
ليحاكم جميع المسؤولين الاميركيين:
وترك أبرامز منصبه بعد خروج بوش الابن من السلطة. لكنه عاد الآن إلى دورته الثالثة في أروقة السلطة، مع مخططات مطابقة لتلك التي عمل عليها في السابق.
وبالنظر إلى حياة أبرامز التي تتسم بالأكاذيب والوحشية، من الصعب تخيُّل ما يمكن أن يقوله لتبرير أفعاله. لكنه يمتلك دفاعًا عن كل شيء فعله، وحجته قوية.
ظهر أبرامز، عام 1995، في برنامج "The Charlie Rose Show" مع ألان نيرن، وهو أحد أكثر المراسلين الأميركيين معرفة عن السياسة الخارجية الأميركية. وقال نيرن إن بوش الأب، اقترح ذات مرة إخضاع صدام حسين، للمحاكمة بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. معتبرا أن الفكرة جيدة، لكنه أضاف "إذا كنت جادا (بمحاكمة الأشخاص لارتكابهم جرائم ضد الإنسانية)، يجب أن تكون منصفا، وهذا يعني أيضًا محاكمة مسؤولين مثل أبرامز".
وبدأ أبرامز بالضحك على أقوال نيرن، واصفا إياها بـ"السخيفة"، وقال إن ذلك يتطلب "وضع جميع المسؤولين الأميركيين الذين فازوا بالحرب الباردة في قفص الاتهام".
عنصرا صغيرا في منظومة:
وكان أبرامز على حق، فإن مأساوية الواقع هي أن "أبرامز ليس وغدا خارجا عن الإجماع، بل هو عضو مهم ومشرف في اليمين المركز العامل في مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية". وقبل دخوله ضمن إدارة ريغان، عمل مستشارا لعضوَي مجلس شيوخ ديمقراطيين، هنري جاكسون ودانييل موينيهان. وكان عضوا بارزا في مجلس العلاقات الخارجية الوسطى، وعضوًا في لجنة الولايات المتحدة للحرية الدينية الدولية، وهو الآن عضو مجلس إدارة "الصندوق الوطني للديمقراطية". كما أنه درّس جيلا تاليا من مسؤولي السياسة الخارجية في كلية الشؤون الخارجية بجامعة جورج تاون. وهذا يعني أنه لم يخدع ريغان وبوش الابن، بل إنه قدم لهما ما أراداه بالضبط.
لذا، بغض النظر عن قُبح تفاصيل مسيرة أبرامز في السياسة الأميركية الخارجية، فإن أهم ما يجب تذكره، عندما ينشب النسر الأميركي مخالبه الحادة ببلد آخر في أميركا اللاتينية، هو أن أبرامز ليس استثناءً. فهو مجرد عنصر صغير في المنظومة. ما يعني أن المنظومة هي المشكلة بحد ذاتها، وليست أجزاءها الخبيثة.
مقال؛ "إليوت أبرامز، خيار ترامب لجلب الديمقراطية إلى فنزويلا، أمضى حياته بتدمير الديمقراطيات"، ترجمة خاصة بـ"عرب 48":