نشرت مجلة "فورين أفيرز" مقالا لأستاذ العلوم السياسية تشارلز كوبتشان، اعتبر فيه ان "مفهوم ترامب للهوية الأمريكية، والمطعم بالعنصرية والعداء للمهاجرين الملونين، له جذور تاريخية في أمريكا" مشيرا الى "محاولة أمريكا بعد حرب التحرير والبناء ضم كندا لأن سكانها ذوي ملامح بيضا، بينما رفض الكونغرس مد حدود أميركا جنوبا إلى الجسد السياسي الأمريكي لاعتبارهم ان شعوب هذه المنطقة ادنى مكانة ".
ويقول الكاتب إن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تعمد خلال خطابه في الجمعية العامة في الأمم المتحدة أن يوحي بأن أمريكا ستقطع علاقتها مع الإجماع الدولي، الذي كانت تستأنس به لوضع استراتيجياتها منذ الحرب العالمية الثانية وحتى الآن، فقال: "لن نسلم سيادتها إلى بيروقراطية غير منتخبة ولا تخضع للمساءلة".
وتنقل المجلة عن ترامب، قوله: "البلدان ذات السيادة والمستقلة هي الوسيلة الوحيدة التي انتعشت فيها الحرية، واستمرت فيها الديمقراطية، وانتعش فيها السلام، ولذلك علينا حماية سيادتنا واستقلالنا العزيز علينا".
ويعلق الكاتب في مقاله إن ترامب صب ماء على التعددية والحكم على مستوى العالم، وما تبع ذلك من تعليقات أشارت إلى مدى ابتعاد رسالته عن رسائل سابقيه.
ويستدرك كوبتشان بأن "سياسة ترامب ليست غريبة عن تاريخ أمريكا، فقد تخلى عن مبادئ رئيسية في السياسة الخارجية الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية، لصالح نزعة فكرية أخرى حول دور أمريكا في العالم".
ويقول الكاتب: "فكما حاججت في نسخة مارس/ أبريل 2018 من هذه المجلة، تحت عنوان (صدام الاستثنائيات)، فإن (أمريكا أولا) له جذور عميقة في الماضي، إنه عودة إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية، إلى تكرار سابق للاستثناء الأمريكي، وضرب قديم من إدارة الدولة، ومعاداة المشاركة الأمريكية في تحالفات دولية والحماية الاقتصادية، والنفور من ترويج الديمقراطية والقومية المطعمة بالعنصرية والنزعة الانعزالية، وهذه الأوجه لمقاربة ترامب: (أمريكا أولا)، تعود لتفكير أبقى السياسة الأمريكية الخارجية راسية لمعظم تاريخ أمريكا قبل الهجوم الياباني على بيرل هاربر".
ويعلق كوبتشان قائلا إنه لم يعرف عن ترامب عمق وسعة معلوماته التاريخية، فإنه "في الغالب لا يبني سياسته الخارجية بناء على قراءة مفصلة لتاريخ أمريكا، لكن يبدو أنه يمتلك المقدرة على جذب قاعدة في القلب الأمريكي، تشعر بأنها تأثرت سلبا بالعولمة والهجرة ومفهوم موسع للالتزامات الدولية، ولذلك فهي تحن إلى أمريكا في الماضي".
ويشير الكاتب إلى أن ترامب هاجم في خطابه أمام الجمعية العمومية تعددية الأطراف بعد الحرب العالمية الثانية، وشدد على أن أولويته هي استعادته للسيادة الوطنية، ثم أخذ بعدها يوجه قذائفه واحدة تلو الأخرى على المؤسسات الدولية، بما في ذلك محكمة الجنايات الدولية والميثاق العالمي للهجرة ومجلس حقوق الإنسان.
ويفيد كوبتشان بأن ترامب دعا في خطابه العام الماضي أمام الجمعية ذاتها إلى "دول ذات سيادة قوية"، كل واحدة منها تحاول أن تضع نفسها أولا، ودعم ترامب كلامه بالفعل، فانسحب من اتفاق تلو الآخر، من اتفاق باريس والاتفاقية النووية مع إيران، بالإضافة إلى أنه عين جون بولتون مستشارا للأمن القومي، وهو المعروف بعدائه للتعاقدات التي تمس السيادة الأمريكية.
ويلفت الكاتب إلى أن ترامب يعادي حتى المؤسسات التي لا تشارك أمريكا في عضويتها، فهو يدعم انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، ويؤيد الحكومات الشعبوية في كل من إيطاليا وبولندا وهنغاريا، المعادية لمشروع الاندماج الأوروبي.
ويقول كوبتشان: "صحيح أن أحادية ترامب تعد انفصالا حادا مع الماضي القريب، لكن هذا لا يجعلها أمرا جديدا، فحتى الحرب العالمية الثانية كانت أمريكا تفضل أن تسير وحدها، وكانت ترفض تحالفا تلو آخر، بما في ذلك عصبة الأمم، التي كانت فكرة الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون، كما قال جورج واشنطن في خطاب وداعه: "إن القاعدة العظيمة للسلوك فيما يتعلق بتعاملنا مع الأمم الأجنبية هي في توسيع علاقاتنا التجارية، ليكون معهم أقل اتصال سياسي ممكن".
ويؤكد الباحث أن "ترامب يركز على العلاقات التجارية مع الأمم، وهو يفضل الحماية والتبادلية على التجارة الحرة، وأصر في الأمم المتحدة أمس على أن التجارة يجب أن تكون (عادلة وتبادلية)، وقد أشعل ترامب عدة حروب تجارية، من خلال فرض تعرفة على الواردات لحماية المصنعين الأمريكيين، ويريد من شركائه التجاريين أن يفسحوا مجالا أفضل أمام البضائع الأمريكية".
ويعلق كوبتشان قائلا إن "هذا أيضا ليس جديدا، فالاتفاقية المثالية أو ما يدعى (موديل تريتي)، التي كتب مسودتها بشكل رئيسي جون آدمز، ووافق عليها الكونغرس في 17 أيلول/ سبتمبر 1776، دعت للتبادلية وليس للتجارة الحرة مع البلدان الأخرى، بالإضافة إلى أن التعرفة حمت القاعدة الصناعية لأمريكا منذ نشأتها إلى أن أصبحت قوة عظمى".
ويجد الكاتب أن "نظرة ترامب إلى الديمقراطية تشبه تلك التي كانت سائدة في وقت سابق، أكثر من تشابهها مع التوافق الذي ساد ما بعد الحرب العالمية الثانية، ودعا لكل أمة أن تشق طريقها بالشكل الذي تريده هي، فقال في خطابه: (أحترم حق كل أمة في هذه القاعة في أن تمارس عاداتها ومعتقداتها وتقاليدها، ولن تملي عليكم الولايات المتحدة كيف تعيشون وكيف تعملون وكيف تتعبدون، وكل ما نطلبه هو أن تحترموا سيادتنا في المقابل)، ويبدو في الواقع أن ترامب يفضل الديكتاتوريين، مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وزعيم كوريا الشمالية كيم جنغ أون، على حلفائه الديمقراطيين، مثل المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل ورئيس الوزراء الكندي جاستين ترودو".
ويقول كوبتشان: "قد يكون المؤسسون لا يتفقون مع ترامب في حبه للديكتاتورية، لكنهم يشاركونه التشكك في التدخل في شؤون الدول الأخرى، وسواء كان في أمريكا اللاتينة في عشرينيات القرن التاسع عشر أو في أوروبا في أربعينيات القرن التاسع عشر، فإن أمريكا أضاعت أكثر من فرصة للتدخل لدعم الليبرالية، وكان المنطق الذي يحكم هذا الموقف هو أن التدخل لا يتماشى مع المبادئ الأمريكية، كما كانت هناك خشية من التورط في صراعات بعيدة معقدة".
وينوه الباحث إلى أن "مفهوم ترامب للهوية الأمريكية، والمطعم بالعنصرية والعداء للمهاجرين الملونين أيضا، له جذور تاريخية في أمريكا، وقد حاولت أمريكا بعد حرب التحرير والبناء أكثر من مرة أن تضم كندا؛ وذلك لأنه كان يسكنها البيض، بينما رفض الكونغرس محاولة تلو أخرى لمد الحدود الأمريكية جنوبا مثلا لسانتو دومينغو وهاييتي وكوبا؛ وذلك للتردد في دمج (شعوبا دنيا) إلى الجسد السياسي الأمريكي".
ويبين كوبتشان أن "مؤسسي فكرة الانعزالية كانوا يعتقدون بأن أمريكا أمة متميزة، وللحفاظ على أمن الأمة وتجربتها الديمقراطية المتميزة كان يجب عليها أن تبتعد عن العالم الخطر، وإن لم يكن ترامب أعاد أمريكا إلى الانعزال، فلا تزال تقوم بالتزاماتها الدولية، إلا أن ترامب يحكم بالحدس وحدسه انعزالي، وقد أعرب عن رغبته في الانسحاب من حلف شمال الأطلسي ومن كوريا الجنوبية وأفغانستان وسوريا".
ويختم الباحث مقاله بالقول إن "ترامب فتح الباب على مصراعيه لحوار مهم حول دور أمريكا في العالم، لكن الجواب لا يكمن في الرجوع للخلف وما تحتاجه أمريكا هو نسخة مطورة من الاستثنائية للعصر الحديث، واستراتيجية على مستوى ذلك".
المصدر: عربي 21