د. شفيق ناظم الغبرا
تصريح الرئيس ترامب بأنه على دول الخليج و«أوبك» تخفيض الأسعار فورا، يعكس الحالة البائسة التي وصلت إليها الإدارة الأمريكية بقيادة ترامب.
هذه دعوة لن تلقى من دول الخليج أو بالأحرى من مجموع دول «أوبك» أذنًا صاغية، ولن يكون من الممكن لهذه الدول صغيرة كانت أم كبيرة أن تتلقى التعليمات من ترامب عبر تويتر أو عبر خطابه في الجمعية العمومية منذ يومين.
بل يبدو ان ترامب لا يعرف ان «أوابك» و«أوبك» لم تعد القوة الأساسية في سوق النفط، وأن تأثيرها في الاسعار لم يعد كالسابق. لكن في المقابل، خوض ترامب حربا تجارية مع الصين، هو الآخر بداية لمواجهة لن يعرف الرئيس الأمريكي كيف ينهيها.
إن أثر هذه العقوبات على الاقتصاد الأمريكي سيكون أسوأ من أثر حرب العراق في 2003، والسبب في ذلك أن الرد الصيني في مقابل الفعل الأمريكي سيكون مؤثرا.
لأسباب تاريخية تتعلق بالعولمة والتقنيات الحديثة وانتشارها لم تعد الولايات المتحدة الأمريكية في المقدمة، فالكثير من الصناعات الأساسية الأمريكية انتقلت رويدا رويدا للصين وآسيا حيث العمالة الأقل تكلفة.
وعندما نسعى لمعرفة المجالات التي يعمل بها الأمريكيون، سنجد انها تقلصت عشرات المرات نسبة لما كان عليه الحال في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين.
الأمريكيون اليوم يعملون بمجال الخدمات بأكثر من اي شيء آخر، لأن معظم الصناعات الالكترونية والتلفزات والتكنولوجيا والسيارات وغيرها شهدت تحولات جعلت الصين تسبق الولايات المتحدة.
والولايات المتحدة لا زالت الدولة الثانية في العالم بعد الصين في الصناعة. إن المعركة الاقتصادية مع الصين، وبمعزل عن التفاهم مع أوروبا والمكسيك وكندا، لن ينقذ هذه الصناعات أو يعيد الكثير من مصانعها إلى الولايات المتحدة.
ولو دققنا لوجدنا ان ملكية بعض أكبر المؤسسات الإقتصادية الأمريكية لم تعد أمريكية كالسابق. فلم تعد بعض أكبر وأهم المؤسسات والشركات الكبرى أمريكية الملكية.
فقد انتقلت مثلا ملكية مؤسسات تجارية عديدة من الملكية الأميركية لملكيات غير أميركية ومنها: هوليداي إن، 711، جنرال إلكتريك، بيرغر كينغ، هوفر، موتورولا، Amc سينما، بدوايزر، فايرستون.
من جهة أخرى، بلغت أرباح كبرى الشركات الأميركية من خارج أميركا مثل: وولمارت 26%، وإكسون موبل 45%، وفورد 51%، وآي بي إم 64%، وبوينغ 41%، وداو كيميكال67%، وبنك أوف أميركا 20%، ومكدونالدز 64%. ونايكي 50%...
هذا يثير السؤال: عمّ يتحدث الرئيس ترامب وكيف يتهم «أوبك» بينما دولته تشن الحروب وتحقق الارباح الخيالية من العالم كله؟
لقد تغير العالم بفضل العولمة التي قادتها الولايات المتحدة، وما محاولة تدميرها إلا شكل من أشكال تدمير الاقتصاد الأميركي أولا. بسبب الضرائب المفروضة على البضائع الصينية الآن وبنسب ستصل لـ 25% سيدفع المستهلك الأميركي الثمن.
لكن المتمعن بوضع الصين سيكتشف انها بعد عشرين عاما ستتجاوز الولايات المتحدة في حجم الاقتصاد، وان الحرب الاقتصادية على الصين ستدفعها نحو اوروبا التي يشن عليها ايضا ترامب حربا اقتصادية.
هذه التطورات تؤكد بأن الصين لن ترحب بالشركات الأميركية كالسابق على أراضيها، وهذا يعني ان فرص تطور التحالف الصيني الاوروبي قائمة، وفرص تداخل روسيا مع هذا التحالف هي الأخرى ممكنة.
العالم يتغير، وانتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة في العام 1991 تآكل بفضل حروب، وبفضل الالتزام الأميركي بسياسات اليمين الإسرائيلي في سياسات متناقضة تجاه الشرق الأوسط.
وقد تعاملت الولايات المتحدة مع انتصارها في الحرب الباردة بالكثير من الثقة، مما دفعها لإدخال دول اوروبا الشرقية في الناتو، ومنعها بروز قوة أخرى في العالم منافسة لها.
لكن هذا التمدد بحد ذاته أخاف روسيا واستفزها، فقد اعتبرت روسيا بأن الولايات المتحدة تقوم بغزو مجالها الجغرافي، لهذا جاء الرد الروسي في كل من جورجيا وأوكرانيا من خلال مواجهات عسكرية وتمدد واحتلال.
بل يمكن القول بأن التدخل الروسي (السلبي) في الانتخابات الأميركية لم يكن إلا جزء من الرد الروسي على التدخل الأميركي في مجالها الجغرافي والعسكري.
ومن علامات تراجع الولايات المتحدة ضعف قدرتها على التعامل مع المسألة السورية مقابل تعاظم القدرة الروسية والتركية والإيرانية، وهذا يعني أن حل القضية السورية لم يعد كما كان الامر سابقا في كوسوفو والبوسنة حلا أميركيا.
وينطبق ذات التحليل على صفقة القرن التي دعمتها الادارة الأميركية بقوة. لكن دعم الولايا ت المتحدة لصفقة القرن لم يكن يعني الا تخليها عن اتفاق اوسلو الذي دعمته في تسعينات القرن العشرين.
وهو يعني انها لم تعد حتى شريكا محايدا او شبه محايد خاصة مع اعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل. هذا الإنحياز أفقد الولايات المتحدة المصداقية والصدقية.
إن حالة الإدمان التي يعيشها ترامب تجاه فرض العقوبات يعكس ضعفا. فالعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على كوبا الدولة الصغيرة التي تبعد عن فلوريدا 90 ميلا لم تأت بأية نتائج، وهذا يعني ان العقوبات على إيران وغيرها من الدول بما فيها روسيا لن تخدم اهداف السياسة الأميركية.
فإن كان هدف العقوبات أن تنسحب إيران من الاقليم، فمن الواضح ان العقوبات ستجعلها تتورط أكثر من الاقليم وستجعلها تعتقد بأن وجودها في الاقليم وانتشار قوتها ضمانة لعدم التعامل معها كما تم التعامل مع العراق في 2003.
وإن كان الهدف من العقوبات على إيران جعلها تعود للتفاوض فمن الواضح ان إيران ستنتظر لحين ذهاب ترامب من المشهد قبل العودة للتفاوض. وهذا يعني انه امام إيران ودول اخرى ان تنتظر للعام 2020 وربما للعام 2024.
ان دخول الولايات المتحدة في معركة تجارية مع أكثر من إقليم وأكثر من قارة بنفس الوقت هو الخطأ الاستراتيجي الذي يصيب الولايات المتحدة في ظل قيادة ترامب.
في هذا تتنازل الولايات المتحدة عن قيادتها للعالم وعن قيادتها لأوروبا وقيادتها لأميركا اللاتينية لصالح وهم (استعادة القوة الأميركية والصناعات والسيطرة ورفع مكانة العرق الابيض الأميركي). لن يكون بالإمكان تحقيق هذه الطموحات لأسباب اقتصادية وسياسية وبسبب نشوء قوى كبرى جديدة وبسبب حركة الديموغرافيا وتحولات مستمرة في المجتمع الأميركي.
ان تدمير العولمة من قبل الدولة التي بنتها سيترك مع نهاية عهد ترامب الولايات المتحدة فاقدة للقدرة على حماية النظام العالمي الأمني والاقتصادي الذي قادته.
إن أثر ترامب على أميركا قد لا يقل عن أثر غورباتشوف على الاتحاد السوفياتي، سيتضح هذا مع نهاية 8 سنوات من حكم ترامب.
قد يفوز ترامب في العام 2020، لكن فوزه سيكون مدمرا للدولة الكبرى. وهذا قد يعني أن الولايات المتحدة قد تفشل حتى في التزاماتها الأمنية تجاه أصدقائها.
إن لهذا التطور في العقد المقبل انعكاسا كبيرا في منطقة الخليج التي تعتمد على الولايات المتحدة في جانب كبير من أمنها. سيتغير كل شيء خلال السنوات القادمة. العالم يتغير ولا بد من الإستعداد لهذا التغير.
المصدر | القدس العربي