عندما بدأت «وكالة المخابرات المركزية (سي آي إيه)» عملها في سبتمبر (أيلول) 1947، سافر اثنان من ضباطها شرقًا من بيروت إلى دمشق لمقابلة زميل لهما كان قد وصل لتوه. كانا أرشي وكيم روزفلت أبناء عم وأحفاد الرئيس الـ 26 للولايات المتحدة، ورغم أن عمرهما كان 29 و31 سنة على التوالي، إلا أنهما كانا من كبار العاملين في عالم الاستخبارات. كان أرشي، الذي ترك مؤخرًا منصبه ملحقًا عسكريًا في إيران، أصبح الرئيس الجديد لوكالة سي آي إيه في بيروت. وكان كيم، الذي عمل في مكتب الخدمات الاستراتيجية أثناء الحرب، يتظاهر بأنه صحافي في مجلة هاربر. في نهاية المطاف سيصبح الرجل الذي سيجتمعان به معروفًا جدًا. واسمه مايلز كوبلاند.
عندما التقيا مع كوبلاند، شرع الرجال الثلاثة في جولة بسوريا. وتظاهروا أنهم يرغبون في رؤية القلاع الصليبية المتعددة في البلاد، وفي الواقع كانوا يستكشفون مواهب جديدة، على وجه الخصوص أرادوا تحديد السوريين الذين يشغلون مناصب نافذة، واستفادوا من التعليم الأمريكي، وقد يكونون مستعدين لمساعدتهم في مسألة كانت تحمل أكبر أهمية استراتيجية. تلازم الستار والغرض الحقيقي من المهمة بشكل جيد: بحلول خريف عام 1947 أصبحت سوريا مهمة بالنسبة للولايات المتحدة كما كانت بالنسبة للصليبيين قبل ثمانية قرون.
هكذا استهل الكاتب جيمس بار، مقاله في مجلة «فورين بوليسي«.
ماذا فعلت الاستخبارات الأمريكية في سوريا؟
وقال المقال: «وكما هو الحال الآن، فإن أهمية البلد تكمن في موقعه، وليس موارده. فقد كانت لسوريا أهمية بالنسبة للصليبيين في القرنين الثاني عشر والثالث عشر؛ لأنها كانت على الطريق بين أوروبا والقدس. وكان الأمر مهمًا لهؤلاء الأمريكيين الثلاثة في سبتمبر 1947؛ لأن سوريا كانت على الطريق المحتمل لخط أنابيب يضخ كميات هائلة من نفط المملكة العربية السعودية إلى أوروبا عبر محطة على ساحل البحر المتوسط. لذلك قام رجال (سي آي إيه) بتحركين غير عاديين لتأمينها«.
لم يقتصر الأمر على تخريب خطة بريطانية التي بدت وكأنها تهدد مصالح الولايات المتحدة، ولكنها تدخلت أيضًا لدرجة لم يسبق لها مثيل في السياسة المحلية بالمنطقة. مع أن الواقعة تمثل بداية التدخل الأمريكي في الشرق الأوسط، فقد تم نسيانها إلى حد كبير، حتى صانعي السياسة في الولايات المتحدة يهملونها. من الواضح أن سوريا لها أهمية جيوسياسية بالنسبة لبعض الدول. الولايات المتحدة ليست واحدة منها.
سوريا ساحة للصراع بين الولايات المتحدة وبريطانيا!
وتابع المقال، فكرة أن سوريا ستكون ساحة لصراع بين الولايات المتحدة وبريطانيا حول موارد المملكة العربية السعودية لم يكن من الممكن تصورها قبل عقد من وصول روزفلت عام 1947. بين الحربين العالميتين، كانت سوريا تحت حكم الفرنسيين، وكان الوجود الأمريكي ضئيلًا، ويقتصر إلى حد كبير على الأنشطة التبشيرية، ولكن في عام 1938 قامت شركة أرامكو السعودية باستخراج النفط في بلادها. مع أن الإنتاج كان مقيَّدًا في البداية بسبب الحرب، إلا أنه في عام 1944 توصل الجيولوجي البارز في النفط أفرتي لي ديغوليير إلى نتيجة مذهلة بعد الزيارة. وقال: «إن هناك ما يصل إلى 100 مليار برميل من النفط تحت صحراء السعودية»، مشيرًا إلى أن مركز جاذبية قطاع النفط سيتحول قريبًا 8 آلاف ميل شرقًا، من خليج المكسيك إلى الخليج العربي.
وكان لهذا تداعيات عميقة بالنسبة للأمريكيين؛ لأن علاقات أرامكو مع الملك السعودي، ابن سعود، الذي منحها الامتياز في المقام الأول، كانت سيئة إلى حد ما. كانت الحرب قد قطعت أرامكو عن سوقها بالشرق الأقصى، وقيد نقص الصلب خططها للتوسع. ونتيجة لذلك عانى الملك، الذي كان يعتمد على زيادة دخل النفط، من أزمة مالية، وألمح بشكل دوري إلى أنه قد يأخذ الامتياز من أرامكو ويعطيه للبريطانيين.
وفي محاولة لرأب الصدع مع ابن سعود من خلال تمكين الشركة من المنافسة في السوق الأوروبية العطشى وتوسيع نفوذه في الأردن وسوريا ولبنان، التي حصلت على استقلالها بعد انتهاء الحرب مباشرة، اقترحت حكومة الولايات المتحدة بناء خط أنابيب عبر البلاد العربية من حقول النفط السعودية إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط. مع أن خط الأنابيب «تابلاين«، سيتم تمويله في النهاية من أرامكو نفسها، إلا أن المشروع كان جذابًا من الناحية الاستراتيجية في واشنطن.
من خلال جعل النفط السعودي أرخص من النفط الأمريكي في أوروبا، فإن الأنبوب سيضمن إنعاش السعوديين لأوروبا بعد الحرب، وحفظ مخزون الولايات المتحدة من النفط في حالة نشوب حرب أخرى. علاوة على ذلك فإن هذه التجارة ستجني أرباحًا لأرامكو والأرباح الموزّعة لأصحابها (السعوديين والأمريكيين)؛ مما سيعود بضرائب لأمريكا. وبالتالي سيساعد خط الأنابيب على تعويض بعض المليارات التي كانت الولايات المتحدة على وشك إنفاقها خلال خطة مارشال، التي كشف عنها وزير الخارجية آنذاك جورج مارشال بجامعة هارفارد في يونيو (حزيران) 1947.
ويسرد المقال: كان عائق خط أنابيب تابلاين الوحيد أنه وضع الولايات المتحدة في مسار تصادمي مع البريطانيين؛ لأن خط أنابيب أرامكو سوف ينافس ذلك الخط الذي تديره بالفعل شركة النفط العراقية التي تسيطر عليها بريطانيا، والتي ضخت النفط العراقي من كركوك إلى حيفا، وسوف تبسط السعودية نفوذها في منطقة اعتبرها العراقيون وحلفاؤهم البريطانيون فناءهم الخلفي. بعد أسبوع من حديث مارشال في جامعة هارفارد، سمع أن ملك الأردن آنذاك، عبد الله، ذهب إلى بغداد لإجراء محادثات، ثم علم أن عبد الله أكد مجددًا أن هدفه تشكيل اتحاد بين سوريا والعراق؛ مما أكد توقع مارشال بأن البريطانيين كانوا يعملون خلف الكواليس.
كيف أفشلت الاستخبارات الأمريكية خطة بريطانيا؟
لقد كان كيم روزفلت هو الذي أفشل الخطة البريطانية. في الوقت الذي كانت الحكومة البريطانية تنكر فيه أنه كانت تعمل لصالح أو ضد اقتراح الملك عبد الله، اقترب روزفلت من كبير مستشاري الملك الأردني، وهو البريطاني أليك كيركبرايد، على أنه كاتب لمجلة «هاربر». وبحسب ما قاله «كيم فيلبي»، العميل المزدوج البريطاني، عن كيم روزفلت «لطيف ومتواضع، وآخر شخص تتوقعه أن يدخل بنفسه في حيل قذرة»، فقد تمكن روزفلت من الحصول على معلومات مهمة من بريطانيا. كانوا في الواقع يدعمون طموح عبد الله بأن يكون ملكًا للاتحاد العربي. وبالطبع إذا عرف العراقيون هذه الأخبار فسيغضبون، وهذا ما حدث بعد أن مرر الأمريكيون المعلومات إلى بغداد. فقد أدانت الحكومة العراقية علانية خطة عبد الله، ودمرتها تمامًا.
ومع أن ضباط وكالة المخابرات المركزية الثلاثة يمكن أن يهنئوا أنفسهم على إبعاد التهديد البريطاني، إلا أن ذلك لم يكن نهاية الأمر. رغم أن الرئيس السوري شكري القوتلي، أعطى موافقة حكومته على خط تابلين، فإن الاتفاق ظل بحاجة إلى تصديق برلماني. الجهود التي بذلتها أرامكو ووكالة المخابرات المركزية لدعم المرشحين الموالين لهم في انتخابات صيف عام 1947 بسوريا لم تكن كافية لإتمام العملية. ولم يتمكن الثلاث رجال من الالتقاء أثناء جولته الأولى في سوريا. وفي 29 نوفمبر (تشرين الثاني) 1947، صوتت حكومة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة لصالح تقسيم فلسطين، وهذه الخطوة أحدثت ضجة في أنحاء العالم العربي. واقتحم حشد جماهيري السفارة الأمريكية في دمشق، كما تم الاعتداء على مخيم تابلين في الأردن. ولتجنب ازدراء الرأي العام، أجل شكري القوتلي التصديق على خط الأنابيب لأجل غير مسمى.
في الوقت الذي كان أسطول سيارات الأجرة في دمشق يتكون من دودج وشيفروليه، كان خط الأنابيب يجلب نفوذًا ضخمًا للولايات المتحدة في سوريا بأوائل الخمسينات، لكن لم يستمر الأمر طويلًا. فقد أُطيح بحليف أمريكا، الرئيس أديب شيشكلي، في عام 1954، وانجرفت البلاد إلى اليسار؛ إذ ساعدتها موسكو بتقديم السلاح مقابل القمح والقطن السوري، فضلًا عن القروض الميسرة. وبعد ثلاث محاولات فاشلة لانقلابات مضادة – آخرها أثار تهديد رئيس الوزراء السوفيتي نيكيتا خروتشوف من الحرب النووية – في نهاية عام 1957، واعترف الدبلوماسي الأمريكي البارز في دمشق أنه لم يعد هناك ما يمكن أن تفعله بلاده لوقف انجراف سوريا نحو النفوذ السوفيتي، قائلًا: «للأسف لا يوجد بديل مرضٍ عن ترك معالجة المشكلة للملك سعود وغيره من العرب المعتدلين. أفضل ما يمكن أن نأمله من سوريا لفترة طويلة هو الحياد الحقيقي«.
وسرعان ما تضاءلت أسباب المخاطرة بصراع مع الاتحاد السوفيتي على سوريا. منذ منتصف الخمسينات من القرن العشرين، قدم الجيل الجديد من الناقلات العملاقة مسارًا للسوق أكثر ربحًا وفاعلية من خط تابلاين، الذي تعطّل بشكل متقطع، إما بسبب الحرب، أو بسبب مطالب الدول التي يعبر خلالها الأنابيب بزيادة المدفوعات. وعند إغلاق الجزء الشمالي من خط الأنابيب، بسوريا ولبنان، في عام 1976، لم يعد للأمريكيين حصة مالية في المشروع؛ إذ أتم السعوديون تأميم شركة أرامكو في نفس العام.
إذًا.. ما السبب الحقيقي وراء دعم إيران وروسيا للأسد؟
ويعلق الكاتب أنه مع ذلك بقيت الحقائق الجيوسياسية التي جعلت سوريا ساحة للصراع في الأربعينات والخمسينات؛ إذ أدى موقع البلاد على الممر الطبيعي بين الخليج وأوروبا إلى زعزعة استقرارها في أوقات سابقة. وفي عام 2009 رفض الرئيس السوري بشار الأسد اقتراحًا قطريًا لتوجيه خط أنابيب الغاز عبر الأراضي السورية، بينما وافق الأسد على مد أنبوب يربط حقول النفط الإيرانية بالبحر المتوسط للمرة الأولى، وأنشأ الحبل السُري الصلب الذي ربطه مع رعاته في طهران.
وبعد اندلاع الحرب الأهلية في عام 2011 – بحسب الكاتب – توقعت قطر، مثل معظم الدول المحلية الأخرى التي لا تحب الأسد، أن تتدخل الولايات المتحدة بعد أن استخدم الرئيس السوري الأسلحة الكيماوية ضد شعبه، لكن الولايات المتحدة، بعد أن تخلت عن سوريا منذ فترة طويلة؛ لكونها قضية خاسرة، لم يكن لديها اهتمام عميق بالتدخل في البلاد بالطريقة التي قامت بها قبل أكثر من 60 سنة؛ إذ أظهرت جهودها الفاترة لتسليح معارضي الأسد، إن تجربة الولايات المتحدة المتعجلة في العراق، والفوضى التي سببها التدخل الأنجلو – فرنسي في ليبيا، قدمت أسبابًا إضافية لكبح رغبتها للتدخل. ونمو صناعة النفط الصخري في الولايات المتحدة يجعل الحجج المتعلقة بأمن الطاقة، والتي كانت قوية في أواخر الأربعينات من القرن الماضي غير مجدية.
الأسباب التي جعلت الولايات المتحدة مستعدة للتدخل مباشرة في سوريا بالماضي هي نفسها التي تحفز الروس للتدخل اليوم. ويرى المقال أن هدف الرئيس فلاديمير بوتين العظيم هو رفع نفوذ بلاده من خلال التحكم بتدفق الطاقة في جميع الاتجاهات: روسيا والشرق الأوسط ومنطقة بحر قزوين. وسيؤدي التحكم بالممر السوري إلى تحسين فرصته وقدرته على احتكار العرض الأوروبي في المستقبل.
واختتم الكاتب مقاله قائلًا: «إنه بعد حماية الأسد من الانتقام الغربي في مجلس الأمن الدولي، لا شك أن بوتين سيسعى للحصول على رد الدين من موكله في المستقبل. لقد انتهت الآن لحظة أمريكا في الشرق الأوسط. ومن الناحية الأخرى يبدو أن الحقبة الروسية قد بدأت للتو«.
المصدر: ساسة بوست (مقال مترجم)