لم يُكتب هذا التقرير للحديث عن دونالد ترامب، كما أنه لا يتعلق لا بـ"بول مانافارت" ولا بمايكل كوهين أو حتى روبرت مولر، وبالتأكيد ليس عن رودولف جولياني وطريقه كلامه. وإنما كتب هذا التقرير من أجل التطرق إلى الأمور التي لا نوليها اهتماماً كبيراً وإلى السبب الذي يجعلنا نتجاهلها.
في التاسع من آب/ أغسطس، أسقط التحالف الذي تدعمه الولايات المتحدة، والذي تقوده المملكة العربية السعودية التي تشن حربا في اليمن ضد المتمردين الحوثيين، قنبلة على حافلة مدرسية مليئة بالأطفال. ووفقاً للتقارير، فإن الأطفال المتحمسين كانوا في رحلة مدرسية بمناسبة انتهاء الدروس الصيفية. وعندما مروا بالقرب من إحدى الأسواق المزدحمة، أصابت القنبلة حافلتهم مباشرة.
تجدر الإشارة إلى أن هذه الهجمة المروعة خلفت 54 قتيلا من بينهم 44 طفلا تتراوح أعمارهم بين 6 و11 سنة. وقد أوضحت صور القتلى والجرحى من الأطفال أن بعضا منهم كانوا يحملون حقائب زرقاء اللون قدمتها لهم منظمة اليونيسف. وفي الحقيقة، كان المشهد محزناً جداً. في الأثناء، لا تزال المأساة في اليمن متواصلة. فبعد مرور أسبوعين فقط على الهجوم على الحافلة المدرسية، قتلت غارات جوية شنتها قوات التحالف بقيادة السعودية 26 طفلاً وأربعة نساء كانوا فارين من القتال الذي كان يدور في محافظة الحديدة في الجهة الغربية.
أسوأ كارثة إنسانية في العالم
إذا كان يبدو لك الأمر وكأنني أتطرق لمدى فظاعة الحرب الأهلية في اليمن، على الرغم من أنها ليست من اهتماماتنا السياسية الجماعية في الوقت الحالي، فأنت على حق. لكن، هل يمكن أن يكون السبب في عدم إيلائنا اهتماما كبيرا لهذه الحرب هو أن اليمنيين مسلمون وفقراء ومن ذوي البشرة السمراء؟ هل يعقل أننا كنا بالفعل نتابع ما يحدث لهم لسنوات عديدة دون أن نفعل شيئا؟
في الواقع، مثلت هذه الحرب أسوأ كارثة إنسانية في العالم إلى حدود هذا اليوم. فثلاثة أرباع السكان، أي حوالي 22 مليون مواطن يمني يحتاجون للحماية والمساعدات الإنسانية، كما أن حوالي 8.4 مليون شخص يقفون على شفا الموت، إضافة إلى أن 7 ملايين آخرين يعانون من سوء التغذية. ومنذ سنة 2015، قُتل وجُرح ما يزيد عن 28 ألف شخص، وتوفي آلاف آخرون لعوامل لها علاقة بالحرب، مثل وباء الكوليرا الذي أصاب أكثر من مليون شخص وأودى بحياة أكثر من 2300 شخص. ووفقا لمنظمة الأمم المتحدة، يموت طفل واحد على الأقل كل 10 دقائق بسبب الحرب.
المسؤولية أميركية ايضاً
من هذا المنطلق، يمكن الجزم بأن مسؤولية ما يحدث تقع على عاتق الولايات المتحدة. وقد أشار تقرير لشبكة "سي إن إن" إلى أن القنبلة التي استخدمت في الغارة الجوية التي استهدفت الحافلة المدرسية كانت من طراز مارك 82 موجهة بالليزر وتزن 500 رطل. كما تبين أن شركة لوكهيد مارتن، وهي واحدة من أكبر الشركات الأمريكية للصناعات العسكرية، قد قامت بصنعها. لكن، يظل السؤال المطروح هو: هل ستتحمل الولايات المتحدة أي مسؤولية عن موت هؤلاء الأطفال بعد أن سهّلت بيع هذا السلاح إلى التحالف الذي تقوده السعودية؟
الإجابة هي أجل بالتأكيد، وذلك لسبب واحد ألا وهو أن هذه الغارة الجوية الأخيرة لم تكن الوحيدة التي شنها التحالف الذي تقوده السعودية على المدنيين والتي أدت إلى مقتلهم. وفي هذا السياق، وجدت إحدى مجموعات المراقبة المستقلة، التي تشرف على مشروع بيانات اليمن، أنه قد تم شن 55 غارة جوية على العربات المدنية والحافلات في الأشهر السبعة الأولى من هذه السنة، من مجموع 18 ألف غارة جوية شنت منذ شهر آذار/ مارس من سنة 2015 إلى حدود شهر نيسان/ أبريل 2018.
الغارات تستهدف المدنيين
الجدير بالذكر أن 31 بالمائة من هذه الغارات قد استهدفت مواقع غير عسكرية (إما مناطق سكنية أو بنى تحتية مدنية). كما تم تصنيف 33 بالمائة من هذه الهجمات على أنها هجمات لا تستهدف مكانا محددا، في حين أن 64 بالمائة من هذه الغارات التي لم يتم تحديد مصدرها كانت تستهدف بشكل واضح مناطق عسكرية.
حيال هذا الشأن، يمكن تبين وجود قانون قائم. حيث أفادت رابطة المحامين الأمريكية، في تقرير نشرته سنة 2017، أنه: "في سياق التقارير المتعددة الموثوقة، التي تتعلق بالإضرابات المتكررة والمثيرة للتساؤل، يجب حظر صفقات بيع الأسلحة بموجب قانون مراقبة تصدير الأسلحة وقانون المساعدة الخارجية. وذلك حتى تتمكن المملكة العربية السعودية من اتخاذ تدابير فعالة لضمان الامتثال للقانون الدولي، فضلا عن تقديم الرئيس الأمريكي شهادات متعلقة بهذا الشأن أمام الكونغرس".
من المؤكد أن الولايات المتحدة تدرك مدى ضعف قدرة التحالف على ملاحقة مرتكبي جرائم الحرب قضائياً. وإقراراً للحق، لا يمكن للتحالف أن يكون قويا فيما يتعلق بهذه النقطة، حيث تعمل حكومة ترامب على مساعدة قوات التحالف على شن الضربات الجوية وتحديد الأهداف، إلى جانب تبادل المعلومات الاستخبارية وإعادة تزويد الطائرات بالوقود في الجو عند قيامها بالعمليات الجوية. ومما لا شك فيه أن الإمدادات الأمريكية والبريطانية تشكل الجزء الأكبر من أسلحة دول التحالف، حيث تبلغ قيمة هذه الصادرات مئات المليارات من الدولارات.
في واقع الأمر، بدأت هذه الاستراتيجية الفاشلة في عهد أوباما وليس في عهد دونالد ترامب. فعندما قصفت الطائرات النفاثة التابعة لقوات التحالف قاعة جنازة في اليمن، وهو ما أسفر عن مقتل أكثر من 140 شخص في تشرين الأول/ أكتوبر سنة 2016، بدأت إدارة الرئيس أوباما في دراسة خياراتها المتاحة.
خلال أشهره الأخيرة داخل المكتب البيضاوي، عمل أوباما على تقييد مبيعات الذخائر الموجهة إلى المملكة العربية السعودية وسط مخاوف من وقوع المزيد من الضحايا في صفوف المدنيين. وفي شهر أيار/ مايو سنة 2017، ألغى وزير الخارجية الأمريكي، ريكس تيلرسون، الحظر المفروض على تجارة الأسلحة. وعموما، لم يكن أوباما سفيراً للسلام، حيث أشرفت إدارته على مبيعات كميات من الأسلحة أكبر من أي رئيس آخر منذ سنة 1945. كما أن معظم الأسلحة التي كانت واشنطن تقوم ببيعها كانت تتخذ من المملكة العربية السعودية وجهة لها.
في الأثناء، تزايد عدد المعارضين لسياسة "صك على بياض" التي تعتمدها الإدارة الأمريكية إزاء الحرب اليمنية. ولا يقتصر هذا الرفض على المحامين فقط، بل امتد ليبلغ المشرّعين أيضاً. وفي وقت سابق من السنة الحالية، قدّم السيناتور بيرني ساندرز ونظيره كريس مورفي مقترح قرار مشترك في مجلس الشيوخ الأمريكي لإنهاء الدعم الأمريكي لقوى التحالف، إلا أن هذا المقترح قوبل بالرفض وتعرض لهزيمة نكراء بواقع 55 صوتا مقابل 44، في حين امتنع جون ماكين عن التصويت.
في 22 آب/ أغسطس الجاري، أدخل مورفي تعديلاً على مشروع قانون الاعتمادات الدفاعية الذي كان من شأنه أن يقطع التمويل عن التحالف إلى أن يتمكن وزير الدفاع من الإقرار بأن القواعد المتعلقة بحماية المدنيين يجري اتباعها على نحو سليم. وتعرض هذا التعديل إلى العرقلة من طرف السيناتور ريتشارد شيلبي، الذي كان يتلقى تمويلاته المالية من شركتي بوينغ ولوكهيد مارتن، اللتان تركزان نشاطاتهما على إنتاج الأسلحة والطائرات.
لطالما جرى الوضع كما هو متوقع مع دونالد ترامب، كما أن إدارته سعت إلى منع اليمنيين من القدوم إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ويضاف إلى ذلك قانون إقرار الدفاع الوطني، الذي تبلغ قيمته 717 مليار دولار، والذي صادق عليه ترامب مؤخرا، حيث يحتوي على بنود مقتضبة للغاية ومحدودة فيما يتعلق بتقليل الوفيات في عدد المدنيين. في المقابل، لن يلتزم ترامب بأحكام هذا القانون، ولا يبدو مستغرباً كونه سيلجأ إلى تبرير موقفه من خلال القول إنه يمتلك "سلطات دستورية حصرية كقائد أعلى وكممثل وحيد للأمة في الشؤون الخارجية".
تعتبر لا مبالاة ترامب إزاء معاناة المواطنين اليمنيين أمراً متوقعا للغاية، لكن ماذا عن لا مبالاتنا نحن؟ ويبرز التساؤل جليا حول ما إذا كان المواطنون الأمريكيون ملمين بحقيقة كون قنابلهم تقتل الأطفال اليمنيين الأبرياء. ويمكن القول إن غياب الغضب والاهتمام الشعبي بما تقوم به قوات التحالف الذي تدعمه الولايات المتحدة الأمريكية من خلال تقديم ذخائر وأسلحة متنوعة يشير إلى حقيقة مزعجة للغاية. فعلى الرغم من أن جميع الأدلة تشير إلى أن جميع المواطنين الأمريكيين أصبحوا متورطين سياسياً في المعضلة اليمنية منذ انتخاب ترامب سنة 2016، إلا أنهم يولون قدراً ضئيلا من الاهتمام لما يحدث باسمهم في الخارج.
حيال هذا الشأن، يمكن إيجاد تفسير آخر ذا صلة، والقول إن إدارة ترامب تبدو مثل عرض للسيرك أو كرة نارية داخل عمود كهربائي، حيث تبتلع هذه الكرة جميع الأوكسيجين داخل الغرفة. وبذلك، يبدو أن فضائح الإدارة الأمريكية التي لا نهاية لها تمنحنا التبرير الذي نحتاجه للتركيز بشكل حصري على حياتنا المحلية وليس على التدخل الأمريكي في الكثير من البلدان حول العالم.
في حال كان الأمر كذلك، فيمكن اعتبار مثل هذا التضليل أمراً خطيرا للغاية، حيث يمكن للكثير من الحوادث السيئة أن تحدث عندما لا يكون الناس منتبهين. علاوة على ذلك، يعتبر انعدام اهتمامنا بأي شيء غير رئيسنا أو أنفسنا دليلاً على الكثير من الأمور التي لا تتعلق بالرئيس دونالد ترامب فقط، بل بنا نحن أيضاً.
المصدر: الغارديان (ترجمة نون بوست)