لماذا اغتيل ناهض حتر... ومن كان وراء اغتياله؟
قد يعتقد بعضهم أن الإجابة عن السؤالين الواردين في عنوان المقالة سهل، فثمة نزوع عام نحو التبسيط دون التبصر في السياقين التاريخي والجيوسياسي، وخاصة بالنسبة إلى من لا يحبون مغامرة العوم في وجه التيارات العاصفة، والاغتراب في متن اللامألوف، وتمثُّل ما يراه الآخر... وخصوصاً إذا كان العدو كامناً!
عصام التل
من هو ناهض حتر؟
بدأ ناهض حتر حياته السياسية طالباً في صفوف «اتحاد الشباب الديموقراطي الأردني» في الجامعة الأردنية. واشتعل بنضالات اليسار مع رفيقات ورفاق اتحاد الشباب و«الاتحاد الوطني لطلبة الأردن»، في وجه أجهزة السلطة وأدواتها من المخبرين و«الإخوان المسلمون»، الذين كانوا يتصدّون، في أواخر سبعينيات القرن الماضي، دون مواربة، لتظاهرات الطلاب في الجامعة، وذلك في حقبة الصراع على مسألة «أين ستذهب فلسطين... وأين سيذهب الأردن!».
اعتقل حتر للمرة الأولى لدى عودته من «المهرجان العالمي للشباب والطلاب» في هافانا في كوبا سنة 1978. ونكلت به المخابرات. وعندما شنّت الأجهزة حملتها التالية ضد الحركة الطلابية في الجامعة الأردنية في 1979، كان بين عشرات فتكت بهم، ليتسلم بعدها «الإخوان» وحلفاؤهم من المخبرين قيادة العمل الطلابي في الجامعات، وخاصة بعد الفتك المماثل بطلبة جامعة اليرموك في 1986.
لم يشعر ناهض بأن ثمة ملامح «سيزيفية» في النضال ضد النظام في الأردن، كما شعر كثيرون. ولم يهدأ. وربما كان هذا سمة عضوية لبنية وعيه، إذ أفضى به جدل الذاتي والموضوعي إلى ألا يهدأ. ثمة روح ما كانت لتتوقف عن الاشتعال كانت تسكنه، ولا تتركه يهدأ حتى للحظة.
توصل إلى اقتناع بأن النظام الحاكم في الأردن غير قابل للاختراق من الخارج، وخاصة أن انقلاب 1957، الذي قادته الاستخبارات الأميركية في الأردن ضد الحركة الوطنية الأردنية ومشروعها التحرري، والتنكيل بها وزجها في السجون، وخاصة معتقل الجفر الصحراوي، وتشريدها في بقاع الأرض، وعلى وجه الخصوص الشيوعيون، أدى مع توسعة السوق وأجهزة الدولة إلى احتواء النسبة العظمى من الأردنيين تحت مظلة النظام.
هل في بلد كالأردن يحدث اغتيال من وراء ظهر القصر!
وتعزز هذا بصورة مفصلية بفعل الشرخ في البنية الاجتماعية ــ السياسية الأردنية بعد أيلول 1970، عندما وصل التناقض بين النظام الأردني و«منظمة التحرير الفلسطينية» إلى حد الانفجار، وأدى في ما أدى إلى شرخ عمودي يكاد يكون شبه كامل بين الأردنيين والفلسطينيين، إذ طفا على السطح، للمرة الأولى بهذه الحدية، أن ثمة فلسطينيين لديهم مشروعهم المختلط الخاص، الذي لم يستطع احتواء ذوي المصلحة الأردنيين في حركة ثورية ضد النظام وضد الاحتلال، بسبب قصوره الذاتي والبنية الطبقية لقيادته، وثمة أردنيون حققوا مكتسبات من مشروع وصفي التل لبناء دولة «الرعاية الاجتماعية»، كما يسميها ناهض، في إطار نظام تابع للإمبريالية تاريخياً.
غدا الشرخ العمودي شبه كامل، خلافاً لما كانت عليه الحال في الخمسينيات والنصف الأول من ستينيات القرن الماضي، من تدامج للبنيتين الوطنيتين الأردنية والفلسطينية في حركة وطنية واحدة ذات برنامج وطني/ اجتماعي واحد، في وجه تبعية النظام والمشروع الصهيوني والاستغلال الطبقي.
مع اتضاح هزيمة المشروع الوطني التحرري الفلسطيني، بتوقيع اتفاقات أوسلو، وتوقيع الأردن اتفاقية وادي عربة، بات واضحاً أنه ليس ثمة أفق لتلبية حقوق اللاجئين والنازحين الفلسطينيين، وفقاً لقرارات الأمم المتحدة، وأن المشروع البريطاني ــ الأميركي ــ الصهيوني، الذي طالما قاد القصر الدور الرئيسي في تنفيذ مقتضياته، منذ تأسيس إمارة شرق الأردن، في 4 تشرين الثاني 1921، وكانت أوضح ملامحه ضم الضفة الغربية، بقرار بريطاني، بالتعاون مع القصر وبتواطؤ من زعامات فلسطينية موالية لبريطانيا في مؤتمر أريحا، قد تحول بالكامل، بعد هزيمة حزيران 1967، إلى معطى سياسي/ سكاني بحت عنوانه «الوطن البديل».
قبل الإجابة عن سؤال من قتل ناهض حتر؟ ينبغي الإجابة عن سؤال: من قتل وصفي التل؟ فوصفي التل غدا جزءاً عضوياً من وجدان ناهض حتر، ولكن بالتوتر الاجتماعي ــ السياسي الذي كان عليه والد وصفي التل، مصطفى وهبي التل (عرار)، شاعر المهمشين الذي مات قهراً، وأول من اتهم بالبلشفية في إمارة شرق الأردن.
لا أذيع سراً، وإن كان الأمر لم يصل إلى براثن الإعلام بعد، أن الرصاصة التي قتلت وصفي التل كانت رصاصة في القلب من قناص تابع للاستخبارات الأميركية ثقبت الجاكيت التي كان يلبسها، واستقرت في صدره... أما ما تبقى، فكان مجرد ديكور وجزء من الإخراج، شارك فيه جهاز «أبو إياد»، وفي رأيي بالتنسيق مع مخابرات السادات للتغطية على المخطط الأوسع.
لماذا وصفي التل وهو جزء عضوي من النظام، ومعادٍ للشيوعية وللأنظمة العربية غير التابعة للغرب؟
وصفي التل كان أردنياً بالمعنى السياسي، ولديه مشروعه الذي يجسد في حده الأدنى نقيض الدور المناط بالنظام الأردني في احتواء مخرجات المشروع الصهيوني، سكانياً وسياسياً، أي «الوطن البديل». لم يكن على خلاف مع دور النظام الجيوسياسي في تقديم الخدمات الأمنية للمشروع الإمبريالي في المنطقة. فمشاركة النظام في حرب اليمن في أوائل الستينيات، وفي ظفار ضد «الجبهة الشعبية»، وفي البحرين لقمع الحركة الوطنية... إلخ، لم تلقَ معارضة من وصفي التل، وحتى محاولة انقلاب سليم حاطوم بسوريا، التي لجأ بعدها إلى الأردن، ضد حكم جناح صلاح جديد من «حزب البعث» في 1966، لم تكن بعيدة عن اقتناعاته السياسية، وربما الإجرائية.
إذاً، لماذا قتل وصفي التل؟
وصفي التل كان مشروعاً «وطنيا» أردنياً وامتداداً موضوعياً لمشروع المؤتمرات الوطنية الأردنية في العشرينيات والثلاثينيات، الذي ظل موازياً لمشروع القصر وحدده مرسوم وزارة المستعمرات البريطانية بتأسيس الإمارة لتقوم بمعاضدة المشروع البريطاني ــ الصهيوني في فلسطين، المتجسد في «وعد بلفور». وفي هذا كان مقتله، رغم أنه كان حليفاً للغرب، وخدم في الجيش البريطاني، وأيضاً في «جيش الإنقاذ».
في 1 أيار 2010، أي قبل الانتفاضة التي أشعل فتيلها إضرام البوعزيزي النار في نفسه أمام مقر ولاية سيدي بوزيد في تونس، أصدر ما يربو على ستين من كبار الضباط المتقاعدين من الجيش الأردني بياناً «عن مخطط لصنع أغلبية ديموغرافية من الفلسطينيين في المملكة الأردنية وعن حملة منظمة لتجنيس المزيد من المهجرين الفلسطينيين تمهيداً لإحياء المشروع الصهيوني القديم لتصفية القضية الفلسطينية على حساب الأردن عبر التهجير وفرض سياسة المحاصصة».
وأخطر مسألة تحدث عنها البيان كحقيقة تتمثل في النجاحات المتتابعة التي تلاقيها هذه المخططات، حيث بلغ عدد الفلسطينيين في الأردن حالياً أربعة ملايين ونصف مليون، منهم مليونان من اللاجئين والنازحين المجنسين نهائياً، وحوالى 850 ألف نازح مجنس يحملون البطاقة الصفراء، وحوالى مليون ومئتين وخمسين ألفاً من غير المجنسين الذين يحملون البطاقة الخضراء (الضفة) والزرقاء (غزة)، كما تتعرض المملكة لضغوط صريحة لتجنيس الجميع ومنحهم كوتا في النظام السياسي تساوي نسبتهم، وهو ما يقود إلى الوطن البديل.
واستعرض المتقاعدون مظاهر الضعف في مواجهة الوطن البديل عبر شيوع الفقر والجوع والبطالة في صفوف الأردنيين بسبب سياسات الخصخصة وبيع القطاع العام وسيطرة قوى البزنس والفساد والاستثمارات المشبوهة وترسخ مراكز القوى والعائلات الحاكمة التي تتخذ القرار وتشكّل الحكومات وتمنع الشعب الأردني من تقرير مصيره ومستقبله والدفاع عن وطنه ومصالحه.
وبصورة حاسمة، انتقل بيان المتقاعدين إلى مطالب محددة؛ بعضها من الطراز الحساس جداً، ومنها تأكيد أن الدستور الأردني لا يمنح أياً كان، وكائناً مَن كان، أي سلطات إلا لجلالة الملك من دون شراكة أحد، بغض النظر عن صلة القرابة أو اللقب، والملك يمارس سلطاته بحكومة ذات ولاية عامة، وبعد حصولها على ثقة مجلس نواب منتخب بنزاهة في ظل تمثيل للمحافظات على أساس الجغرافيا وليس السكان، وبشكل ملائم. وينبغي تشكيل الحكومات، بالطبع، على أساس يمثّل الشعب الأردني وليس مراكز النفوذ والعائلات الحاكمة ورجال الأعمال».
يبقى أن نعرف أن كاتب البيان كان ناهض حتر!
ثمة فارق آخر نوعي لحتر عن وصفي التل. فالأول كان ماركسياً بنهج مادي جدلي صارم، وحليفاً عضوياً لسوريا في مواجهتها للمؤامرة الإمبريالية ــ الصهيونية ــ الرجعية العربية بأدوات إرهابية. وكان حليفاً عضوياً «لحزب الله»، رغم أنه ولد مسيحياً وتربى شيوعياً، وصديقاً لنهج مناهضة الإمبريالية الذي دأبت جمهورية علي خامنئي في إيران على تبنيه.
لم يكن حليفاً عابراً، بل اشتعالاً لا يهدأ لربط الأردنيين، عسكريين وسياسيين، بمعسكر المقاومة هذا، وإلى حد المناقشة الجدية لالتحاق أردنيين بحركة المقاومة العربية التي بدأ سيد المقاومة بالتفكير فيها، وبالتخطيط لها.
السؤال الأخطر، الذي سيظل ينتظر الإجابة طويلاً، على ما يبدو، كما كانت الحال مع الاغتيال السياسي لوصفي التل: ماذا كان يفعل رئيس الوزراء، هاني الملقي، وباسم عوض الله، اقتصادي القصر والعدو اللدود لناهض حتر، سياسياً واقتصادياً، في السعودية، عندما كان قاتله «السلفي» في السعودية! هل كانت مجرد مصادفة، وهل في الاغتيالات السياسية مصادفات؟ وهل كان من الممكن للتحقيق المحصور بحلقة ضيقة للغاية مع القاتل أن يكشف حقيقة ودوائر القرار في عملية الاغتيال، أم أن إعدامه كان ضرورياً للتخلص من أداة الجريمة! وهل كان من الممكن، في بلد كالأردن، أن يتم ذلك من وراء ظهر القصر! وعندما تكون الأبعاد الجيوسياسية لاغتيال ناهض حتر بهذا الاتساع وهذا التوتر... هل كان من الممكن أن تكون أجهزة الاستخبارات الإقليمية، وربما الدولية، خارج الصورة.. الاغتيالات السياسية لا تحدث بالمصادفة!
* كاتب أردني