كتب جهاد إسماعيل
لم ينفك الواقع السياسي الراهن عن القطاع التربوي لجهة عدم استطاعة الأخير في الخروج عن الطريقة اللبنانية في بناء السياسات والقرارات واجراء التوصيفات وعقد المقارنات والدراسات، رغم خصوصيته ودوره في رسم هيكلية المجتمع والمؤسسات، لأن المعايير التي تبنى في مقاربة ملفاته واحتياجاته لا تنطلق وفق الغاية المرجوة منه، بغض النظر عن الانجازات او الايجابيات التي يحققها هذا القطاع على الساحة المحلية والاقليمية.
فمن مفردات هذه التوأمة، أي بين المناخ السائد في لبنان والقطاع التربوي، هي منهجية المعالجة او المقاربة في تحديد حاجات ملاك التعليم الثانوي إلى الاساتذة في وزارة التربية بسبب تأثرها بالعقلية اللبنانية الموروثة، وتفاعلها مع الية التنفيع السياسي والفئوي والزبائني، بوسائل لا تشبه الشفافية او الواقعية في شيء، باعتبار أن الحاجة إلى الاساتذة في الملاك تتحدد وفقا للمصلحة، وتحجب وفقا للمصلحة ايضا انطلاقا من بدائل تجد أساسها في الشخصنة والاستنسابية، لأن الدراسات التي تحدد حاجة الملاك لعدد الاساتذة يشوبها الكثير من الملاحظات والاخطاء بسبب هذه العوامل، علاوة على الخلفيات الطائفية في مكان ما، والتي تتجلى في محطتين:
المحطة الاولى: الدراسة التي حددت حاجات الملاك من الاساتذة في التعليم الثانوي، والمنجزة قبل اجراء المباراة لعام 2015، او التي تم زيادة ارقامها أثناء وخلال انهاء المباريات في جميع الاختصاصات من مختلف الاقضية، تشوبها - بحسب مصدر تربوي رفيع - علامات الغبن بسبب الحفاظ على عدد كبير من المتعاقدين والمنتدبين الى الثانوي على حساب الناجحين في المباراة، وذلك بشكل نسبي واستنسابي بين قضاء وآخر.
المحطة الثانية - دراسة 2017-2019 : حيث يجري العمل على تسويقها حاليا من قبل وزير التربية رغم انها لم تنل -ولو نسبيا - الموافقة السياسية من قبل لجنة التربية النيابية، بسبب عدم تناسبها مع الحاجات الفعلية، لأن وفق احصاءات صحفية اجرتها جريدة الاخبار، او وفق ملاحظة غير مقننة، تثبت أنه سيخرج نحو 900 استاذا على الاقل الى التقاعد في السنتين المقبلتين، في حين أن الدراسة التي أحيلت إلى مجلس الخدمة المدنية تطال 207 استاذا فقط من عام 2017 حتى نهاية 2019، وهذا ما لا يتوافق مع تصريح الوزير مروان حمادة -خلال افتتاحه طاولة مستديرة للبحث في المناهج التربوية منذ 3 اشهر -الذي أكد فيه أنه عملا بالجداول المصنفة للحاجات الفعلية للملاك ولمدة 4 سنوات، يثبت 1500 استاذا في الملاك، ويبقى 560 استاذا من اختصاص الادب العربي باعتبارهم خارج نطاق الحاجة الفعلية، ما يستدعي الغرابة لجهة امكانية الحاق 1300 استاذا في السنتين الاخيرتين من السنوات الاربع لسريان القانون المتعلق بالفائض، وعدم امكانية الملاك من استيعاب الا 207 استاذا، رغم ان الحاجة الفعلية وفق المصادر التربوية والصحفية، تتجاوز 900 استاذا!.
الاساتذة الناجحون في المباراة أعربوا عن امتعاضهم من الدراسة الاخيرة، لأنها - بحسب زعمهم - مجحفة وغير واقعية، لا سيما بعد اعلامهم من قبل البعض من مديري الثانويات الرسمية بعدم اطلاعهم عن هذه الارقام لأنهم لم يبرزوا حاجاتهم الفعلية الى مديرية التعليم الثانوي ، لأن الدراسة انجزت منذ 3 أشهر وبطريقة سرية، بالاضافة إلى الاشكاليات المطروحة على ارقامها في بعض الاقضية، فمثلا قضاء بعلبك -الهرمل تثبت الارقام الواقعية عن حاجة الملاك في اختصاص الرياضيات الى 4 اساتذة على الاقل بينما يظهر في الدراسة الاخيرة أن الحاجة لا تتعدى 1 مع الحفاظ على جزء كبير من حصص المتعاقدين، وفي قضاء زحلة يحتاج الملاك في اختصاص التربية الى 3 اساتذة على الاقل بينما الحاجة المحددة في الدراسة هي صفر ، بالمقابل يتم تحديد الحاجات في بعض الاقضية بشكل يزيد عن المطلوب، كما حصل في الدراسات السابقة قبل واثناء اجراء المباراة، اضافة الى بروز التساؤلات عن الجهة المختصة في عملية تحديد الحاجات وعن مدى احترام المعايير فيها.
يجيب مرجع نقابي عن هذه التساؤلات بالقول "إن الذي يقوم بهذه العملية هي مديرية التعليم الثانوي وهي المسؤولة عن إعداد حاجات الثانويات لأساتذة وهم بالتأكيد لديهم جهاز كبير، ويقومون بإحصاءات ويعرفون تماما ما هي حاجاتهم وعدد الساعات وعلى أساسها يأخذون الأساتذة، فالأستاذ يجب أن يقدم 20 ساعة تعليم وعلى أساس عدد الساعات التي يريدون أن يملؤوها يحتسبون عدد الأساتذة ويوزعونهم على المناطق والمواد، لكن تبقى هذه المعايير مبدئية، ولا اعتقد انها طبقت مئة بالمئة في الدراسة العتيدة، خاصة وانه أوكل لبعض الموظفين في وزارة التربية صلاحيات استنسابية وتقديرية واسعة في تحديد الحاجة وبشكل سري، وهذا ما لا ينسجم مع اصول الشفافية"
وفي المقلب الآخر، لا يخفى على أحد أن ثمة ما يعيق الشفافية في عملية تحديد الحاجات الفعلية في الملاك ويمنع بالتالي واقعيتها، وهو المحاباة والزبائنية من قبل بعض المنتفعين للحفاظ على أكبر عدد ممكن من ساعات بعض المتعاقدين، بالاضافة الى أن الدراسات ، وخاصة الاخيرة، لا تلحظ أعداد المنتدبين من التعليم الابتدائي للقيام بأعمال إدارية قد توازي عدد الذين يدرسون، ما يزيد كلفة التعليم الثانوي من دون الاستعانة بمن أثبت جدارته في المباراة، ويقلص بالتالي الحاجة بطريقة غير قانونية وغير منسجمة مع الاصوات القائلة برفع المستوى التعليمي في ملاك التعليم الثانوي، وبالمقابل لا يؤخذ بعين الاعتبار النقص الحاصل في التعليم لأن 400 استاذا مسجلين ضمن الملاك وغير قادرين على اتمام عملهم بسبب اصابتهم بأمراض مختلفة، جسدية ونفسية وعصبية، ويعجزون عن القيام بمهام التدريس وفق تقرير التفتيش المركزي.
لذلك لا يمكن الا الوقوف عند المعايير التي تحدد دراسة الاحتياجات بين الحين والاخر، لأن الثابت والاكيد أن التعليم الثانوي وفقا للارقام والمعلومات هو بحاجة الى عدد من الاساتذة يوازي عددهم عدد الناجحين في المباراة الاخيرة فيما لو تم الحاقهم على أربع سنوات وفق القانون الذي من قبل رئيس الجمهورية وعلى أساس الحاجات الفعلية لا الاستنسابية، خاصة أن الوزراة -بالاشتراك مع الحكومة - لا تدعو الى مباريات التعليم الثانوي الا بشكل نادر وغير دوري، في ظل نظرة الدولة الى التعليم الرسمي كمكان للتنفيعات، بفعل سياسات متراكمة تاريخيا، ما يدعونا الى طرح تصورات تراعي الحاجات الفعلية من جهة، وتؤمن الشروط السليمة في تفعيل التعليم الرسمي من جهة اخرى ، عبر التوصيات التالية:
- السعي لإقتراح قانون يقضي بتشكيل لجنة مختصة في دراسات الحاجات بشكل علمي ودقيق، وتمثل فيها كل من مجلس الخدمة المدنية، التفتيش التربوي، مديرية التعليم الثانوي، دائرة الابحاث والتوجيه.
-ايقاف العمل -بمرسوم وإلا بنص قانوني صريح- بألية الانتداب من الابتدائي الى الثانوي او العكس، ايا كانت الاعتبارات حتى لا تطغى ذريعة الضرورات على المحظورات والامكانيات.
-استحداث هيئة إدارية متخصصة، تناط اليها مهمة الرقابة على صحة الاحتياجات في ملاك التعليم الثانوي نظرا لأهميته في تفعيل التعليم الرسمي.
-التقدم بإقتراح قانون يهدف الى الغاء نظام "الاقضية " في التباري، وذلك بهدف ضبط الاستنسابية من جهة، وتكريس مبدأ المساواة والجدارة والاستحقاق من جهة اخرى.
- عندما تقرر الدولة الحاق الاساتذة الناجحين "الفائض" فلا يجب أن يقر هذا التوجه الا بقانون يحدد فيه الية التثبيت، وكيفية ملء الشواغر وفقا لحاجات واقعية، لا سيما وان هذه المسألة تتصل بالسياسة التربوية العامة، والتي يفضل أن تشترك فيها السلطة التشريعية بعد تقرير لجنة التربية النيابية.
-العمل على اجراء مباريات بشكل دوري عبر مجلس الخدمة المدنية، لأن الاخير الضمانة الوحيدة في ثقة المواطن بمعايير الكفاءة والجدارة.
بناء عليه، لا يمكن أن يستقيم التعليم - خاصة الرسمي - الا في ظل امكانية تحقيق النهوض على مستوى القرارات والتشريعات، حتى يفصل واقع التربية عن واقع السياسة ، فهل ستترجم المبادرات والبرامج والعناوين في اطلاق ورشة حقيقية في ملاك التعليم الثانوي واحتياجاته؟