عن عمر 40 عاماً، رحلت منذ أيّام مريم ميرزاخاني، بروفسورة الرياضيّات والمرأة الوحيدة الفائزة بجائزة «Fields Medal» المميّزة في الرياضيات، التي تعادل في أهميّتها جوائز «نوبل» في العلوم.
عمر ديب/جريدة الأخبار
كانت العالمة الفذّة ذات الأصول الفارسيّة، مريم ميرزاخاني، تعمل في جامعة «ستانفورد» في الولايات المتّحدة الأميركيّة، وأثار رحيلها موجة من الحزن الكبير، خاصّة بين جيل العلماء الشباب الذين عملوا معها أو اطّلعوا على أعمالها، وشاهدوا كيف غيّرت، بعملها وإبداعها، دور المرأة ومكانتها في مجالات العلوم النظريّة، وخاصّة الرياضيّات.
وفيما كانت مريم تتجنّب الظهور الإعلامي وتخشى أضواء الشهرة، إلّا أنّ فوزها بجائزة «Fields» كأوّل امرأة في تاريخ الجائزة وفي هذا العمر المبكّر، جعل منها سريعاً رمزاً معروفاً في عالم الرياضيّات وخارجه.
ولدت ميرزاخاني في إيران، ونشأت فيها وعايشت في طفولتها التغيّرات الكبيرة التي حصلت في تلك البلاد وتحديداً في فترة الثورة الإسلاميّة عام 1979 والحرب العراقية الإيرانيّة التي امتدت حتى نهاية الثمانينيات، وتلقّت علومها في بلدها الأم حتى نهاية المرحلة الجامعيّة في أواخر التسعينيات. ورغم أنّها أرادت في البداية أن تكون كاتبة، إلّا أنّها اكتشفت المتعة والفضول في حل المسائل المنطقيّة والرياضيّة أيضاً، ما جعلها تنتقل إلى هذا المجال العلمي الأكثر تعقيداً. شاركت في أولمبياد الرياضيّات مع الفريق الإيراني وفازت بميداليّتَن ذهبيّتين في سنتين متتاليتين في هذه المسابقة المدرسيّة الدوليّة. في المرحلة الثانوية درست في ثانوية للبنات في طهران ثم انتقلت إثر تخرّجها من جامعة «شريف للتكنولوجيا» في إيران إلى الولايات المتّحدة، وتحديداً إلى جامعة «هارفرد» التي نالت منها الدكتوراه في الرياضيّات. في عام 2004 قدّمت أطروحتها تحت إشراف «كورتيس ماكمولن» الحائز أيضاً جائزة «Fields»، وحلّت في هذه الأطروحة مسائل عالقة في الرياضيّات، ما أظهر نبوغها وأثبت قدراتها في الأوساط العلميّة الدوليّة. بعد تخرّجها عملت لفترة قصيرة في جامعة «برنستون»، قبل انتقالها إلى «ستانفورد» التي عملت فيها منذ عام 2008 حتى رحيلها.
شغف بالرياضيات
عندما سُئلت عن مفتاح النجاح في عالم الرياضيات الصعب، أجابت بأن الأهم هو العمل الدؤوب والصبر، «إذ إن جمال الرياضيّات لا يظهر إلا لأولئك المتابعين الصبورين»، وإن كانت عملية البحث العلمي «تشعرك بأنّك تقوم بتعذيب نفسك للوصول إلى النتيجة المرجوّة، إلّا أن الحياة نفسها ليست سهلة أيضاً».
أصيبت بسرطان الثدي في عام 2013، وعانت معه لسنوات قبل أن ينتصر القدر على الكفاح الأسبوع الماضي، مختتماً مسيرةً قصيرةً في دورة الحياة، لكن غنيّةً في غزارة الإنتاج والبحث، وفي عمقه. نعتها جامعة «ستانفورد» التي قال رئيسها إن «أثر مريم سيحيا، وستلهم آلاف النساء لولوج عالم الرياضيّات والعلوم، وإنها كانت عالمة متميّزة وشديدة التواضع». وكذلك نعاها كبار علماء الرياضيات الذين قال أحدهم: «إن معظم علماء الرياضيات لن يستطيعوا تحقيق ما يماثل عملها الذي حقّقته فقط في أطروحة الدكتوراه». أما الرئيس الإيراني حسن روحاني، فقد نعى «العالمة الخلّاقة ذات التميّز غير المسبوق، والإنسانة المتواضعة التي رفعت اسم إيران في أهم الأوساط العلميّة الدوليّة، والتي شكّلت نقطة تحوّل تثبت إرادة المرأة الإيرانيّة والجيل الشاب وقدرتهما على الوصول إلى أعلى درجات المجد في المحافل الدولية».
أبحاثها في الرياضيات
في عام 2014 تُوِّجَت بجائزة «Fields»، نظراً إلى أعمالها النوعيّة في الهندسات الزائديّةhyperbolic geometry والرياضيات اللا إقليدية non-Euclidean geometries. وهذه الأبحاث تناولت أساساً الأسطح المقوّسة والمحدّبة، كالأجسام الكروية مثلاً أو تلك المتشكّلة مثل حلقة المرساة (أو مثل قطعة Doughnut). ورغم انغماسها في هذا المجال البحثي، إلا أن ميرزاخاني أسهمت أيضاً في مجالات علميّة أخرى وتطبيقات رياضيّة في مجالات نظرية الحقول الكمومية في الفيزياء إلى جانب نظريات أخرى في علوم الهندسة وعلوم المواد وكان لها أثر مهم في هذه المجالات. ورغم أنّ هذه الأبحاث تتركّز بمعظمها في الجانب النظري، إلّا أنّ تطبيقاتها المحتملة واسعة، وتحديداً في الدراسات الفيزيائيّة حول الكون وحول النظريات الكموميّة حيث يمكن أن تُسهم في تطوير الحلول لبعض المسائل فيها. يظهر واضحاً، رغم أنّها رحلت في عمر مبكّر، أن عملها البحثي طاول مجالات واسعة يشكّل كل منها بحدّ ذاته تحدياً علمياً أمام العاملين فيه. لكنّ هذه السعة البحثيّة لم تمنع مريم من التعبير مراراً عن شغفها الأكبر في مجال الرياضيّات البحتة تحديداً بسبب أناقتها ودقّتها.
صعود عكس التيّار
ليس سهلاً أن يستطيع إنسان محمّل بثلاث صفات تعتبر معوّقة في عالم العلم في الولايات المتّحدة التقدّم إلى تبوّء أرفع المراتب العلميّة. ميرزاخاني بصفاتها الثلاث كامرأة إيرانية مهاجرة تعلمت في الجامعات الإيرانيّة، صعدت فقط بسبب تميّزها الأكاديمي والبحثي في محيط ترتفع فيه اليوم ظواهر العنصريّة أو الجندريّة والخوف من الآخر والتنميط الاجتماعي بأشكال مختلفة، سواء في بلدها الأم أو في موطنها الثاني. في هذا السياق تعتبر ميرزاخاني أيضاً أنموذجاً لمواجهة كافة المعوقات الاجتماعية باتجاه تحقيق الذات والتميّز في أصعب مجالات العلوم، وبذلك ستدخل التاريخ كباحثة وعالمة مميّزة رغم رحيلها المبكّر.