الصورة النمطية تمنع على أيِّ عاقل تصور أنّ المحمَّدين، في الرياض وأبوظبي، يقومان بخطوة سياسية من دون موافقة أميركية. والصورة نفسها تمنع على أيِّ عاقل، أيضاً، تصور أنّ حاكم قطر يقود مقاومة لشركائه الكبار من دون غطاء أميركي. هذه الصورة النمطية تفرض علينا انتظار أن يستيقظ السيد الأميركي، ويضرب على الطاولة، ويدعو الأولاد إلى وقف اللعب والصراخ.
يبقى أنّ الوضع مختلف هذه المرة. ليس بسبب جنون المحمدين، إذ إنهما يقومان تماماً بما يتهمان به قطر من تجاوز حجمها. المختلف، الآن، هو أنّ المتنازعين لن يقروا بأنّ ما يجري، اليوم، هو أولى ثمار سياسات دول الخليج منذ تحولها إلى أدوات عمل مباشرة في السياسة الأميركية ـــــ الإسرائيلية في المنطقة. وهو نتيجة توليهم الدور التنفيذي المباشر في تخريب المنطقة، بعد هزيمة الاحتلال الأميركي في العراق وهزيمة إسرائيل في لبنان. وهو دور مهدّد، بقوة، بعد سلسلة الهزائم التي تعرض لها المشروع الأميركي، وسط الوقائع المتسارعة في العراق وسوريا، التي تشير إلى هزيمة مدوّية قريبة لأبرز أدوات هذا المشروع، أي تنظيم «داعش».
عملياً، ما الذي يجري؟
السعودية تعاني أزمة كبيرة على مستوى الحكم، وعلى مستوى التراجع الحاد في اقتصادها، واحتمال تعرضها لمزيد من الخسائر نتيجة الفشل الذي يلاحق سياساتها في المنطقة. وكل ما تقدر على القيام به، هو تجديد عقد الوكالة للأميركيين، بأيِّ ثمن ممكن، مقابل توفير ديمومة الحكم. وهو الأمر الذي دفع أولاد زايد إلى الخروج من سياسة الحياد التي اتبعها والدهم، وتورطهم في سياسات تنفيذية تخصّ جدول الأعمال الأميركي، من أجل ديمومة الحكم فيها أيضاً. وفي حالتي السعودية والإمارات، وملحقتهما البحرين، يضاف المحفز الدائم المتصل بالخوف من أن يدفع نفوذ إيران إلى تغييرات كبيرة في دول الخليج.
اليوم، وكما حصل في بقية المنطقة، لا يمكن أن يبقى مجلس التعاون الخليجي ودوله في منأى عن التغييرات التي تصيب مجمل النظام السياسي العربي. لقد أخطأ جميع حكام الخليج عندما توهّموا أنهم قادة «الربيع العربي»، وأنهم سيجنون الثمار، وسيرثون أدوار قلاع العرب في بغداد والقاهرة ودمشق. وها نحن نقترب من لحظة الصدام الذي يهدف، عملياً، إلى إعادة صياغة النظام الحاكم في الخليج. وهو أمر تخاض من أجله المعارك الكبرى. لكن معركة الحكام هناك تستهدف، أولاً، كسب ودّ الولايات المتحدة وإسرائيل ودعمهما، ثم الإمساك بزمام الحكم في كل دول الخليج.
ما يحصل اليوم هو محاولة جدية تقوم بها الرياض وأبو ظبي، بموافقة ضمنية أميركية، لتعديل صورة النظام الخليجي، من خلال تغييرات تدفع الجميع إلى الانضواء تحت سقف الصيغة الجديدة التي يتولاها المحمدان، وهي محاولة ستأخذ مداها، ومتى فشلا سيعودان إلى السيد الأميركي طلباً لتدخله. وهذا أمر تدركه قطر التي تحاول المقاومة، من خلال اعتماد سياسة «عدم الانجرار» إلى «معركة المحمدين»، ولكن، مع تكثيف محاولة نيل رضى السيد الأميركي ومن خلفه الغرب وإسرائيل. وفي انتظار نتيجة هذه المواجهة، على الجميع اعتياد تغييرات كبيرة ستطرأ على دول الخليج العربي. وما يحصل مع قطر، سبق أن حصل في البحرين من دون مقاومة، وهو مرشَّح لأن يتكرّر في الكويت وسلطنة عمان أيضاً، رغم أنّ المحمدين يأملان أن تنصاع مسقط والكويت بمجرد تنفيذ العقاب في قطر، الذي قد يلامس حد تغيير أشخاص الحكم فيها.
عملياً، لا مؤشرات على أنّ أبناء العائلات القطرية سيحملون السلاح في مواجهة الهجمة السعودية ــــ الإماراتية. المعجزة فقط هي التي ستجعلنا نرى جيشاً كبيراً يهرع إلى نجدة الدوحة. وبالتالي، إنّ في مقدور الولايات المتحدة، وحدها، حسم الأمر أو إطالة الأزمة، حتى تجني أكبر قدر من المكاسب، على طريقة دونالد ترامب، الذي لن يمانع في احتواء الموقف مقابل ألف مليار دولار إضافية يدفعها المتخاصمون، ولو كلاً على حدة.
من الأسباب الإضافية التي يمكن وصفها بـ«الداخلية» أنه، خلال العقدين الماضيين، كان يمكن من يقابل مسؤولين وشخصيات من السعودية والإمارات ودول أخرى، قراءة الاستفزاز الكبير على وجوههم، جراء ما تقوم به قطر على أكثر من صعيد. كذلك كان بمقدور الجميع ملاحظة آثار الجموح القطري في عواصم القرار العالمية، ولدى أطراف إقليمية نافذة. وفي هذا الجانب، ثمة أساس يعرفه السعوديون جيداً، وهو أنّ الحكم القطري نشط وتعاظم دوره على خلفية العداء للسعودية، ولطالما دعمت قطر، علناً أو سراً، أنشطة متنوعة تستهدف السعودية. وهو أمر انسحب على الإمارات العربية المتحدة أيضاً. وهذا سبب كافٍ لجعل العنصر الشخصي كبيراً، وكبيراً جداً.
الاتجاه السائد لدى المحمَّدين يقول إنّ الجزيرة العربية يجب أن تخضع لنظام سياسي جديد، يشرف المحمَّدان على إدارته، وهو أحد أهداف الحرب المجنونة على اليمن، وبالتالي، إنَّ الرياض وأبوظبي تجدان أنه الوقت المناسب لإحداث هذا التغيير، ومنع فتح ثُغَر يمكن أن تنفذ منها المحاور المقابلة، سواء التي تقودها إيران أو تركيا مع التنظيم الدولي للإخوان المسلمين. وهذا التصور لدى المحمَّدين، لا يقتصر على انضباط سياسي فقط، بل على انضواء كل دول الخليج في السياسات الجديدة سياسياً وأمنياً واقتصادياً.
وهناك أمر آخر، يتعلق بحاجة السعودية والإمارات، قبل الآخرين، إلى فائض مالي بسبب العجز الكبير الحاصل لديهما، نتيجة النفقات غير المتوقعة لتغذية حروب أميركا في العالم العربي، وشراء ودّ الولايات المتحدة نفسها. وهو فائض موجود في قطر ودول أخرى مثل الكويت. وواهم من يعتقد أنّ السعودية تتصرف على أنّ قطر دولة مستقلة. فلطالما قال أبناء سعود إنها إمارة تخصهم، وتمتعها بحكم ذاتي هو أمر جانبي، وعندما تشعر السعودية بالحاجة إلى ثروات هذا البلد، فهي ستعود إلى ما تضمره، تماماً كما هي الحال في مشكلة العراق مع الكويت، أو مشكلة سلطنة عمان مع الإمارات نفسها.
يبقى أنّ الشارع العربي سينقسم تلقائياً بين داعم لهذا أو ذاك. لكن، ليتذكر الجميع، أنّ المتنازعين اليوم هم شركاء، متحدون، في المسؤولية عن دماء ومآسي ملايين البشر في اليمن ومصر وليبيا وتونس وسوريا والعراق وفلسطين وباكستان وأفغانستان. وهؤلاء الذين يتخاصمون اليوم، إنما يختلفون على مَن يكون صاحب الحظوة عند السيد الأميركي، وليس أي شيء آخر!