تمهيد
تُعدُّ أدوات البحث العلمي من أهمّ الوسائل المتّبعة في اختبار الفرضيات التي توصّل إليها الباحث، وأبرز الأدوات المعتمدة في البحث العلمي: اختيار العيّنة، المقابلة، الملاحظة، والاستبيان.
ويعتبر اختيار الباحث للعيّنة من الخطوات والمراحل الهامة للبحث، ولا شكّ في أنّ الباحث يفكّر في عيّنة البحث منذ أن يبدأ في تحديد مشكلة البحث وأهدافه، لأنّ طبيعة البحث وخطّته تتحكّم في خطوات تنفيذه واختيار أدواته، وليس من السهل عادة عند دراسة ظاهرة معينة في مجتمع أصلي أن يقوم بدراسة جميع أفراد ذلك المجتمع، لذا يلجأ الباحث إلى اختيار عيّنة من المجتمع الأصلي، ويكون اختيار العيّنة بناءً على قواعد علمية محدّدة.
العيّنة وخطوات اختيارها
إنّ استخدام العيّنات في البحوث يتطلّب الانتباه إلى عدّة نقاط نظامية تتعلّق بأطر ووحدات وأنواع وأحجام العيّنات والمناطق الجغرافية التي تُنتقَى منها، إضافة إلى تحديد درجة تمثيلها لمجتمع البحث الذي اختيرت منه، والأخطاء المعيارية الداخلة فيها، فتصميم العيّنة يعتمد على دقّة المعلومات التي يقوم الباحث بتحقيقها في بحثه. إضافة إلى طبيعة مجتمع الدراسة، أي كونه متجانساً أو كبيراً أو صغيراً من ناحية حجمه. وأخيراً يعتمد على الإمكانات المادية والبشرية والزمنية المتوفّرة للباحث.
وعليه، يمكن أن نحدّد الخطوات التي ينبغي للباحث اتّباعها في اختياره للعيّنة بالآتي:
الطريقة العلمية لتنفيذ العيّنة
لا بدّ للباحث من اعتماد الطريقة العلميّة في تنفيذ العَيِّنة، ويتمثَّل ذلك في:
1- التحديد الواضح والدقيق للمجتمع الأصلي، فمثلاً إذا كان البحث عن أثر الوضع الاجتماعي (الزواج/العزوبية) على التحصيل الدراسي لطلاب العلوم الدينية في حوزات بيروت، فإنّ المجتمع الأصلي هو الطلّاب الذّكور في بيروت، فلا يصحّ أن تشمل العيِّنة الإناث، ولا ذكور الحوزات في البقاع أو جنوب لبنان، ولا طلّاب الجامعات، وهكذا.
2- تحديد أفراد المجتمع الأصلي، وذلك من خلال إعداد قائمة بالأسماء أو الصّفات لجميع أفراد المجتمع الأصلي.
3- اختيار عيِّنة ممثِّلة للمجتمع الأصلي، فلا بدَّ للعيّنة التي سيختارها الباحث من أن تطابق المجتمع الأصلي، ولكن بعدد أفراد أقلّ، فالعيّنة هي صورة مصغَّرة عن المجتمع الأصلي، فإذا كان جميع الأفراد متجانسين ولا فروق معتد بها بينهم، يمكن للباحث اختيار أي عدد منهم بدون شروط، أمّا في حال وجود فروق معتدّ بها بين أفراد المجتمع الأصلي، فلا بدّ للباحث من اختيار العيِّنة وفق شروط ذلك سيتمّ تبيانها في أنواع العيّنات، أمّا فيما يختصّ بنسبة العيِّنة إلى المجتمع الأصلي وكيفية تحديدها، فإنّ ذلك يعود للباحث تحديده بلحاظ العديد من العناصر وأهمّها.
4- تجانس أو تباين المجتمع الأصلي: إنّ المجتمع الأصلي المتجانس يسهّل عمليّة اختيار العيِّنة، لأنّ أيّ عددٍ من أفراده مهما كان قليلاً يمثّل المجتمع الأصلي كلّه، أمّا إذا كان المجتمع الأصلي متبايناً فإنّ ذلك يعني صعوبة في اختيار العيِّنة الممثّلة، كما يعني زيادة في حجم العيِّنة حتى تمثّل المجتمع الأصل المتباين كلّه.
5- أسلوب البحث المستخدم: فالباحث الذي يريد الحصول على نتائج دقيقة لا بدّ أن يعتمد على عيِّنة كبيرة الحجم تعطيه الثِّقة لتعميم نتائجه على المجتمع الأصلي.
6- درجة الدقّة المطلوبة في البحث: فالباحث الذي يريد الحصول على نتائج دقيقة لا بدّ أن يعتمد على عيِّنة كبيرة الحجم تعطيه الثّقة لتعميم نتائجه على المجتمع الأصلي.
ولكي يتجنّب الباحث المشاكل التي قد تنتج عن الاختيار عليه أن:
- يكون عالماً بجميع أنواع العيّنات وخصائص كلّ منها.
- يحسن اختيار نوع العيِّنة المناسبة لبحثه.
- ينفِّذ المسح على جميع أفراد العيِّنة.
- يراعي الدقّة في استقاء المعلومات قدر الإمكان.
المقابلة
فعلى سبيل المثال، تعتبر المقابلة من أنسب الأدوات استخداماً في المنهج الوصفي، ولاسيّما فيما يتعلّق ببحوث دراسة الحالة، إلّا أنّ أهمّيتها تقلّ في دراسات المنهج التاريخي والمنهج التجريبي. وإذا كان الباحث شخصاً مدرّباً ومؤهّلاً فإنّه سيحصل على معلومات هامّة تفوق أهمّيتها ما يمكن أن يحصل عليه من خلال استخدام أدوات أخرى مثل الملاحظة أو الاستبيان، لأنّ المقابلة تمكِّن الباحث من دراسة وفهم التعبيرات النفسية للمفحوص والاطّلاع على مدى انفعاله وتأثّره بالمعلومات التي يقدّمها. كما أنّها تمكّن الباحث من إقامة علاقات ثقة ومودّة مع المفحوصين، ممّا يساعده على الكشف عن المعلومات المطلوبة. ويستطيع الباحث من خلال المقابلة أيضاً أن يختبر مدى صدق المفحوص ومدى دقّة إجاباته عن طريق توجيه أسئلة أخرى مرتبطة بالمجالات التي شكّ الباحث بها.
وعلينا أن نميّز بين المقابلة كأداة للبحث العلمي وبين المقابلات العرضية التي يمكن أن تتمّ بين شخصين صدفة، فالمقابلة كأداة بحث تتطلّب تخطيطاً وإعداداً مسبقاً، كما تتطلّب تأهيلاً وتدريباً خاصّاً.
كيفية إجراء المقابلات
يتطلّب استخدام المقابلة كأداة بحث أن يكون الباحث قادراً على استخدام تقنيات خاصّة بإجراء المقابلات، يتعلّق بعضها بالإعداد للمقابلة مثل اختيار المفحوصين وإعداد المكان المناسب وتوفير الوقت المناسب، وإعداد الأسئلة اللازمة، ويتعلّق بعضها بالتدريب التطبيقي والميداني على إجراء المقابلة وتوجيه الأسئلة وتهيئة المناخ الآمن والهادئ للمقابلة، كما يتعلّق بعضها بتسجيل المعلومات التي يحصل عليها الباحث، وفحصها بتأنٍ ودقّة للتأكّد من سلامتها، وفي ما يأتي توضيح لبعض هذه التقنيات.
1- الإعداد للمقابلة:
يتطلّب الإعداد للمقابلة تحديد أهداف المقابلة والمعلومات التي يريد الباحث الحصول عليها من المصادر البشرية، كما يتطلّب تحديد المصادر البشرية القادرة على إعطاء المعلومات المطلوبة. ويتمّ الإعداد للمقابلة وفق الخطوات الآتية:
أ- تحديد أهداف المقابلة:
تهدف المقابلة أساسا إلى الحصول على معلومات وبيانات وآراء ضرورية للإجابة عن أسئلة الدراسة أو حلّ مشكلة الدراسة، وعلى الباحث تحديد أهداف المقابلة وطبيعة المعلومات التي يحتاج إليها، ويصوغ هذه الأهداف بشكل سلوكي محدد حتى يتمكّن من إعداد الوسائل المناسبة وتوجيهها للحصول على معلومات وآراء وفق هذه الأهداف.
ب- تحديد الأفراد الذين سيقابلهم الباحث:
يحدّد الباحث المجتمع الأصلي للدراسة، ويختار من هذا المجتمع عيّنة ممثّلة تحقّق له أغراض دراسته، ويشترط أن تتوفّر عند أفراد هذه العيّنة الرغبة في إعطاء المعلومات المطلوبة والتعاون مع الباحث في هذا المجال، ذلك لأنّ عدم توفر هذه الرغبة يحرم الباحث من الحصول على المعلومات المناسبة.
ج- تحديد أسئلة المقابلة:
سبق القول بأن المقابلة العلمية تحتاج إلى إعداد مسبق، ويتطلّب هذا الإعداد أن يكون الباحث مهيّئاً لطرح الأسئلة اللازمة للحصول على المعلومات المطلوبة بحيث تتوفّر في هذه الأسئلة المزايا العلمية مثل الوضوح، الموضوعية، التحديد، كما يعيّن الباحث طريقة توجيه الأسئلة وترتيب توجيهه.
د- تحديد مكان المقابلة وزمانها:
يحدّد الباحث مكان المقابلة وزمانها مراعياً في ذلك أن يكون المكان مريحاً ومقبولاً من قبل المفحوص، وأن يكون وقت المقابلة مناسباً للمفحوص بحيث لا يتعارض مع أعمال هامّة أخرى له.
2- تنفيذ المقابلة:
بعد أن ينتهي الباحث من الإعداد للمقابلة ويحدّد أهدافها وأسئلتها ومكانها وزمانها، ويحدّد الأفراد الذين سيقابلهم يبدأ بالمرحلة التالية، وهي التنفيذ الفعلي للمقابلة، وهذا التنفيذ يتطلّب من الباحث أن يقوم بما يأتي:
أ- التدريب على إجراء المقابلة:
يختار الباحث عيّنة صغيرة جداً من زملائه ليجري معهم مقابلات تجريبية، يختبر فيها قدرته على إقامة الجوّ الودّي في المقابلة وقدرته على طرح الأسئلة وتوجيه النقاش، كما يختبر قدرته على الإصغاء وتشجيع المفحوصين على الاستمرار في الحديث.
إنّ فترة التدريب التجريبية تساعد الباحث على تنظيم نفسه والاستعداد لبدء العمل وزيادة ثقته بنفسه، كما تساعده على اختيار طريقة مناسبة لفحص الإجابات وتسجيلها. فإذا كان الباحث قد حدّد الإجابات المحتملة لكلّ سؤال بدل توجيهه، فإنّه من خلال المقابلات التجريبية قد يحصل على إجابات محتملة إضافية.
ب- التنفيذ الفعلي للمقابلة:
يبدأ الباحث بإجراء مقابلاته مع العيّنة التي تمثّل المجتمع الأصلي بعد استكمال الإعداد للمقابلة والتدرّب على إجرائها مراعياً في ذلك ما يأتي:
- البدء بحديث مشوّق غير متكلّف والتقدّم التدريجي نحو توضيح أهداف المقابلة وتوضيح الدور المطلوب من المفحوص.
- إظهار الاحترام والودّ نحو الطرف الآخر بحيث يشعر بالأمن والطمأنينة، ممّا يشجّعه على الإجابة عن أسئلة الباحث.
- البدء بمناقشة الموضوعات المحايدة التي لا تحمل صيغة انفعالية أو شخصية حادّة لدى المفحوص، ثم الانتقال التدريجي -المتزامن مع تطوّر العلاقة الودّية- نحو الموضوعات والأسئلة ذات الطابع الانفعالي الخاص.
- يوجّه الباحثُ المفحوصَ نحو الالتزام بالسؤال وحصر الحديث بالاتّجاه الذي يريده الباحث، كما يحاول الباحث منع المفحوص من الاستطراد في سرد معلومات مواقف غير هامّة أو مطلوبة.
- يصيغ الباحث أسئلة بشكل واضح، ويقوم بشرح السؤال وتوضيحه للمفحوص إذا وجد أنّ هذا ضرورياً.
- يعطي الوقت الكافي للمفحوص لتقديم الإجابة، كما يبقى الباحث مصغياً طوال وقت الإجابة، ويقوم بحركات أو إشارات معيّنة تساعد المفحوص على الاستمرار في الحديث.
- يفترض أن لا يقوم الباحث بأيّة تصرّفات تظهر دهشته لسماع معلومات معيّنة أو استنكاره لحدوث موقف معين خوفاً من أن يشجّع هذا الموقف المفحوص على المبالغة في تصوير المواقف أو حجب المعلومات.
- لا يجوز إحراج المفحوص واتّهامه وتوجيه أسئلة هجومية عليه تضطره للدفاع عن نفسه، وتؤثّر على الجوّ الودّي للمقابلة.
* كتاب البحث العلمي - قواعده ومناهجه، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.