تمهيد
كي يكون اختيار الطالب لموضوع أو مشكلة بحثه جيّداً وموفّقاً، ثمّة معايير يمكن اعتبارها خارطة طريق، إذا سلك في ضوئها يصل إلى النتيجة المرجوّة، وفي هذا الدرس سنعالج تلك الأسس والمعايير التي ينبغي على الطالب اعتمادها في تحديد مشكلة البحث واختيارها.
ويمكن تقسيم هذه المعايير إلى نوعين: الأوّل يرتبط بالباحث نفسه, والثاني متعلّق بموضوع البحث، نعرضها في جملة نقاط من خلال طرح مجموعة أسئلة.
المعايير المرتبطة بالباحث
أوّلاً: هل تحظى المشكلة باهتمام الباحث وتنسجم مع رغبته؟
على الطالب أن يختار دراسة الموضوع أو حلّ المشكلة اللذين يجد في نفسه رغبة ذاتية واهتمام شخصي للبحث حولهما، فإنّ توفّر عنصر الرغبة والاهتمام في البحث يعطي الطالب شحنة دافعة ومحرّكة له للقيام بالبحث والاستمرار فيه والثبات عليه، فكم من طالب اختار عنوان بحث بسبب التأثّر برأي صديق أو إشارة من أستاذ، من دون أن يتوفّر عنده عنصر الرغبة الشخصية، ثم نراه بعد مضيّ فترة من الزمن يعدل عن رأيه، ويذهب كلّ ما بذله من جهد هباءً منثوراً.
ثانياً: هل يتناسب البحث مع المؤهّلات العلمية للباحث؟
إنّ أيّ بحث يحتاج إلى مستوى علمي معيّن ليشقّ طريقه نحو النجاح والكمال, لذا يعتبر تناسب مشكلة البحث مع المؤهّلات العلمية للباحث ومدارك أفهامه ووعيه أمر مهمّ في اختيار المشكلة. فإن لم يكن الفرد مؤهلاً لمعالجة المشكلة، لن يكون بحثه جديراً بالثقة، ولن يكلّل بالنجاح. فرحم الله امرءاً عرف حدّه فوقف عنده، فعلى الطالب انتخاب العنوان الذي يوافق المخزون المعرفي الذي يمتلكه, لأنّ البحث هو مخرجات لمدخلات العملية التعلّمية، فإذا كان الطالب يرى أنّ مؤهّلاته العلمية تخوّله للبحث في موضوع فلسفي في ضوء مدرسة الحكمة المتعالية لاطّلاعه على مبانيها وقراءته لأفكارها عند العلّامة الطباطبائي والشهيد مطهّري والشيخ مصباح اليزدي وغيرهم مثلاً، عليه أن يتحرّك في هذه الدائرة، ولا يذهب لاختيار عنوان فلسفي في ضوء مباني فلسفة هيجل أو كانط الفلسفية مثلاً مع عدم اطّلاعه الكافي على مبانيهما وأفكارهما الفلسفية... وهكذا في الحقول والميادين الأخرى.
فطالب الفلسفة، وإن كان لديه معارف عامّة نتيجة دراسته في السنوات المختلفة لمواد متنوّعة (كدراسة مختلف قطاعات الفلسفة من شرقية قديمة، ويونانية، وإسلامية، ووسيطة، وحديثة، ومعاصرة، إضافة إلى مختلف العلوم الفلسفية من منطق، وجماليات، وأخلاق، وعلم نفس، وعلم كلام، وتصوّف...), إلا أنّه عادة ما يكون لديه اهتمامٌ خاص في قطاع من قطاعات الفلسفة، وقراءات جادّة في إحدى موضوعاتها، تساعده في الاختيار والانطلاق.
وبعبارة أخرى: إنّ الطالب يملك الحرية في اختيار موضوع أو مشكلة بحثه، ولكن هذا لا يعني التحرّر من شرط التناسب مع المؤهّلات العلمية التي يتحلّى بها, لذا حريته في اختيار الموضوع مقيّدة بمعارفه ورصيده العلمي ومخزونه الفكري، وقدرته المعرفية على التصدّي الجادّ لبحثه.
ثالثاً: هل تتوفّر لدى الباحث المهارات العملية والإمكانات المادّية لبحث المشكلة؟
وعلى الطالب أن يأخذ بعين الاعتبار أيضاً، المهارات اللازمة التي يحتاجها البحث، حتى لو كان مستواه العلمي ومخزونه المعرفي جيّداً, فقد يتطلّب الموضوع المختار للبحث إلماماً واسعاً بلغة أجنبية كالانجليزية أو الفارسية مثلاً، لكثرة المراجع حوله بتلك اللغات دون العربية، أو قد يتطلّب البحث مهارات معيّنة في استخدام برامج الكمبيوتر وتكنولوجيا المعلومات كبرنامج SpSS مثلاً أو غيره... فما لم تتوفّر هذه المهارات في الباحث عليه أن لا يختار البحث الذي يحتاجها في إنجازه.
وعليه أيضاً أن يأخذ بعين الاعتبار قدرته المالية على تلبية متطلّبات بحثه وإنجازه في المدّة المحدّدة، حتى لا يعرِّض نفسه لمشاكل مادّية هو بغنى عنها، كأن يكون محتاجاً للسفر إلى الخارج لإنجاز بحثه، أو يحتاج إلى أحدث المصادر والمراجع الباهظة الثمن مع كونها غير متوفّرة في المكتبات العامّة ممّا يضطّره إلى شرائها...
المعايير المرتبطة بالموضوع
1- ما هي أهمّية مشكلة البحث من الناحية العلمية والعملية؟
يواجه المجتمع العديد من المشكلات في ميادين مختلفة: عقائدية، اقتصادية، اجتماعية، سياسية، تربوية، إعلامية...، كما يواجه أيضاً الباحث في عملية فهم النصّ الديني أو التراث أو التاريخ... مشكلات معرفية ومنهجية عديدة، وتختلف هذه المشكلات قوّة وضعفاً من حيث الأهمّية البحثية. وكلّما ترتّب على المشكلة فوائد معرفية وثمار علمية أكثر بلحاظ ما سيحقّقه حلّ تلك المشكلة من نتائج إيجابية على مستوى تطوّر الميدان المعرفي الخاصّة به، كلّما كانت دراسة المشكلة وتسليط الضوء عليها أهمّ, فأهمّية المشكلة تنبع من الدور الذي يلعبه حلّها في تطوّر المعرفة وتقدّم العلم واستفادة المجتمع والمؤسّسات المختلفة من ذلك، كأن تستفيد المؤسّسات التعليمية والتربوية أو الاقتصادية مثلاً من تطبيق النتائج والحلول التي توصّل إليها الباحث في بحثه الاقتصادي أو التربوي، بما يساهم في تطوّر تلك المؤسّسات.
فالطالب يبذل جهداً ذهنياً وجسدياً مضنياً في البحث، وينفق من وقته وماله...، فمن المهم بمكان، أن يأخذ بعين الاعتبار أن لا تذهب جميع تلك الجهود هباءً، بل عليه أن يختار الموضوع الذي يتيح له البحث عنه فرصة للاستثمار الإيجابي فيما بعد لنشر البحث وطباعته، واستفادة بعض الجهات منه، فمّما يؤسف له، أنّ معظم الرسائل والأبحاث التي يتقدّم بها الطلاب لنيل شهاداتهم العالية، تدخل في سبات عميق في أدراج منازلهم ولا تُعمّم الفائدة من نتائجها. وهذا الشرط إنّما يتوفّر فيما لو كان موضوع البحث يحظى بالأهمّية من الناحية العلمية والعملية، وتتوفّر فيه الغايات الموضوعية التي ذكرناها سابقاً، بحيث يقدّم جديداً إلى رصيد المعارف الإنسانية، ويستحقّ الجهد الذي سيبذل فيه على مدى سنوات عدّة.
2- هل تتوافر المعلومات اللازمة عن المشكلة؟
كثيراً ما يحتاج الباحث -خصوصاً في الأبحاث التي لها طابع ميداني- إلى جمع المعلومات والبيانات التي يتوقّف عليها نجاح البحث وإنجازه، وقد لا يتسنّى للباحث الحصول على تلك البيانات والمعلومات لسرّيتها مثلاً، أو لحاجة بعضها إلى أذونات وترخيصات وتسهيلات إدارية من جهات رسمية أو خاصّة، أو إلى مقابلة عاملين في مؤسّسة أو الدخول إلى بياناتها، مع عدم إمكان تحصيلها لسبب أو آخر، وبطبيعة الحال، ستؤثّر جملة تلك العوامل سلباً على البحث، فينبغي على الطالب أن يأخذ بعين الاعتبار وفرة المعلومات والمصادر والبيانات التي تؤهّله لمعاجلة مشكلة البحث, لأنّ ندرة المصادر أو المراجع قد تعيقه عن استكمال بحثه، فيتوقّف عنه.
3- هل مشكلة البحث جديدة؟ وهل قام باحث آخر بمعالجة هذه المشكلة؟
إنّ جودة البحث وقيمته العلمية تتمثّل بما يضيفه ويراكمه من معلومات على المعرفة البشرية في مجال تخصّص الباحث, لذا فإنّ دراسة ومعالجة مشكلة جديدة لم تبحث بعد، أو مشكلة تمثّل موضوعاً يتمّم حلّ مشاكل وموضوعات أخرى لها علاقة ببعضها أمر مهمّ بالنسبة إلى اختيار المشكلة المناسبة للباحث.
وفي هذا السياق، على الطالب أن يجهد نفسه في التفتيش عمّا إذا كان ثمّة باحثون قد درسوا الموضوع الذي اختاره أو عالجوا المشكلة التي يودّ دراستها، فلعلّه يعثر على من عالج تلك المشكلة بشكل وافٍ فتذهب جهوده هباء منثوراً، كما أنّه من خلال اطّلاعه على الدراسات الأخرى يعرف نقاط تمايزه عنها، ويحدّد ما القيمة المضافة التي سيحدثها في ميدان البحث.
4- هل طبيعة مشكلة البحث محدّدة في إطار واضح يجعلها قابلة للتثبّت من صحّتها، أم أنّها عامّة تُفقِد الباحث السيطرة على قياسها بدقّة؟
على الطالب اختيار مشكلات بحثية محدّدة الإطار بشكل واضح، ومركّزة ومحصورة في دائرة معيّنة، بنحو يمكّنه من التثبّت من صحّة فرضياته بواسطة الأدلّة والبراهين، وخصوصاً في الدراسات التي لها طابع ميداني من أجل السيطرة على متغيّراتها وقياسها بدقّة.
وعليه في الوجه الآخر الابتعاد عن البحث في الموضوعات العامّة أو الواسعة التي تتضمّن مباحث فرعية كثيرة, لأنّه مهما بلغت مقدرته على معالجتها، فستبقى قاصرة مبتورة، تحتاج إلى المزيد من الدراسة والتمحيص، وتستغرق منه زمناً طويلاً للاطّلاع على كلّ ما كتب حول موضوعه، قبل أن يستطيع الإدلاء بدلوه.
فإنّ الطالب الذي يختار للوهلة الأولى موضوعاً عاماً، متوهّماً سهولته، لكثرة المصادر والمراجع حوله، التي قد تبلغ المئات، سرعان ما يضيع في كثرة هذه المصادر والمراجع ودوامتها وضرورة الاطّلاع عليها، وسيجد نفسه تائهاً في خضمّ الآراء والأفكار والنظريات المتعارضة حول موضوعه، ولن يجد المقدرة العلمية والقوّة التي تخوّله المفاضلة بينها، فضلاً عن التفرّد برأي مستقلّ متمايز عنها.
وكذلك ما يعتقده بعض الطلّاب من أنّ البحث في الموضوعات المحدّدة الدقيقة، مهمّة شاقّة وصعبة، هو توهّم خاطىء, لأنّ البحث في موضوع جزئي معيّن، لا يتطلّب إلا الاطّلاع على عدد محدّد من المصادر والمراجع، أقلّ بكثير ممّا يتطلّبه الموضوع العام, وسيجد لديه المتّسع من الوقت للتعمّق في كلّ ما كتب حول موضوعه، وستتكشف له حقائق جديدة غابت عن أذهان الباحثين الذين يقرأ لهم في موضوعه، وسيكون أقرب إلى النجاح.
مع الإشارة إلى أنّ سعة موضوع البحث أو ضيقه يخضع أيضاً لطبيعة المرحلة والحلقة الدراسية التي يريد الطالب تقديم البحث فيها، فهو يختلف بين مرحلة الإجازة أو الماجستير أو الدكتوراه.
5- هل هناك إمكانية لتعميم النتائج التي سيحصل عليها الباحث في معالجته للمشكلة على حالات مشابهة؟
إنّ أيّ بحث علمي - خصوصاً الميداني - يكون محصوراً في دائرة نماذج وعينات محدودة، فهو يدرس حالة بيئة مجتمعية واحدة مثلاً، وبالتالي فإنّ النتائج التي يصل إليها الباحث من خلال دراسته إذا انحصرت بتلك العينات والحالات ولم يتمّ تعميمها لحالات أخرى مشابهة فلا كثير فائدة فيها, لأنّ الهدف هو أن يكون ما توصّل إليه صالحاً للتطبيق على مشكلات مماثلة، وإلا فإنّ الجهود البحثية المضنية والمستلزمات المالية التي تم توظيفها في إجراء البحث العلمي، لن يترتب عليها ثمرة عملية واسعة. وبالتالي فإن قابلية عينة الدراسة للتعميم يعتبر أساساً عند اختيار مشكلة البحث.
* كتاب البحث العلمي - قواعده ومناهجه، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.