يعاني التعليم الرسمي في لبنان في مراحله المختلفة من رياض الأطفال حتى التعليم الجامعي من أزمات متعددة ومتشعبة، فلبنان من البلدان القليلة التي يفوق عدد الطلاب في مدارسه الخاصة عددهم في مدارسه الحكومية، ففد بلغت نسبة الطلاب في التعليم الخاص 70%، مقابل 30% في الرسمي..
والمفارقة ان الدولة تنفق على التعليم الرسمي من تشيد مدارس وأجور مدرسين مبالغ طائلة، فكلفة التلميذ الواحد في المدارس الحكومية تجاوزت ل 5 مليون ليرة لبنانية..
فلماذا تنفق الدولة هذه المبالغ الكبيرة اذا كانت الجدوى منخفضة؟!
وما هي أسباب تعثر التعليم الرسمي؟
بالواقع أن الكثير من الدراسات التي قاربت أزمة التعليم في لبنان إقتصرت مقاربتها على السياسات ورصد الثغرات التي يعاني منها قطاع التعليم الحكومي، اعدادا و منهاجا و تجهيزا وتوظيفا، الا ان الأزمة بخلفياتها أعمق من ذلك بكثير، ترقى لمستوى الاستراتيجيات والرؤى، والعلاقة العضوية بين التعليم والنظام السياسي الطائفي القائم على المحاصصة الطائفية في كل شيء، وقطاع التعليم غير منفصل عن الكيانية الطائفية للدولة ولا عن الأيديولوجية الأقتصادية التي تتبناها بل هو جزء لا يتجزأ منها..
في التسلسل التاريخي سبق التعليم الخاص مثيله الرسمي في لبنان بل سبق التعليم الخاص نشوء دولة لبنان الكبير الحالية التي تأسست عام 1920. لقد بدء التعليم الحديث بمراحله كافة مع الارساليات الأجنبية التي قدمت الى متصرفية جبل لبنان في القرن الثامن عشر، حيث انتشرت مئات المدارس الصغيرة في القرى التي أسستها الارساليات الإنجلية الامريكية والارساليات الكاثوليكية مثل اليسوعيين واللعازاريين..
والتي كانت جزء من المشروع الدولي انذاك الهادف الى اسقاط السلطنة العثمانية وتفتيتها، من خلال اعداد نخب ثقافية وأدبية وفكرية وسياسيه تنسجم في افكارها مع الرؤى الغربية، لقد اضطرت السلطنة العثمانية وتحت ضغط القناصل الأجانب عام 1854 لاصدار قانون أتاح للجماعات الدينية المسيحية ان يكون لديها مدارسها في متصرفية جبل لبنان.. وهكذا نشأت المدارس والجامعات، فقد تأسست الجامعة الأمريكية التي كانت تحمل اسم الكلية الإنجيلية السورية عام 1866 ولعبت دورا مهما في تكوين نخبة من الأدباء والكتاب والسياسين من رواد الفكر القومي الذين كان لهم الدور الكبير في تفكيك عرى السلطنة العثمانية، وطرح الفكر القومي الذي قامت عليه الدولة الحديثة في أوروبا كبديل عن مفهوم الأمة الاسلامية الذي ساد لقرون في العقل الجمعي لشعوب المنطقة. ولعبت جامعة القديس يوسف التي تأسست عام 1875 دورا محوريا في تكوين كوادر الكنائس الكاثوليكية في الشرق العربي وجواره..
لقد تأخر التعليم الرسمي لمرحلة ما بعد الاستقلال حتى خرج الى الوجود، فالدولة اللبنانية بعد نشؤهها ورثت نظام تعليمي متكامل مستقل في بنيته عنها يؤثر فيها ولا تؤثر فيه، عكس كل الدول العربية والمشرقية التي تحررت من الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية، اذ كانت الدولة هي الرافعة الاساسية لقطاع التعليم تأسيسا وتمويلا وسياسة ورعاية..
ولم تكن الدولة متحمسة لتأسيس تعليم رسمي فاعل وناجح ففي عام 1952 تم تأسيس اول 3 ثانويات رسمية ليس بمبادرة من الدولة بل ثمرة مطالبات وتحركات شعبية متعددة، الا ان القفزة النوعية في نمو المدارس الرسمية كانت في عهد الرئيس فؤاد شهاب فقد انتشرت المدارس الحكومية في الأطراف، جنوبا وشمالا وبقاعا.. الإ ان الرؤية الشهابية لم تكن شاملة ولم تهدف اطلاقا الى حلول المدرسة الوطنية الرسمية مكان المدرسة الخاصة، فالانصهار الوطني والاندماج الاجتماعي والانتماء الوطني من مقدماته وحدة مرجعية التعليم، بل اقصى ما رسمته وانجزته الفترة الشهابية توفير خدمة التعليم الاساسي لشرائح اجتماعية محرومة في الأطراف، وكذا الحال مع الجامعة اللبنانية التي تأسست عام 1951 ولم تتطور كلياتها وتتعدد اختصاصاتها الا بتحركات شعبية واضرابات طلابية بين اعوام 1967 _ 1974
فقد أدى الحراك الطلابي والاضراب الذي دعا اليه الاتحاد الوطني لطلبة الجامعة اللبنانية عام 1974 الى صدور مرسوم بإنشاء كلية الهندسة وكلية الزراعة ورصد مبلغ من المال لانشاء كلية التربية..
وفي فترة ما بعد الحرب الاهلية اللبنانية.. في دولة اتفاق الطائف التي نحيا في ظلها لم تتغير فلسفة الدولة للتعليم فالأصل هو التعليم الخاص الذي ترفده الدولة بمالها من خلال المساعدات المالية التي تمنح للموظفين وللمدارس الخاصةالمجانية، ومن خلال اعفاء المدارس الخاصة من الضرائب فهي خارج النظام الضريبي بالكامل .. جل ما في الأمر انه نتيجة التطورات الاجتماعية تم كسر حكرية التعليم الخاص من الارساليات نسبيا، فنشأت مدارس للمؤسسات الدينية الاسلامية واخرى افرادية ليصبح الواقع اليوم ( 24% من التلاميذ في المدارس الكاثوليكية منهم 20% مسلمون _ 10% في المدارس الإنجلية والارتوذكسيه __20% في المدارس السنية والشيعية _ 16% في المدارس الافراديه).
وقد دخل عامل جديد لم يكن في مصلحة التعليم الرسمي على نظرة الدولة للتعليم مع الحكومات الحريرية التي بدءت عام 1992 تتمثل بالرؤية الاقتصادية النيواليبرالية التي تبنتها الحريرية السياسية والتي ترى ان الدولة قطاع فاشل في الخدمات يجب استبداله بالقطاع الخاص.. وتبنت سياسات الخصخصة لتحل مكان دولة الرعاية الاجتماعية، وطرحت فكرة خصخصة التعليم، وخصخصة الكثير من القطاعات الاخرى كالهاتف والكهرباء الا ان التوازنات السياسية وحجم الاعتراضات الشعبية لم تسمح بذلك.فتم تجويف التعليم الرسمي من الداخل من خلال ايقاف دور المعلمين وتحشيد المدارس بالمتعاقدين وعدم تفعيل اجهزة المحاسبة والرقابة والزبائنية في التعينات التربوية واستبعاد اصحاب الكفاءة. الى ان وصلت الامور الى ما هي عليه اليوم..
ان مشاكل التعليم الرسمي لا تنحصر بالجوانب التقنية كتحديث المناهج واعداد الكوادر التعليمية وتجهيز المدارس.. هذه الامور على صعوبتها وأهميتها ليست عصية عن الحل متى توافرت الارادة السياسية لذلك، وهي الان غير موجودة .. فلا يمكن احداث تغير جذري حقيقي في الرؤية الاستراتيجية لقطاع التعليم الا ضمن التغير السياسي الشامل للنظام اللبناني..
أما عن الكلفة الباهظة التي تدفعها الدولة على بناء الصروح وبرامج التأهيل والتدريب قليلة الجدوى والتعاقد وغيره ليس لها علاقة بالتربية من قريب او بعيد، هي مجرد جزء من الفساد والهدر المالي وتوزيع معانم الدولة على الطوائف ومناصري احزابها..
عشتم وعاشت التربية..
ربيع نورالدين