X
جديد الموقع
حزب الله يهنئ الشعب الفلسطيني على كسر قيود الاحتلال عن المسجد الأقصى المبارك
حزب الله: ما قام به أبناء عائلة الجبارين في القدس درس لأحرار الأمة..
الإمام الخامنئي: الجرائم بحق الشعب الايراني لن تزيده إلا كرهاً للادارة الأميركية وأذنابها بالمنطقة كالسعودية
بيان صادر عن حزب الله تعليقاً على اقتحام النظام البحراني لمنزل آية الله الشيخ عيسى قاسم
حزب الله يدين بأشد العبارات : الحكم ضد آية الله الشيخ عيسى قاسم جريمة
السيد حسن نصر الله يهنئ الشيخ روحاني بإعادة انتخابه رئيسا للجمهورية الاسلامية

النافذة التربوية :: حول تطوير المناهج اللبنانية الجديدة

img

الدكتور ميلاد السبعلي

 

يجهد فريق تطوير المناهج في وزارة التربية والتعليم العالي وفي المركز التربوي للبحوث والإنماء، لإصدار الإطار الوطني للمناهج اللبنانية الجديدة قبل الاستحقاقات السياسية القادمة، وتحديداً الانتخابات النيابية، التي تحيل الحكومة الحالية الى حكومة تصريف أعمال. ومن حق الوزير الحالي أن يدفع الى إنجاز هذه الخطوة في عهده.

وبدون تقييم أعضاء الفريق وخبراتهم في مجال تطوير المناهج، لا بد من الثناء على الجهود التي يبذلونها في سبيل التقدم وإصدار الإطار الوطني للمناهج، الذي من المفترض أن يحدد الاتجاهات الرئيسة للخطوات التفصيلية التالية، وتحديداً خطوة إصدار القواعد والمعايير التفصيلية للمناهج، التي تتضمن هيكلية المنظومة التربوية في مرحلة التعليم ما قبل الجامعي وتخصصاتها في المرحلة الثانوية، وربطها بالتعليم المهني والعالي، إضافة الى المعايير التفصيلية لكل مادة في كل سنة دراسية من الروضة الأولى الى الصف الثانوي الثالث. وبعد ذلك، يقوم المركز التربوي بتأليف الكتب والأنشطة التعليمية لتطبيق معايير المناهج الجديدة، وتقوم دور النشر الخاصة بتأليف كتبها وأنشطتها بناء على هذه المعايير، ويقوم المركز التربوي باعتماد هذه الكتب والأنشطة حتى تستطيع دور النشر الخاصة تسويقها للمدارس الخاصة اللبنانية، التي تضم ثلثي عدد طلاب المدارس في لبنان.

ومن المتوقع أن تستمر مرحلة تأليف القواعد والمعايير التفصيلية للمناهج لمدة سنة على الأقل، بعد إطلاق الإطار الوطني للمناهج، تليها سنة أخرى لتأليف الكتب والأنشطة، إضافة الى فترات التطبيق العملي في المدارس. لذلك، فإن إصدار الإطار الوطني للمناهج مسألة ملحّة، وكان يجب أن تحصل في نيسان 2020 لولا جائحة الكورونا وكل الأزمات التي رافقتها في لبنان. ومن هنا فإن الجهد المبذول من قبل فريق تطوير المناهج، والمتابعة الشخصية من معالي وزير التربية والتعليم العالي وفريق المستشارين من حوله، هي مسائل مشكورة في ظل الوضع العام الحالي المأزوم.

كما أن الاستعانة بخبرات أجنبية، مثل خبراء منظمة اليونيسكو، وإصدار الإطار الوطني باعتماد منظمة اليونيسكو هي مسألة جيدة وتضيف نسبة عالية من المصداقية على مسار تطوير المناهج اللبنانية الجديدة. خاصة وأن اليونيسكو لديها نموذج عام طبقته في عشرات الدول في العالم، بما في ذلك في عدد من الدول العربية، وآخرها الجمهورية العربية السورية في 2018، مع أن وزارة التربية السورية وخبرائها قد أدخلوا نكهتهم الخاصة على الإطار الوطني للمناهج السورية، الذي أصدرته الوزارة واليونيسكو في 2018.

ولكن الحاجة الى السرعة لا يجب أن تكون على حساب نوعية المناهج، خاصة وأن هذه المناهج قد تستمر لسنوات طويلة، نتيجة الظروف التي قد تطرأ على لبنان. فالمناهج الحالية قد تم إصدارها في العام 1997، وتم وقتها العمل عليها بشكل سريع وعشوائي الى حد ما. فالسرعة المطلوبة يجب أن تترافق مع تأسيس المناهج الجديدة على أرضية بحثية صلبة، تفهم تطورات العصر، ومتطلبات سوق العمل والمجتمع في العقدين القادمين. ومن المعروف أن معظم دول العالم تسعى بعد جائحة الكورونا، واستخدام التكنولوجيا بشكل ارتجالي وفوضوي خلالها، الى اكتشاف معالم وأنماط التعليم الحديث بعد هذه التجارب، بما يسميه خبراء المناهج النموذج المعياري الجديد للتربية، أو The New Normal.

لذلك، لا بد من تحليل ما هو مطروح بشكل علمي ومنهجي ونقدي، لتفادي النسخ واللصق عن الأطر التي انتجتها اليونيسكو قبل الجائحة، على قاعدة أن كل "افرنجي برنجي"، أو أن من يملك التمويل يملك التوجيه، في مسألة وطنية بغاية الدقة والخطورة، مثل تطوير المناهج، التي ستؤثر على الأجيال المقبلة وبنائها العلمي والوطني والاجتماعي. وهنا تقع مسؤولية كبيرة على الفريق الوطني لتطوير المناهج، الذي يجب أن يتعامل مع الموضوع بثقة ومعرفة وخبرة، لا بالنظر بطريقة دونية الى كل ما يطرح، أو للسير بالموضة العالمية التي تسوّقها المنظمات الدولية، التي غالباً ما تخدم السياسات الغربية الليبرالية وما يصاحبها من مشاريع وخطط ظاهرة أو خفية.

مفهوم المواطنة

أولاً، رأينا في العقود الثلاثة الماضية، تركيزاً من قبل الممولين والمنظمات الدولية، على مفاهيم تبدو جميلة، مثل مفهوم المواطنة العالمية، التي تبني أجيالاً منفتحة على العالم، وهذا شيء جيد بحد ذاته. لكنه إن لم يتأسس على فكرة المواطنة المحليّة المجتمعيّة، التي تؤسس الجيل القادم على معرفة واحترام ثقافته الوطنية وانتمائه الى مجتمعه وشعوره بالفخر والاعتزاز بهذا الانتماء، فإن المواطن العالمي الذي يتبنى فلسفة الليبرالية الفردية، التي تقول بأن وطن الانسان يكون حيث يجد حياة أفضل، هو وصفة لهجرة الأدمغة من بلادنا ودول العالم الثالث الى الغرب المتطوّر، دون أي تأنيب وجداني لتركه مجتمعه على تخلّفه، خاصة في البلدان التي يسود فيها الفساد والاقطاع الطائفي والمحسوبيات كبلادنا. وهذا ما شهدناه في لبنان والمنطقة تحديداً في المرحلة السابقة وحتى الآن.

فنسبة اطلاع أجيالنا القادمة على مفاهيم المواطنة العالمية، يجب أن لا تتخطى نسبة وعيها وتمرسّها لحضارتنا وثقافتنا وهويتنا وانتمائنا الى الوطن وبيئته الطبيعية ومداه العربي، ومن ثم المتوسطي والعالمي. وإلا نكون نخدم مخططات التهجير واجتذاب الادمغة الشابة الى الدّول المتطوّرة، بعد أن يكون مجتمعنا قد صرف عليها الجهد والمال لتصبح إمكانيات جاهزة للعطاء، فتستفيد منها الدول المتطوّرة دون عناء، بحجة تأمين حياة فردية وعائلية أفضل لهم، على حساب مساهمتهم بتطوير مجتمعهم واقتصادهم ورفع بلادهم الى مصاف الأمم المتطورة. خاصة وأن العصر الحالي، المعروف بعصر المعرفة، يرتكز فيه قياس تطوّر الدول على رأسمالها البشري وقدرته على الإبداع والابتكار والإنتاج المعرفي والاقتصادي.

ومن المواضيع المرتبطة بمفهوم المواطنة، نجد أيضاً تركيزاً على مفهوم المواطنة الرقمية، التي ما هي سوى بروتوكولات لكيفية التعامل مع العالم الافتراضي، وهي ضرورية لجيل الغد، خاصة وأن الكثير من الأعمال أصبح ممكناً القيام بها رقمياً عند بعد، وبالتوازي مع الانتشار الواسع لوسائل التواصل الاجتماعي وتداخلها في صلب حياة الأجيال الجديدة. ويتكامل ذلك مع مفهوم المواطنة العالمية، كون الفرد يتعامل من خلال العالم الرقمي مع أفراد ومجموعات من حضارات وثقافات متنوعة. لكنه يصبح خطراً إن لم يترافق مع تعزيز مفهوم المواطنة المجتمعية التي تربط الفرد بمجتمعه وثقافته وهويته الحضارية، وتعزز لديه الوجدان الوطني والمسؤولية الاجتماعية، التي تهدف الى بناء مجتمعه وتطويره، وليس فقط القيام ببعض الأنشطة الإنسانية وغير الصفّية أينما كان. وهنا أهمية ربط ما هو اجتماعي بالأمة والشعب والمتحد القومي الذي ينتمي اليه الفرد. لا سحب الدسم منها وتحويلها الى مسؤولية محدودة تتعلق بالمحيط الضيق المحدود من حوله، في وطنه أو في المهاجر التي يرحل اليها.

حقوق الانسان وحقوق المجتمع

بناء على ما تقدّم، فإن التركيز على مفهوم حقوق الانسان، وحصرها بالمفهوم الغربي المحصور بحقوق الانسان الفرد، واحترام التنوّع، المرتكز الى الثقافة الليبرالية في مجتمعات غربية موحّدة وناهضة، حيث لا حاجة الى تعبئة المواطن فيها للدفاع عن حقوقه الوطنية تجاه الاخطار الخارجية، واندفاعه في تطوير مجتمعه داخلياً للتخلص من موروثات عصور الظلام والانحطاط والاحتلالات والاستعمار، كما هي الحال في بلادنا والكثير من دول العالم الثالث، حيث الدولة بالمفهوم الحديث ما زالت في طور التشكّل، وحيث وحدة المجتمع وهويته ما زالت مسألة نقاش وصراع أحياناً، في ظل طغيان الهويات الصغرى والمحلية والاثنية والطائفية. وحيث المصلحة العامة المشتركة في هذه المجتمعات ما زالت غير مرئية بشكل متفق عليه بين جميع مجموعات الشعب وأفراده، وبالتالي ما زالت مسألة تشكيل إرادة عامة مشتركة بعيدة المنال، مما يبقى هذه المجتمعات والدول التي تديرها في حالة من الفوضى والتشتت والصراعات الداخلية والخارجية، مما يفضي الى ضرورة تشكيل وعي وطني مشترك عند الأجيال الجديدة، حتى لا تكون المنظومة التربوية تسهم في انتاج جيل مبعثر الانتماء والهوية ومشتت الجهود، مما يبعده أكثر عن أي أمل لتغيير مجتمعه، ويدفعه الى براثن الفلسفة الفردية الأنانية والهجرة للخلاص الشخصي وترك المجتمعات في تخبّطها وتخلّفها وانقساماتها.

ولذلك، فإن تعليم حقوق الانسان الفرد، واحترام الآخر المختلف وتقدير التنوع والسعي الى حل المشكلات بطرق سلمية وهادئة، يجب أن يترافق مع تعليم حقوق المجتمع، وضرورة تعزيز وحدته الداخلية، وتكامله مع محيطه، وتطوير مؤسسات الدولة فيه، وحقه في الدفاع عن حقوقه في أرضه ومياهه، وسيادته على موارده، وتحديد الصديق والعدو، حتى لا تصبح هذه المفاهيم المفروضة من المنظمات الدولية، هي أداة لتسطيح الوعي وضرب إمكانية النهوض والتطوير والكرامة الوطنية. وما نراه اليوم في لبنان، من طروحات حول الحياد والسلام والعصرنة، يمكن أن يتحول الى مواد خلافية كبيرة، مثلها مثل القراءات المتجزأة أو المتحيّزة لتاريخنا، إذا طرحت من موقع الانقسامات الطائفية الداخلية والعلاقات الخارجية المشبوهة والاتهامات المتبادلة التي تصل الى حد التخوين.

فكيف تعاملت دول أخرى كانت عرضة للحروب الأهلية والخلافات الداخلية العميقة، في تطوير مناهجها، مع حالات خلافية مشابهة؟ التجارب الأفضل في العالم هي التجارب التي تبتعد إن تبني وجهة نظر واحدة يفرضها كل فريق في مدارسه وبيئته كما كان قائماً في لبنان. بل تقوم على تعزيز الموضوعية والتفكير النقدي، وعرض وجهات نظر الأطراف المختلفة، وتفهّم خلفية ومنهجية كل منها، وتقييمها بشكل علمي نقدي بعيداً عن التجييش الغرائزي والتعبئة التي تزيد الانقسامات الداخلية، وتضرب وحدة المصلحة العامة والإرادة العامة، فتضرب مفاهيم العدو والصديق والبطل والخائن والشهيد والعميل. مما يعطل فعالية الجيل الجديد في مواجهة الظلم والفساد في الداخل، والتعدّي والتهديد في الخارج، ويبعده عن إمكانية الاستفادة من أخطاء الماضي وعدم تكرارها.

الكفايات الأساسية

والتعامل مع الأمور الشائكة بشكل موضوعي عقلاني يعزز دور المواطن الفاعل الإيجابي، المفكّر، الباحث، الناقد، والمتفاعل مع الآخرين ومع المجتمع واحتياجاته وتحدياته، ومع المؤسسات الخاصة والعامة في المجتمع بشكل عام. وهذا لا يستقيم مع التركيز فقط على الفرد وحقوقه ومستقبله، حتى لو على حساب مصلحة المؤسسات التي يعمل بها، أو زملائه ومحيطه المباشر، أو المجتمع بشكل عام.

وبنفس الوقت، فإن متطلبات سوق العمل في عصر المعرفة، تستلزم وجود كفايات أساسية يمتلكها الخرّيج، تؤهله للتعامل مع ظروف طارئة وجديدة غير التي تم تلقينه إياها خلال فترة دراسته. فجزء كبير من المعارف التخصصية التي يتعلمها في المدرسة والجامعة، تصبح قديمة وتراثية مع الوقت. كما أن تطور الحياة والعمل يمكن أن تدفعه لتغيير مجال عمله خلال حياته المهنية لعدة مرات، والتنقل من اختصاص الى آخر، مما يحتم عليه أن يكون متعلّماً مدى الحياة، ليجدد معارفه ومهاراته ومقارباته، وكي يمتلك كفايات أساسية تنتقل معه من وظيفة الى أخرى.

لذلك تعمل معظم دول العالم في هذا العصر، على تطوير مناهجها وتأسيسها على مفهوم الكفايات، أي مجموع المعارف والمهارات والمقاربات أو السلوكيات التي يحتاجها الخريج كي يستطيع التعامل مع العالم المتغيّر بسرعة من حوله. وتقسم هذه الكفايات عادة الى نوعين: الكفايات الأساسية، التي تبقى مع الخريج على مدى حياته العملية والمهنية، والكفايات التخصصية، المرتبطة بالمواد التخصصية التي يدرسها في المدرسة والجامعة.

وهناك أكثر من إطار مرجعي في العالم للكفايات الأساسية وتحديدها، صادرة عن منظمات ومؤسسات ومدارس تربوية متعددة، مثل اليونيسكو واليونيسف والبنك الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي الدولي والمجلس البريطاني وغيرها. ومع اختلاف هذه الأطر والتسميات، يبقى المشترك هو المحاور الأساسية التي تعالجها هذه الأطر، والتي يمكن أن تختصر بثلاث: محور تطوير منظومة التفكير، بما في ذلك التفكير النقدي والابداعي وحل المشكلات، ومحور تطوير شخصية المتعلّم وقيمه الأساسية، بما في ذلك القيادة والريادة والمواطنة بأشكالها المتنوعة والمعرفة الرقمية، ومحور تطوير البعد الاجتماعي العاطفي للمتعلّم، بما في ذلك التواصل والتعاون والتعاطف والمسؤولية الاجتماعية.

أما الكفايات التخصصية، فهي تتضمن المعارف والمهارات والتجارب والمقاربات التي يتعلمها الطالب خلال دراسته للمواد التخصصية، والتشبيك فيما بين المواد، من علميّة وأدبيّة وإنسانيّة وفنيّة ومهنيّة تطبيقيّة وغيرها.

وحتى تكون المناهج متمحورة حول الكفايات، لتنتج جيلاً جديداً يستطيع أن يكون منتجاً ومبتكراً وفاعلاً ويشكل قيمة مضافة للمؤسسة التي يعمل بها أو يؤسسها، ولمجتمعه وبيئته، لا بد من ترسيخ الكفايات الأساسية في كافة المواد والأنشطة التعليمية لكافة الفئات العمرية، وتشبيكها مع الكفايات التخصصيّة في هيكليّة موحّدة ومتجانسة وسلسة للمناهج، لا أن تكون مجموعة غير منسجمة أو متناقضة من المفاهيم والتفاعلات، مجمّعة من عدة اتجاهات بشكل فسيفساء فوضوية تنتج نفسيات مشوهة وخبرات غير متجانسة ومعارف ومهارات منفصلة، وتفتقر الى المقاربات والتطبيقات العملية التي تعزز الابتكار والإبداع والمنهجية والرصانة والتماسك.

دور التكنولوجيا

وحتى تستطيع المؤسسات التربوية تطبيق مناهج معاصرة ترتكز الى هذه الكفايات الحديثة، الأساسية منها والتخصصية، لا بد من استخدام فعال للتكنولوجيا، بهدف الابتعاد عن الطرق التقليدية التلقينية، وتعزيز مفاهيم البحث العلمي المنهجي والموضوعي، والتفكير العصري الناشط، خاصة مع الانفجار المعلوماتي التي يقدمه العصر، والأدوات الحديثة التي سيستخدمها المتخرّج في حياته اليومية وفي أعماله.

كما أن تغيّر ظروف الحياة، والحاجة لترسيخ كفايات التعلّم الذاتي والتعاوني والمستمر مدى الحياة، والتعامل مع أية ظروف طارئة من حروب أو جائحات أو إشكالات مجتمعية، بشكل يؤمن استمرار التعليم بكافة أشكاله الحضورية والرقمية، والتعامل مع المستويات المتعددة للطلاب ضمن الصف الواحد، ومع الفاقد التعليمي الذي قد يتأثر بأية ظروف قاهرة، وضرورة انتاج جيل متصالح مع التكنولوجيا وقادر على إنتاجها وتطويرها وليس فقط استهلاكها، كل ذلك، بحاجة الى أنماط ومقاربات جديدة وذكية، تعتمد على التقنيات الحديثة والذكاء الاصطناعي وما تقدّمه السنوات القادمة من الممكنات، وإدماج ذلك في صلب العملية التعلّمية، دون التقليل من أهمية التعليم الحضوري النشط والتفاعلي والمحفّز، بعيداً عن التكرار والملل والاجترار والتلقين والحضور الباهت. لا بل أصبح من الضروري تغيير مفهوم الحضور التقليدي الذي كان يقاس بعدد الساعات والحصص التي يقضيها المعلّم مع طلابه في غرفة واحدة، الى مفهوم أكثر ديناميكية وعصرية يتضمن كافة أنواع التفاعل والمشاركة والمبادرة، سواء كان داخل جدران غرفة واحدة، أو من خلال العالم الرقمي وتطبيقاته المتنوعة. وهذه مسائل لا بد من أن تكون في صلب المناهج المعاصرة، لا إدخال التكنولوجيا من أجل رفع العتب أو مواكبة الموضة أو تنفيذ بعض الإملاءات الخارجية.

ويجب أن يترافق ذلك بلا شك، مع تعزيز وضع المعلّم المسحوق مادياً ونفسياً، ومع خطة حكومية غير تقليدية تعطي الاستثمار في التعليم وفي تزويد المدارس الرسميّة والخاصة بتطبيقات وبنية تحتية تكنولوجية مناسبة، أصبحت اليوم من مستلزمات التعليم الحديث وتطوير المجتمعات.

التدريب والتقويم

ومن بديهيات الأمور، أن تغيير المقاربات التعليمية لجهة تعزيز الكفايات المذكورة أعلاه، تستلزم تغييراً في ثقافة التعليم ودور المعلّم، وهذا بحاجة الى تدريب فعّال ومستمر ومدمج، لترسيخ المفاهيم والمقاربات الجديدة وكيفية استخدام التكنولوجيا الحديثة والبيداغوجيا الرقمية الذكية، وامتلاك الكفايات الأساسية والتخصصية المطلوبة، حتى يستطيع المعلّم تحفيز طلابه على التمرّس بها واكتسابها، لأن فاقد الشيء لا يعطيه. وفي الاختبارات التي اجريناها لسنوات في دول متطورة مثل بريطانيا، تبيّن أن المدارس التي تنتج خريجين ضعيفي الكفايات، هي المدارس التي لا يمتلك معلموها تلك الكفايات.

وتستلزم هذه المقاربات الجديدة، والمناهج المتمحورة حول الكفايات المعاصرة، تغييراً جذرياً في مفاهيم التقويم، حيث لم يعد كافياً تقويم الطلاب من خلال امتحانات موسمية، غالباً مع تقيس ذاكرتهم أو ما تم تلقينهم إياه بطرق مغلقة إطلاقية. بل يجب تنويع طرق التقويم، من التقويم التكويني داخل الصف وخلال العملية التعلّمية، حيث يتعلّم الطالب من أخطائه ويتصالح مع فكرة التعامل مع الأخطاء لتطوير أدائه مع الوقت، وصولاً الى عدة أنواع من تقييم الأداء والتفاعل والمشاركة والبحث العلمي وطرق التفكير والتحليل والابتكار وإيجاد حلول لمسائل لا تقتصر حلولها على جواب صحيح أوحد. وهذه ينسحب أيضاً على الامتحانات الرسمية التي يجب أن تصمّم بطرق معاصرة مرة تواكب هذه الأساليب الجديدة للتعلّم، وتقيس امتلاك الطالب وتطويره للكفايات المطلوبة، لا فقط امتحان تذكره للمعلومات. وهذا ما يعانيه طلابنا في الاختبارات الدولية مثل PISA و TIMMS وغيرها، حيث تظهر النتائج تأخر المنظومة التربوية اللبنانية عن مواكبة متطلبات العصر، برغم النسبة العالية من الوهم والعنجهية التي يتحلّى بها الكثيرون من قادة التربية عندنا، والذين ما زالوا يمارسون ما تعلّموه من الثقافة الأبوية أو من مدارس الارساليات والسلطنة العثمانية وعصور الانتداب، مما أكل عليه الدهر وشرب.

الخلاصة

بغياب هذه العناصر عن تطوير المناهج الجديدة والمنظومة التربوية المعاصرة، فإن تعميم مفاهيم مستوردة، مثل الحرية الاكاديمية التي يجب أن تتاح للمعلّم في الصف، وبغياب معايير واضحة وأدلّة وأدوات تقنية ومؤشرات لقياس الأداء، هي رمي للمسؤولية على عاتق معلّم غير مدرّب وغير جاهز ولا يمتلك خبرة تطبيق المقاربات الحديثة، وتعميم للجهل، وإعادة انتاج أجيال من المتعلّمين المعرّضين للبطالة، أو لإنتاجية متدنية، تفقد الخرّيج اللبناني التميّز الذي كان يفاخر به في منتصف القرن الماضي.

في الختام، لا بد من الإشارة أن المنظومات التربوية القديمة، التي تأسست منذ قرنين ونيّف، لمواكبة متطلبات عصر الصناعة، وإنتاج كم كبير من الخريجين في اختصاصات محدودة، يجيدون تكرار الوظائف بدقة عالية في المصانع أو المؤسسات الإدارية البيروقراطية، لم يعد لها مكان في هذا العصر، عصر المعرفة، ذو الاختصاصات المتشعبة والمتجددة والمتغيّرة، حيث المطلوب هو القليل من التكرار الدقيق، والكثير من الابتكار والابداع والمرونة والتعلّم المستمرّ والتجدّد العلمي والأدبي والمعرفي. إضافة ان المنظومة القديمة عندنا، أنتجت أجيالاً من الأتباع في العلم وفي العمل وفي المجتمع. ومعظم الابداع والتالّق الذي تمتع به الكثير من شبابنا، في القرن السابق، كان ناتجاً عن غياب النظام الاجتماعي والفوضى التي سادت مجتمعنا، مما درّب أجيالنا على التعامل مع المتغيرات المفاجئة وتدبير أمورهم بالتي هي أحسن، ولم يكن بمعظمه من انتاج المنظومة التربوية بالضرورة، مع بعض الاستثناءات في المدارس والجامعات المتميّزة. كما أن التبعيات العمياء والغرائزية والطائفية التي شهدناها في المجتمع، من قبل المتعلّمين خاصة، لم تكن سوى نتيجة طغيان الثقافة القبلية الأبوية الفردية على مؤسساتنا التربوية، وخاصة بغياب مناهج موحَّدة وموحِّدة ومواكبة لتطورات الحياة في كل عصر.

على أمل أن تكون هذه المسائل حاضرة أمام خبراء تطوير مناهجنا الجديدة، ليتمكّنوا من انتاج مناهج معاصرة تشبهنا، وتخدم مجتمعنا، وبنفس الوقت، تواكب تطورات العصر والحياة ومتطلبات المجتمع وسوق العمل في المستقبل القريب والبعيد. فمناهج الدول التي تحترم نفسها، يجب أن تدمج بين الأصالة والحداثة، بين الهوية الوطنية والإشعاع العالمي، كي يسهم مجتمعنا مع الوقت، في بناء ثقافة إنسانية عالمية لونها لون الشعوب المشاركة فيها، لا تقليد ما يفرضه علينا المموّلون الخارجيون، وتسويق أنماط حياة مسطحة باهتة تسهم بتغرّب أجيالنا وتهجيرهم وتيئيسهم.

مواقيت الصلاة

بتوقيت بيروت

الفجر
5:36
الشروق
6:49
الظهر
12:22
العصر
15:29
المغرب
18:12
العشاء
19:03