ما هو الغرض من التعليم؟ انطلق ذلك السؤال بشكل صارخ عندما حاول سكوت والكر، حاكم ولاية ويسكونسن الأميركية، مؤخرا وفي هدوء تغيير رسالة جامعة ويسكونسن التي تعود لقرن مضى من الزمان، عن طريق اقتراح رفع بعض الكلمات من قانون الولاية والتي تطالب الجامعة بـ«البحث عن الحقيقة» وكذلك «تحسين ظروف الإنسان»، واستبدال «تلبية احتياجات القوى العاملة في الولاية» بها.
وتراجع والكر عندما صارت المسألة قضية عامة في الولاية، وأثارت حالة من الانتقادات الحادة من جانب الأكاديميين وغيرهم، غير أن المسألة في حد ذاتها تحولت إلى موضوع للنقاش الوطني وموضوع المقالة التالية، والتي كتبها آرثر إتش كامينس، مدير مركز الإبداع في الهندسة والعلوم والتعليم لدى معهد ستيفنز للتقنية في مدينة هوبوكين بولاية نيوجيرسي. ولا تعبر الأفكار الواردة في تلك المقالة إلا عن رأي الكاتب، ولا تمثل معهد ستيفنز بأي حال.
وكتب كامينس قائلا «لا يبدو أن النقاش حول أغراض التعليم سوف ينتهي قريباً. أينبغي على الشباب الصغير أن يتلقوا التعليم استعدادا لدخول سوق العمل، أو هل ينبغي على الغرض من التعليم إيلاء المزيد من التركيز للتنمية الاجتماعية، والأكاديمية، والثقافية، والفكرية، حتى يتسنى للطلاب النمو لكي يكونوا مواطنين فاعلين؟".
عبر السنوات الخمسين الماضية عزز القلق حول المنافسة مع الاتحاد السوفياتي، واليابان، والصين، حيال الهيمنة الاقتصادية والعسكرية والسياسية العالمية، من الدعوات الدورية الرامية إلى التنمية الفاعلة للقوة العاملة. حاول سكوت والكر حاكم ولاية ويسكونسن مؤخرا تغيير رسالة جامعة الولاية حتى تولي المزيد من التركيز إلى تنمية القوة العاملة... ومع كل محاولة لتنمية القوة العاملة أو إفساح المجال لمطلب التنافسية الاقتصادية داخل مراحل التعليم من الابتدائي وحتى الثانوي، كان هناك تراجع من جانب أولئك الذين يسعون لزيادة التركيز على الرؤية الأوسع لنظام التعليم. ولكن لا يجب للأمر أن يكون من منظور إما هذا أو ذاك فحسب. حيث ينبغي على التعليم إعداد الشباب الصغير لخوض غمار الحياة، والعمل، والاضطلاع بمسؤوليات المواطنة.
وتعد المعرفة بالبيئات الطبيعية والاصطناعية وكيفية حياة الناس في مختلف أرجاء العالم من الأمور بالغة الأهمية لأغراض التعليم الثلاثة. حيث يؤثر التفكير النقدي، والإبداع، ومهارات التعامل مع الآخرين والشعور بالمسؤولية الاجتماعية على النجاح في الحياة والعمل والمواطنة. على سبيل المثال، تمتد العلاقات الشخصية البائسة إلى بيئة العمل، في حين أن بيئة العمل الضاغطة أو البطالة تؤثر بدورها على الحياة الأسرية. أما المواطنون الجهلاء المنسلخون عن الواقع فيتسببون في الخيارات السياسية السقيمة والتي تؤثر على الحياة والعمل والمواطنة.. وفي إعادة لصياغة الجملة الشهيرة من الأغنية القديمة فإنه «لا يمكن الحصول على أحدها بمنأى عن الباقية».
ولذلك فإن للمنظور متعدد الأغراض تأثيره العملي على العملية التعليمية اليومية، كما يؤثر تماما على سياسة التعليم ككل.
ما
هي مميزات القاعات الدراسية الداعمة لأغراض الحياة والعمل والمواطنة؟
يكمن الأساس في تحديد السلوكيات التعليمية التي ينبغي أن يضطلع بها الطلاب. يقدم إطار العمل الخاص بعلوم التعليم للمراحل الدراسية من الابتدائي وحتى الثانوي في المجلس الوطني للأبحاث بعضا من الأمثلة الجيدة، حيث يصف ذلك الإطار الممارسات التي يستخدمها العلماء والمهندسون في بناء المعرفة والتصميمات الجديدة، وكذلك مشاركات الطلاب التي تؤدي إلى التعلم. ولكي نبدو واضحين فإن الإطار المذكور يبدأ من منطلق أن العلم عبارة عن وسيلة للخروج بالتفسيرات حول كيفية عمل العالم الطبيعي، والهندسة هي وسيلة للخروج بحلول للمشاكل الإنسانية. وكلاهما يهدف إلى تحسين حياتنا - مما يعد حافزا قويا للتعلم. ومع إضفاء القليل من التغيير والتبديل، فإنه من المدهش أن تلك الممارسات يسهل تطبيقها على مختلف المواد الدراسية واعتبارها وسائل تتعامل مع مختلف الأغراض لدينا، ومنها:
1) توجيه الأسئلة
حول الظواهر (مسببات السرطان، والتغيرات المناخية) وتحديد المشكلات التي تحتاج إلى
الحل (تصميم الأدوية التي تعالج السرطان، وتوليد الطاقة منخفضة التأثير). يمكن
للطلاب، في القاعات الدراسية، طرح الأسئلة حول كيفية حصول الكائنات الحية على
الطاقة للحياة والنمو. كما يمكنهم تصميم نماذج أولية من الروبوتات التي تعمل على
تطهير التسرب النفطي. ولا يعتبر التركيز التعليمي على طرح الأسئلة البناءة وتحديد
المشكلات الهادفة من قبيل المهارات الأكاديمية فحسب؛ بل هو من الممارسات المهمة
عبر مختلف مراحل الحياة، والعمل، والمواطنة.
2) تطوير واستخدام
النماذج.. حيث تعبر النماذج عن مميزات قابلة للاختبار تتعلق بالتفسيرات العلمية أو
حلول التصميم. في القاعات الدراسية يتفاعل المعلمون مع الطلاب لطرح، وتوضيح،
وتنقيح، وتعزيز إدراكهم. وتحقيقا لذلك، لا يعني الأمر مجرد أن المعلمين يتعاملون
مع الأفكار المعروفة سلفا، لكنهم يتفاعلون مع الطلاب في دراسة وتعزيز أفكارهم
الخاصة. كما يعني أيضا إتاحة قدر من التحدي للطلاب للتعبير عما يعتقدون أنهم
يعرفونه والتوقيت المناسب للبحث في ما يعرفه الآخرون حتى يمكن تطوير النموذج
المبدئي القابل للاختبار. إحدى الأفكار النموذجية الرئيسية، والمنسحبة على الحياة
والعمل والمواطنة، تكمن في أن غالبية المشكلات التي تستحق قدرا من التأمل هي مشكلات
معقدة، وأن السعي لتفهم ذلك التعقيد هو أفضل المناهج بدلا من الاندفاع نحو
البساطة. ومن الأفكار المهمة الأخرى أن النماذج، أو أفكارنا المبدئية، ينبغي
إخضاعها للفحص المنهجي. ومعرفة ما إذا كانت أفكارنا المبدئية تتناغم مع الحقيقة
أمر بالغ الأهمية، حتى لا نقع في الخيارات الجاهلة البائسة ذات العواقب الوخيمة
غير المتعمدة.
3) التخطيط وتنفيذ
التحقيقات.. ويكمن الهدف من وراء التحقيقات في اختبار، وصقل، أو استبدال،
التفسيرات الحالية أو التفسيرات الافتراضية أو تصميم الحلول. مثلا، في دروس مادة
الأحياء بالمدارس الثانوية يمكن للطلاب تصميم التحقيقات للوقوف على أنواع الطحالب،
وما هي الظروف المثلى للتخلص من ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي. تنفيذا لذلك،
ينبغي عليهم توقع نوع البيانات الداعمة أو الطاعنة في أفكارهم المبدئية أو خيارات
التصميم لديهم.
إن تنمية قدرات
الطلاب على الفحص المنهجي للبيانات تعتبر نتيجة أخرى من نتائج التعليم متعدد
الأغراض. وبالدراسة الجيدة، يتعلم الطلاب ثلاث فرضيات أساسية: تشكل الأسئلة
المطروحة نوع البيانات المتاحة حيال التحقيق. الأسئلة غير المطروحة قد تكون على
نفس مستوى أهمية الأسئلة المطروحة. بالإضافة إلى أنه في غرفة الدراسة التفاعلية،
ومع توفير المزيد من الوقت للمناقشة، يتعلم الطلاب أن مختلف الناس يتعاملون مع البيانات
نفسها ويصلون إلى تفسيرات مختلفة بشأنها. وهي ليست مهارة حياتية سيئة بحال!
4 و5) تحليل
وتفسير البيانات.. واستخدام الرياضيات والتفكير الحسابي.. فالبيانات لا تتحدث عن نفسها، وتخرج
التحقيقات الموجهة لاختبار التفسيرات أو التصميمات بقدر ما من البيانات التي يتعين
تفسيرها. وفي القاعات الدراسية المنظمة حول تلك الممارسات الثماني، يتعلم الطلاب
أن إجابات الأسئلة المهمة ليست بالضرورة حتمية. بدلا من ذلك، تأتي الإجابات من فحص
«ما إذا كان» و«متى» و«تحت أي ظروف»
و«كيفية عمل الأشياء في العالم». يتعلم الطلاب كذلك استخدام أدوات التفسير
التقليدية والحديثة، خصوصا عند فحص النظم المعقدة أو تصميم الحلول المعقدة، فإن
التمثيل الرياضي والتحليل الحسابي يعد أمرا حاسما. يتعلم الطلاب أيضا عدم التعامل
مع الرياضيات من زاويتها الإجرائية الواجب تذكرها، بل كأدوات للإحساس بالعالم
المحيط - وهي أيضا من المهارات متعددة الأغراض.
6 و7) بناء
التفسيرات والحلول التصميمات.. والمشاركة في المناقشات من واقع البراهين. يقول
إطار العمل المذكور آنفا «إن هدف الطلاب هو بناء التفسيرات المترابطة منطقيا
للظواهر التي تتضمن إدراكهم الحالي للعلوم، أو للنموذج الذي تمثله العلوم،
والمتسقة مع البراهين المتاحة؛ مثلا عند اعتبار الحلول المقترحة لمشاكل التصميم
الهندسي، لا يوجد في المعتاد ما يعرف بالحل الوحيد الأمثل، لكنها مجموعة من الحلول
المطروحة. ويتوقف اعتماد أفضل الخيارات على المعايير المطبقة في الخروج بالتقديرات».
ومع ذلك، ينطلق الإطار سالف الذكر خطوة واحدة نحو الأمام، وإضافة إلى إرساء الحجج المبنية على البراهين المنطقية، فإنه ينبغي على الطلاب ممارسة الدفاع عن أو مراجعة تفسيراتهم أو حلولهم في ضوء الأفكار المنافسة، من حيث التفكير في قوة إزالة الشخصنة عن النقاشات وتحويل مسارها في اتجاه البراهين. من شأن ذلك وبكل تأكيد تعزيز معالجة النزاعات الحتمية التي هي جزء من نسيج الحياة والعمل والمواطنة.
(8). الحصول على، وتقييم، والتواصل بشأن المعلومات.. تعتبر ممارسات العلوم والهندسة ذات نظرة تطلعية، وذات توجه معرفي وباحث عن الحلول، ودائما ما تسعى للتحسن. على هذا النحو، تتجلى فائدة عظيمة من التواصل مع الآخرين. ونتيجة لذلك، فإن القاعات الدراسية التي تتفاعل إثر تلك الممارسات تتسم بالتعاون، والتبادلية، والانفتاح على الأفكار البديلة. ومرة أخرى، تلك من بين المهارات الكبرى المعززة للحياة والعمل والمواطنة.
ما هي السياسات
المعززة للتعليم من أجل الحياة والعمل والمواطنة؟
أولا، من خلال المجالات المعرفية التقليدية المتعددة.. يشير التدريس من أجل تنمية خبرات الطلاب في تطبيق تلك الممارسات إلى وجود تحولات كبرى في التركيز التعليمي. تستلزم تلك التحولات تطوير معايير جديدة كما تستلزم التنمية المهنية كذلك. وينبغي أن يكون ذلك من أهم أولويات التمويل.
ثانيا، نظرا لأن التفاعلات الكبيرة في تلك الممارسات هي من قبيل التغيرات الثقافية المهمة، يصطف الوقت والصبر خلفها اصطفافا. فلا وجود للحلول السريعة ولا توقع لنتائج الأمد الوجيز القابلة للقياس من أدوات أو ممارسات التقييم التكويني أو التجميعي الحالية.
ثالثا، التدريس عبر تلك الممارسات يتطلب وجود المحتوى الدراسي ذي الارتباط الشخصي والاجتماعي للطلاب الذي يمهد للتفاعل الفكري والعاطفي في عمليتهم التعليمية الخاصة. مما يعني أن التدريس لقاء النجاح في الاختبارات لم يعد كافيا، إن لم يكن من عوامل التحفيز المحبطة. نتيجة لما تقدم، فإن السياسات التعليمية الحالية، التي تمنح الأولوية للتقييمات الدراسية اللاحقة، نحن في أمس الحاجة إلى اجتزائها أو التخلص تماما منها.
رابعا، نظرا للتطور المتصل لسياقنا الاجتماعي والتقني، فلا يجدر بالتعليم لأجل الحياة والعمل والمواطنة منح التركيز الحصري على ما هو معلوم بالفعل وكيف نعيش حياتنا الآن. وبالتالي، فإن التدريس والتقييم الذي يفضل التعلم بطريق التلقين والحفظ والاستظهار ينبغي عليه إفساح المجال أمام الإعداد والاستعداد لأساليب التعلم المستقبلية.
وصرفا للنظر عن
التقدم المتحقق في تحويل الممارسات والمحتوى الدراسي للقاعات الدراسية اليومية،
يظل عدم المساواة من عوامل التقييد المهمة والكبيرة. إن تطبيق نظم التفكير التي
تميز التقدم في مجالات العلوم والهندسة بالنسبة للسياسات التعليمية يفيد بأن
التحسينات الحقيقية المستدامة تستند بالأساس إلى معالجة قضية عدم المساواة في
مجالات مثل الوظائف مدفوعة الأجر، والرعاية الصحية، والغذاء، والإسكان، والأمن..
«لا يمكن الحصول على أحدها بمنأى عن الباقية».
ملحق
التعليم/جريدة الشرق الأوسط
بتوقيت بيروت