أصبحت الدراسات العلمية الحديثة في مجال علم الأعصاب وبواسطة التكنولوجيات المتطورة تعطي أملاً كبيراً بتنشئة متعلم أفضل، فاختبارات دراسات الدماغ تبين للعلماء طرقاً جديدة يمكن من خلالها تحسين القراءة والكتابة والحساب، وكذلك المهارات الاجتماعية للأطفال، كما أن الطرق البحثية، التي يسلكها علماء الأعصاب، تعد بإظهار ما يحدث في الدماغ عندما نتعلم شيئاً جديداً، ومع نضج هذه الدراسات، يمكن أن يصبح ممكناً لتلميذ الحضانة، أو حتى الرضيع، أن يُشغل بتمارين بسيطة للتأكد من أن الطفل مهيأ إدراكياً للمدرسة.
وإذا نجحت هذه الأبحاث، فمن الممكن أن يكون لها تأثير هائل في الممارسات التربوية، وذلك بتقليل نسبة حدوث الإعاقات التعليمية المتنوعة، إلا أن هذا الدور لا يقع فقط على عاتق العلماء، بل على المربين والآباء أيضاً، كما يمكن لهذه الدراسات تطوير المهارات اللغوية للرضع حتى قبل بلوغهم سن القدرة على نطق بعض الكلمات.
في دراسة علمية تجريها البروفسورة الأمريكية أبريل بيناسيك وزملاؤها من جامعة روتجرس البحثية بمدينة نيوآرك بولاية نيوجيرسي، تبين أنه ومنذ الأشهر الأولى من حياة الطفل، عندما يبدأ في تمييز الأصوات الأخرى من الأصوات التي تشكل اللغة، يمكن للعلماء تدريب الأطفال وتركيز اهتمامهم على الأصوات المختصة باللغة من خلال تطوير خرائط الدماغ التي تعتبر حجر الأساس في إمكانية فهم أماكن اكتساب اللغة.
تعد بيناسيك واحدة من فريق الباحثين الذين يستخدمون تقنيات تسجيل الإشارات الكهربائية الصادرة عن نشاط الدماغ لفهم العمليات الأساسية التي يرتكز عليها التعلم . ويسعى علم التربية العصبية الجديد إلى البحث عن إجابات لأسئلة أربكت طويلاً علماء النفس الإدراكي والتربويين .
فمثلاً، كيف تتصل مقدرة الطفل الحديث الولادة على إصدار الأصوات والتعامل مع الصور بمقدرته على تعلم الحروف والكلمات بعد سنوات قليلة تالية؟ وما الذي تعنيه مقدرة الطفل على الحفاظ على التركيز العقلي قبل مرحلة المدرسة لتحقيق نجاح أكاديمي لاحقاً؟ وماذا يمكن للتربويين القيام به لرعاية المهارات الاجتماعية للأطفال وأيضاً تعزيز حيويتهم في غرفة الصف؟ إن مثل هذه الدراسات تُكمِّل ثروة المعرفة التي توصلت إليه برامج الأبحاث النفسية والتربوية.
يَعِدُ هذا الفريق بتقديم أفكار جديدة ترتكز على علم الدماغ، لتنشئة متعلمين أفضل، ولتهيئة الأطفال وحديثي المشي لتعلم القراءة والكتابة والحساب والصمود في الشبكة الاجتماعية المعقدة لمدارس الحضانة وما بعدها، ويركز الكثير من هذا العمل على السنوات الأولى للحياة وعلى السنوات المبكرة للمدرسة الابتدائية، ذلك أن بعض الدراسات أشارت إلى أن الدماغ يكون آنذاك أكثر قدرة على التغير من أي وقت آخر.
وتدرس بيناسيك وفريقها شذوذات في الطريقة التي تدرك فيها أدمغة صغار الأطفال الصوت، وهذه عملية إدراكية أساسية لفهم اللغة وكيفية تشكلها، من خلال تركيزها على ما تدعوه لحظة "الآها"، التي هي انتقال مفاجئ في النشاط الكهربائي للدماغ يشير إلى أنه حدثت معرفة شيء جديد.
ويجري الباحثون
اختباراتهم في مختبر بيناسيك من خلال تعريض الأطفال إلى أصوات بترددات وأوقات
معينة، ولاحظوا من خلال ذلك تغيراً في الإشارات الكهربائية المولدة في الدماغ عند
إحداث ترددات مختلفة، وأشار المخطط البياني الكهربائي إلى أن قمم هذا المخطط تنحدر
نحو الأسفل، وهذا يعني أن الدماغ يدل على أن أمراً ما حدث، وحدوث تأخر في زمن
الاستجابة للنغمات المختلفة يعني أن الدماغ لم يكتشف الصوت الجديد بالسرعة
الكافية، وتوصل البحث إلى أنه بوسع هذا النمط من النشاط الكهربائي البطيء في عمر
الستة أشهر، التنبؤ بقضايا لغوية في الأعمار من ثلاث إلى خمس سنوات، ويمكن للاختلافات
في النشاط الذي يستمر خلال سنوات ابتداء الطفل بالمشي حتى التحاقه بالمدرسة،
التنبؤ بمشكلات في تطور منظومة الدارات الكهربائية للدماغ، التي تعالج الانتقالات
السريعة التي تحدث خلال إدراك وحدات مكونات الكلام، فإذا أخفق الأطفال في سماع أو
معالجة مكونات الكلام مثلاً "دا"
da أو "با" pa بالسرعة الكافية، فإنهم يتخلفون في
نطق الحروف المكتوبة أو مقاطع الكلمات التي في أذهانهم، ويعيق ذلك لاحقاً طلاقة
القراءة لديهم
. وتقدم هذه
الاكتشافات الحديثة تأكيداً قوياً إضافياً لأبحاث بيناسيك الأخرى، التي تشير إلى
أن نتائج الأطفال، الذين يواجهون مشكلات مبكرة في التعامل مع هذه الأصوات، ستكون
ضعيفة في الاختبارات النفسية للغة بعد ثمان أو تسع سنوات تالية.
وإذا استطاع
العلماء أمثال بيناسيك تشخيص المشكلات المستقبلية للغة لدى الأطفال، فقد يكون
بمقدورهم تصحيحها عن طريق استثمار المرونة المتأصلة في الدماغ المتطور، أي التغير
في الاستجابة للخبرات الجديدة . ويكون بمقدورهم أيضاً تحسين الأداء الوظيفي
الأساسي لطفل يتطور دماغه بطريقة طبيعية، وتقول بيناسيك: "أيسر وقت للاطمئنان
بأنه يجري تنظيم الدماغ بما يجعله، إلى حد ما، الأنسب للتعلم، قد يكون في الربع
الأول من العام الأول"
.
وكان بيناسيك وفريقها ابتكروا لعبة تدرب الطفل على الاستجابة للتغير في نبرة الصوت بتدوير الرأس أو تحويل العينين (يتعقب ذلك جهاز إحساس)، وتأمل أن تساعد اللعبة الأطفال الذين يعانون ضعفاً في معالجة هذه الأصوات على الاستجابة بصورة أسرع . ستانيسلاس ديين عالم الأعصاب الفرنسي في المعهد القومي الفرنسي للصحة والأبحاث الطبية، يعد رائداً في حقل الإدراك العددي، وحاول ديين أن يبتكر طرقاً لمساعدة الأطفال الذين يعانون صعوبات مبكرة في الحساب . يقول: "إذا لم تكن المهارة الفطرية موجودة منذ البداية، فقد يعاني الطفل لاحقاً صعوبة في الحساب والرياضيات العالية، فالتداخلات التي تبني حاسة العدد هذه، تساعد بطيء التعلم على تجنب سنوات من المعاناة في حصة الرياضيات" .
وتتعارض هذه الأبحاث مع ما يراه عالم النفس السويسري الشهير جان بياجيه، الذي ادعى أن أدمغة الرضع هي سجلات خالية أو صفحات بيضاء، عندما يتعلق الأمر بإجراء حسابات في المهد، فعلى الأطفال، بحسب بياجيه، تطوير فكرة أساسية عن العدد خلال سنوات تفاعلهم مع المكعبات أو الحلقات أو غيرها من الأشياء.
منذ ولادتنا، يكون لدينا تصور عن العدد، والأطفال، الذين يعانون عجزاً في هذه المهارة الفطرية، أنهم سيعانون في حياتهم المستقبلية . وصمم ديين وزملاؤه لعبة سباق العدد، لتدعم قدرتنا الفطرية على تقدير الكمية.
وتظهر الدراسات على الدماغ أنه بوسع التدريب الموسيقي المتواصل على الآلات الموسيقية أن يؤدي إلى تحقيق مكاسب في المدرسة، فالتدريب على الآلات الموسيقية يحسن الانتباه والذاكرة العاملة والانضباط الذاتي.
وأفضل تدريب دماغي هو ممارسة العزف على الكمان، ويعزز التدريب الموسيقي المكثف في عمر مبكر المهارات بشكل يتجاوز مجرد القدرة على العزف على آلة موسيقية، وتركيز الموسيقيّ على الاستماع الدقيق للأصوات يساعد على الإدراك الشمولي للغة، ويعزز المهارات الإدراكية كالانتباه والذاكرة العاملة وضبط النفس.
ويستقبل الموسيقيون الصوت بطريقة أوضح من سماع غير الموسيقيين لهذا الصوت، لأن التدرب على آلة موسيقية يدرب الدماغ كله . وتنتقل الأصوات من الآلة الموسيقية، من القوقعة في الأذن الداخلية إلى جذع الدماغ البدائي قبل وصولها إلى القشرة الدماغية، مكان وظائف الدماغ العليا، ومن ثم تعود إلى جذع الدماغ والقوقعة . وجدت إحدى الدراسات أن إجراء التخطيط EEG (التخطيط الكهربائي للدماغ) على أطفال الحضانة يمكن أن يتنبأ بالقدرة على القراءة عند تلاميذ الصف الخامس على وجه أفضل من المقاييس النفسية المعيارية، وبإخضاع الطفل للمراقبة الدماغية والطرق التقليدية معاً، فإنه يمكن تقييم كل طفل قبل دخوله المدرسة، وأن يعطى، إن لزم الأمر، تدريباً علاجياً مستنداً إلى الاكتشافات التي تتقاطر اليوم من مختبرات علم الأعصاب.
5 خرافات عن العقل
البشر يستعملون عشرة في المئة فقط من أدمغتهم
إن خرافة ال 10% (والتي ترتفع إلى 20% أحيانا) هي مجرد أسطورة شائعة، وهذه مؤامرة دبرت مؤخراً من قبل فيلم "بلا حدود" Limitless، الذي يتمحور حول قصة دواء عجيب يهب البطل ذاكرة وقدرات تحليلية هائلة . ويُطالب معلمو المدرسة، التلاميذ أن يحاولوا أكثر، إلا أن هذا لن يؤدي إلى تفعيل الدارات العصبية "غير المستعملة"، ولا يتحسن الإنجاز الأكاديمي ببساطة بمجرد رفع مفتاح ضبط حجم التفعيل العصبي .
الفصّان الأيمن
والأيسر
إن الادعاء بأن لدينا دماغاً أيسر عقلانياً، وجانباً أيمن حدسياً إبداعياً، هو مجرد خرافة . يستعمل البشر كلا نصفي الكرة المخية في جميع الوظائف الإدراكية . إن فكرة أن الفص الأيسر/ الأيمن نشأ من أن العديد من الناس يعالجون اللغة أكثر في نصف الكرة المخية الأيسر، والقدرات المكانية والتعبيرات العاطفية أكثر في النصف الأيمن.
يجب أن تتكلم
لغة واحدة قبل أن تتعلم أخرى
الأطفال الذين
يتعلمون الإنجليزية في الوقت نفسه الذي يتعلمون فيه الفرنسية، لا يخلطون أياً من
اللغتين مع الأخرى، وهكذا يتقدمون ببطء أكثر، وهذه الفكرة حول تداخل اللغات توحي
بأن مناطق مختلفة من الدماغ تتنافس لتأمين مواردها، وفي الواقع، أن الأطفال
اليافعين الذين يتعلمون لغتين، وحتى في الوقت نفسه، يكتسبون معرفة عامة أفضل
بالبناء اللغوي ككل.
اختلاف أدمغة
الذكور عن الإناث
هناك فروق فعلية بين أدمغة الذكور والإناث، والفيزيولوجيا المميزة لهما قد تؤدي إلى اختلافات في الطريقة التي تعمل بها أدمغتهم . إلا أنه لم يبين أي بحث وجود اختلافات خاصة بالجنس، وذلك فيما يتعلق بطريقة تواصل شبكات العصبونات عندما يجري تعلّم مهارات جديدة . وحتى إذا ظهر فيما بعد، وجود بعض الاختلافات بين الجنسين، فإنها غالباً ما ستكون صغيرة ومبنية على المعدل الوسطي، وبمعنى آخر، فإنها لن تكون بالضرورة مرتبطة بأي شخص معين.
لكل طفل نموذج
تعليمي خاص
إن الفكرة القائلة إن التلميذ يميل إلى أن يتعلم أفضل باعتماده هو على نموذج خاص من المدخلات الحسية - المتعلم البصري مقابل المتعلم السمعي - لم تحظ بتحقيق كاف في الدراسات الراهنة.
جريدة
الخليج الاماراتية
بتوقيت بيروت