لا شكَّ أنَّ مرحلة الغيبة الكبرى هي
مرحلة ذات ظروف وطبيعة خاصَّة، ولها تحدَّيات ومهام أساسيَّة تختلف عن غيرها من
المراحل، وكان لا بدَّ من وضع الخطوط العامة التي تحدد معالم المسيرة خلال هذه
الغيبة، خصوصاً وأنَّها فترة طويلة، وفيها الكثير من الفتن والامتحانات
والإبتلاءات التي ينبغي على المؤمن مواجهتها، بالإضافة إلى المهمَّة الأساسيَّة في
تهيئة الأرض والظروف، وإعداد الأنصار، لتصبح مقدِّمات الظهور مهيَّأة، وهناك
العديد من العناوين العريضة والأساسيَّة التي أشارت إليها الكلمات المرويَّة عن
الإمام الحجَّة عجل الله تعالى فرجه الشريف، وهو ما سنتعرض له ضمن العناوين
التالية.
يتميَّز زمن الغيبة الكبرى بحصول الغيبة التامَّة، بمعنى إنتهاء زمن السفراء، وعدم وجود أيِّ شخص كصلة وصل بين الإمام وأتباعه، وحيث إنَّ مقام السَّفارة والواسطة يطمع به الطامعون لما فيه من جاه عند أتباع الإمام وشيعته، ظهر في كثير من الأحيان من يدَّعي مثل هذا المقام بغير حقِّ، وينسب لنفسه السَّفارة عن الحجَّة أو الارتباط به وحمل رسائل عنه، وقد حذَّرت الرِّوايات عن الإمام الحجَّة عجل الله تعالى فرجه الشريف من هؤلاء الأشخاص وأكّدت على أنَّه لا يوجد سفارة في زمن الغيبة الكبرى، وكلُّ من يدَّعيها فهو كاذب.
"وسيأتي إلى شيعتي من يدّعي المشاهدة، ألا فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج السّفياني والصيحة فهو كذّاب مفتر ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم"1.
ولاية الفقيه
إذاً فقد أعلن الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف انتهاء منهج السفارة في الإرتباط بالإمام وأخذ التكليف عنه، وبالتالي فهناك منهج جديد لا بدَّ من تقريره ليسير الأتباع والشيعة على خطاه، وهذا ما سأل عنه إسحق بن يعقوب في مكاتبة للإمام الحجَّة عجل الله تعالى فرجه الشريف، حيث جاءه الجواب:"وأمَّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنَّهم حجَّتي عليكم وأنا حجَّة الله" 2.
لقد قرَّر الإمام الحجَّة عجل الله تعالى فرجه الشريف منهج العمل في زمن الغيبة بالرجوع إلى رواة الحديث، واصطلاح رواة الحديث المقصود منه: الفقهاء، وبالتالي فإنَّ الفقيه العادل الكفء هو حجَّة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف على أتباعه، وهذا ما يعبَّر عنه باصطلاح "ولاية الفقيه" فالوليُّ الفقيه هو الذي يجب الرجوع إليه في كلِّ ما كان يُرجع فيه إلى الإمام المعصوم عليه السلام زمن حضوره، من قيادة الأمة والتصدِّي لإدارة المجتمع، وتحقيق الأهداف الإسلاميَّة المطلوب تحقيقها على المستوى العام.
عدم إثارة الغرائز المذهبيّة
من العناوين الأساسية في زمن الغيبة أن يتجنَّب أتباع الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف وشيعته إثارة الغرائز المذهبية التي لا تؤدي إلاَّ إلى الفتن والتقاتل من غير طائل، فإنَّ الفتن المذهبية لا يمكنها إلا أن تكون هدّامة ومدمّرة، ولن تكون مفيدة للمسيرة على الإطلاق.
"إعتصموا بالتقيّة، من شبّ
نار الجاهليّة يحشّشها عصب أمويّة يهول بها فرقة مهديّة" 3.
أنا زعيم بنجاة من لم يرم فيها المواطن الخفيّة، وسلك في الظعن منها 4
السبل المرضيّة..." 5.
أي ابتعدوا عن الأمور التي تتسبَّب بإشعال نار الجاهلية، فإنَّها إن اشتعلت تستغلها عصابات أموية، وتُرعب بها فرقةً مهديةً هي أنتم.
هذا بالإضافة إلى تحدَّيات العصر التي تفرض وحدة المسلمين لمواجهة أخطار المستكبرين الذين يراهنون على تفتيت المسلمين، وزرع الشقاق بينهم، وإشغالهم ببعضهم البعض لتسهل عليهم هزيمتهم، ونهب مقدراتهم واقتصادهم، ومحو فكرهم والقضاء على حضارتهم.
ولكنَّ الإمام عجل الله تعالى فرجه
الشريف يؤكَّد أنَّ هذا الأمر لن يكون ما دمنا نسلك السبل الصحيحة في الابتعاد عن
مثل هذه الفتن. وبالتالي فإنَّ كيد المستكبرين في ضلال، ورهاناتهم ستخسر بإذن الله
تعالى.
الحذر من المغالين
إنَّ الغلوَّ من أخطر الأمراض التي كانت تواجه الأنبياء والأئمة، وتهدِّد بتقويض مسيرتهم من بنيانها الأساسي، فالغلو يطعن بالتوحيد الَّذي هو الأصل الأوَّل والأساس المتين الَّذي ترجع إليه كلُّ مسائل الدين، من هنا فقد كان الأنبياء والأئمة عليه السلام يواجهون هذا المرض بكل قوة وحزم، وينقل التاريخ كيف واجهه النبي صلى الله عليه وآله وسلم منذ بزوغ فجر الإسلام، حيث ينقل أنَّه جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له: السلام عليك يا ربي ! فأجابه صلى الله عليه وآله وسلم: "ما لك لعنك الله! ربي وربك الله... " 6. وهكذا كانت المواجهة من قبل أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً حاسمة، وأمَّا الإمام الحجَّة عجل الله تعالى فرجه الشريف فقد قطع الطريق على أيِّ غلوٍّ يحاول أن يستفيد من الفراغ الحاصل في غيبته الكبرى عجل الله تعالى فرجه الشريف، فرسم الطريق والمنهج في رفض الغلوِّ رفضاً قاطعاً في العديد من كلماته:فواجه في كلماته المفوِّضة الِّذين كانوا يعتبرون أنَّ الله تعالى خلق الكون وترك للأئمة إدارته، بحيث يتصرَّفون كما يشاؤون، ونعتهم بصريح العبارة بالكذب:"وجئت تسأل عن مقالة المفوِّضة، كذبوا، بل قلوبنا أوعية لمشيئة الله، فإذا شاء الله تعالى شئنا والله يقول: ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللهُ﴾7". 8
وواجه في كلماته من نسب إليهم عليه السلام العلم بالغيب، فكل ما يعلمونه هو بتعليم من الله تعالى وليس لهم شيء من تلقاء أنفسهم:"يا محمد بن علي، تعالى الله عزّ وجلّ عمّا يصفون، سبحانه وبحمده، ليس نحن شركاؤه في علمه ولا في قدرته، بل ؟ يعلم الغيب غيره، كما قال في محكم كتابه تباركت أسماؤه: ﴿قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ﴾ 9". 10
وأكدَّ أنَّهم جميعاً ليسوا سوى عبيد لله سبحانه وتعالى:"وأنا وجميع آبائي من الأوليين: آدم ونوح وإبراهيم وموسى، وغيرهم من النبيين، ومن الآخرين محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعليّ بن أبي طالب عليه السلام، وغيرهم ممن مضى من الأئمة صلوات الله عليهم أجمعين، إلى مبلغ أيّامي ومنتهى عصري، عبيد الله عزّ وجلّ، يقول الله عزّ وجلّ: ﴿مَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾11" 12.
ويستعمل الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف بحسب هذه الرواية أقسى العبارات لمنع الوقوع بالغلو، ويتبرَّأ من المغالين:"فأشهد الله الذي ؟ إله إلا الله هو وكفى به شهيداً، ورسوله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، وملائكته وأنبيائه وأوليائه عليه السلام وأُشهدك وأُشهد كلّ من سمع كتابي هذا: أنّي بريءُ إلى الله وإلى رسوله ممن يقول: إنّا نعلم الغيب، ونشاركه في ملكه، أو يحلّنا محلاًّ سوى المحلّ الذي رضيه الله لنا وخلقنا له، أو يتعدّى بنا عمّا قد فسّرته لك وبينته في صدر كتابي. وأُشهدكم: أنَّ كلّ من نبرأ منه فإنَّ الله يبرأ منه وملائكته ورسله وأولياؤه... فكلّ من فهم كتابي ولا يرجع إلى ما قد أمرته ونهيته، فقد حلّت عليه اللَّعنة من الله وممّن ذكرت من عباده الصالحين". 13
وفي بعض كلماته المرويَّة عنه عجل الله تعالى فرجه الشريف يسمِّي بعض الغلاة ويلعنهم ويتبرَّأ منهم ويوصي بعدم مجالسة أهل مقالتهم: "وأمَّا أبو الخطاب محمد بن أبي زينب الأجدع فإنَّه ملعون وأصحابه ملعونون، فلا تجالس أهل مقالتهم، فإنِّي منهم بريء، وآبائي عليه السلام منهم براء" 14.
الحذر من الشاكّين
ومقابل المغالين كان هناك المقصِّرون الذين جهلوا مقام الأئمة عليه السلام وابتعدوا عنهم وتخلفَّوا عن نصرتهم، وقد أشار الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف في كلماته المنقولة إلى أنَّ معرفتهم واتّباع نهجهم فوز للتابعين ويعود بالفائدة عليهم، ولن يضرَّه خذلان من يخذل وتخلّف من يشك:"وأمَّا ندامة قوم شكّوا في دين الله على ما وصلونا به فقد أقلنا من استقال فلا حاجة إلى صلة الشاكِّين" 15.
"يا عيسى: ما كان لك أن تراني
لولا المكذِّبون القائلون: أين هو، وقد كان؟ وأين ولد؟ ومن الَّذي رآه؟ وما الَّذي
خرج إليكم منه؟ وبأيِّ شيء نبَّأكم؟ وأيَّ معجز أتاكم؟
أما والله لقد دفعوا أمير المؤمنين عليه السلام- مع ما رووه -وقدموا عليه، وكادوه
وقتلوه، وكذلك آبائي عليه السلام، لم يصدقوهم ونسبوهم إلى السحر وخدمة الجن إلى ما
تبين.
يا عيسى فخبر أوليائنا ما رأيت، وإياك أن تخبر عدونا فتسلبه.
فقلت: يا مولاي أدع لي بالثبات.
فقال: لو لم يثبتك الله ما رأيتني وامض بنجمك راشداً.
فخرجت أكثر حمداً لله وشكراً" 16.
* من وحي كلمات الحجة (عج), سلسلة بين يدي القائم (عج), نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
1- سفينة البحار,الشيخ عباس القمي ج2
ص249. - الاحتجاج , الطبرسي ,ج2 ص297.
2- الاحتجاج الطبرسي ج2ص 281 ـ 284
3- يحشش النار: يوقدها ويحركها بالمحش. والمحش: حديدة تحرك بها النار.
4- الظعن منها: الارتحال عنها.
5- خاتمة المستدرك, النوري ـ ج 3، ص 225، من رسالة للشيخ المفيد.
6- خاتمة المستدرك, النوري، ج4، ص143.
7- سورة الإنسان, الآية 30، سورة التكوير, الآية 29.
8- الاحتجاج م.ن: ج2, ص281-284
9- سورة النمل, الآية 65.
10- الاحتجاج م.ن, ج2ص 281 ـ 284.
11- سورة طه آية 124 ـ 126.
12- الاحتجاج, الطبرسي , ج2ص 281 ـ 284.
13- الاحتجاج م.س: ج2 ص280 ـ 281: عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه
القمي (رحمه الله )قال: حدثني محمد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني، عن الشيخ أبي
القاسم الحسين بن روح رضي الله عنه قال: ومما خرج عن صاحب الزمان صلوات الله عليه
رداً على الغلاة من التوقيع جواباً لكتاب كتب إليه على يدي محمد بن علي بن هلال
الكرخي.
14-م.ن, ج2ص 281 ـ 284.
15- الاحتجاج ,م.س ج2 ص280 ـ 281.
16- بحار الأنوار, العلامة المجلسي, ج52 ص68.
بتوقيت بيروت