يشغل موضوع التطلّع إلى أخبار المستقبل، وما يجري في آتي الأيام والسنين والقرون، وإلى آخر الساعة، حيزاً واسعاً من انتباه الناس، منذ القدم، وبالأخص في وقت المشاكل والمحن. لأنّ الناس في الشدّة يبحثون عن الخلاص من المآزق والأزمات فيلجأون إلى التوقعات والنبوءات، وهذا ما يسمّى بالمغيّبات.
تاريخياً، كانت أخبار المغيّبات تشغَل السلاطين، والملوك، والجيوش. وكان معروفاً أن بني إسرائيل واليهود عموماً لديهم غنىً في أخبار المغيبات والمستقبل، فقد كان لديهم عدد كبير من الأنبياء، وكانوا دائماً في شدائدهم يلجأون إليهم، ليسألوهم عن أبواب الفرج واليسر والحلول لمشاكلهم، وكان الأنبياء يخبرونهم ببعضها.
ومع تطوّر وسائل الاتصال والإعلام أصبح هذا الموضوع معروفاً ومتداولاً أكثر من السابق. أضف إلى أن هذا الموضوع أصبح، إعلامياً واستثمارياً، يُستفاد منه.
لا نستطيع أن نقول للناس لا تتابعوا أخبار المستقبل، بل على العكس، فالقرآن أخبر عن المستقبل. والمسلمون لديهم ثروة هائلة من الروايات الواردة عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم عمّا سيصير في آخر الزمان.
على المستوى الإسلامي، موضوع المستقبل يبحث بعناية وتركيز شديدين، خصوصاً عندما يصل الأمر إلى مسألة مهمّة جداً عند المسلمين هي موضوع الإمام المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف.
*عالم الغيب والشهادة
عندما نقول عالم الغيب والشهادة، نقصد بالغيب ما غاب عنا ولم نشهده، فيكون المستقبل جزءاً من الغيب. أما الشهادة فهي ما نشهده وما يمكن أن نحيط به بحواسنا. الغيب هو ما غاب عن الحواس، وما ليس بمحسوس. كلّ ما يتعلق بالخالق عزَّ وجل، وبالوحي الذي أرسله الله، وبالملائكة، والموت وما بعده، وبأهوال القيامة وأحوالها، وبالثواب، والعقاب، والجنة والنار، هذا كله من الغيب، وهو لا يرتبط بالمستقبل ولا يرتبط بالماضي.
إذاً، هناك غيب له علاقة بالماضي، وغيب له علاقة بالمستقبل، وهذا ما نسميه بأحوال المغيّبات التي ستجري على الكون. فماذا سيجري على الكون ومجمل الحياة، وعلى الإنسان ونهاية وجود الإنسان؟
*نؤمن بالغيب
إننا نؤمن بالغيب، وهذا جزء من عقيدتنا في إرسال الأنبياء عليهم السلام، يقول الله تعالى: ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ (أول صفة للمتقين هي إيمانهم بالغيب) ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ﴾ بمعنى (ما أُنزل إلى رسول الله هو جزءٌ من الغيب).
تبقى نقطة يجب الالتفات إليها وهي أنّ الغيب والشهادة أمران نسبيان، فنحن لا نعرف
الغد وهذا غيب، ولكن إنْ بقينا أحياءً حتى الغد، يصبح ما جرى علينا شهادة، فلا
يبقى غيباً.
*من يعلم الغيب؟
السؤال الذي يُطرح هو: من يعلم الغيب؟ وإن أردنا معرفة الغيب، من نقصد بالتحديد؟ ومن يعلم المستقبل الذي هو جزء من الغيب؟
إسلامياً، الجواب القاطع والحاسم أنه لا يعلم الغيب إلا الله سبحانه وتعالى. ونحن، كمسلمين، لا ندّعي لأي مخلوق وموجود "العلم بالغيب".
والله سبحانه وتعالى، لحكمة ورحمة، ولمصلحة للعباد يُطلع بعض عباده على بعض غيبه أو على بعض علمه. فهناك علمٌ خاص بالله سبحانه نفسه، وهناك غيب لم يطلع الله عليه أحداً من مخلوقاته على الإطلاق.
فالله قد أطلع الأنبياء والمرسلين وبعض الملائكة على بعض علمه، وهؤلاء يعلمون فقط ما أطلعهم الله عليه، والله يقول: ﴿وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء﴾ (البقرة: 255).
مثلاً، نحن نؤمن بأن القرآن الكريم هو كتاب الله عزّ وجلّ أنزله على قلب نبيه الخاتم محمد صلى الله عليه وآله وسلّم وهذا فيه عِلم من الله. ففي القرآن الكريم أخبار عن المستقبل وأنباء عن الغيب الآتي. وهذه الوسيلة من وسائل معرفة الغيب الموثوقة والمؤكّدة عندنا.
وأيضاً ما جاء في أخبار الأنبياء من الأنبياء، أو ما سمعه الجيل الأول عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم أو ما وصلنا عن طريق أهل البيت عليهم السلام، يعتبر طريقاً صحيحاً لمعرفة المستقبل يقيناً.
*وسائل استخدمها الناس
وهناك وسائل أخرى استخدمها الناس طوال التاريخ، في معرفة أخبار المستقبل ومن هذه الوسائل:
1 - علم النجوم وعلم الفلك: أي ما يسمى بالتنجيم حيث يقرأ علماء الفلك حركة الكواكب والنجوم والقمر والمدارات والمسارات. وكانوا يقولون للملوك في الزمن الماضي: لا تقاتلوا في السنة الفلانية، أو قاتلوا في السنة الفلانية وهذا ما نراه في أخبار النجوم.
2 - ما يسمى الآن الضرب بالرمل فيذهبون مثلاً إلى شخص يضرب بالرمل ليخبرهم "كم سيرزقون من الأبناء وعن أسمائهم وصحتهم..".
3 - التبصير، وله أشكال عديدة، منها: قراءة الكفّ وخطوط الكف، أو تبصير بعض النساء لبعضهن بعضاً بالفنجان.
4 - علم الأرقام والحروف والجُمَّل.
5 - تسخير الجنّ واستخدامه، وهنا يوجد إشكال أساس؛ إذ يشتبه الناس ويظنون أن الجنّ يعلم الغيب. أقول، وبشكل قاطع وحاسم: الجنّ لا يعلم الغيب. الجن يحلّل المعلومات ولكنه لا يعلم بالغيب، يقول الله عزَّ وجلّ: ﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾.
6 - تحضير الأرواح: وهو من جملة الوسائل التي يلجأ إليها كثير من الناس في الشرق، وفي الغرب، وفي أوروبا لتحضير أرواح الأموات. وهذه أيضاً إحدى الوسائل المدّعاة لمعرفة أخبار المستقبل، وأنباء الغيب.
أذكر أننا في يوم من الأيام، ذهبنا مجموعة أشخاص إلى السيد الشهيد الصدر { في النجف وسألناه عن هذا الموضوع فقال: "طبعاً، ليس من يحرّك الفنجان هو روح الميت"، وقال: "تخيّلوا مثلاً أن الشيخ الطوسي، وهو من كبار علمائنا، قضى عمره بطلب العلم والتحصيل وانتقل إلى العالم الآخر ليرتاح، فيأتي شخصان ليلهوا بالفنجان ويأتيا بروح الشيخ الطوسي إلى الفنجان...".
فمن قال إن الله أعطى سلطة من هذا النوع للناس حتى يحضروا أرواح الأموات؟ هذا ليس معقولاً وليس له وجه شرعي، ولو افترضنا أن هذه روح ميت، فهل الميت عندما كان في الحياة كان يعلم الغيب؟
كل ما ذكرت من النقاط الستة، هي ظنون وأوهام. ولا تُفيد الغيب والدليل أن كثيراً من أخبار هؤلاء المنجمين لم تصح.
*هل يتحمل الإنسان معرفة الغيب؟
الله تعالى لرحمته بنا أقفل على
الإنسان باب معرفة الغيب، مثلاً إذا أطلع الله الإنسان على علم المنايا وأعطاه
جدولاً بأسماء من سيموتون وكيف ومتى سيموتون، فهل تهنأ حياة هذا الشخص؟
وحتى الأنبياء كانت مستويات تحمّلهم وقدراتهم وقابليّاتهم متفاوتة. والله لأنه رحيم
بنا وأراد لنا حياة سوية أقفل علينا هذا الباب. أيضًا الله عزّ وجل أراد لنا أن
نكدّ ونسعى ونجاهد ونتعلّم ونصبر ونتحمل. فهذه الدنيا دنيا الابتلاءات وصُنع
الكمالات والرقي، ودنيا الامتحان والاختبار، فإذا أصبح كل شيء واضحاً أمامنا
لتعطّلت الحكمة من هذه الحياة.
لذلك، ما أخبر الله تعالى به بعض أنبيائه من الغيب هو بمقدار المصلحة المرتبطة بحياة الناس، ودينهم، ومستقبلهم، وراحتهم الدينية والدنيوية والأخروية.
إذًا الخلاصة؛ أنّ الطريق الوحيد لمعرفة أخبار المستقبل، هو ما يمكن أن يكون أساسه متعلقاً بالمصدر الإلهي ومرتبطاً به فقط.
(*) محاضرة عاشورائية، ألقاها سماحته بتاريخ 29/10/2014م.
مجـلة بقـية الله
بتوقيت بيروت