اقترحت
السياسة التعليمية الأميركية ترجيح كفة الكتابة بواسطة لوح مفاتيح الكومبيوتر على
كفة الكتابة باليد. ولا شك في أن ثمة فائدة ترتجى من ترك تعلم الكتابة «اليدوية».
فهذا الضرب من التعلم يقتضي الجمع بين حركات مركبة لا تكتسب بين ليلة وضحاها. وليس
يسيراً على التلاميذ اكتساب الكتابة اليدوية، وهذا الإخفاق قد يؤدي إلى رسوبهم
المدرسي. والكتابة بواسطة مفاتيح الكمبيوتر أسرع وأبسط وأنجع من الكتابة
التقليدية. ولكن قرار التخلي عن الكتابة اليدوية يفترض تقويم سيئاته، والوقوف عند آثاره
في الكتابة. فهل سيكتب البشر على المنوال نفسه إذا تخلّوا عن واسطة الكتابة
اليدوية؟ وهل سيخسرون القدرة على المطالعة وما تقتضيه من تركيز؟ وهل سيلمّون بأصول
النحو وكتابة الكلمات أو يتركون المهمة للكمبيوتر؟
والدراسات التي أجريناها مع الباحثة ماريكي لونكان خلصت إلى أن ثمة ذاكرة لحركة الكتابة اليدوية: فالأطفال والراشدون يتعرفون تعرفاً أكثر يسراً إلى الأحرف إذا تعلموها يدوياً. وفي الإمكان رصد الذاكرة الحسية – الحركية هذه بواسطة صور الرنين المغناطيسي: حين يقع نظر المرء على الأحرف، يفعِّل، إذا كان يكتب باليد اليمنى، جزء الدماغ المسؤول عن حركتها على رغم أنه في موقف المتفرج من غير أن يقدم على أي حركة. لذا، تبرز حاجة حيوية إلى التمسك بالكتابة اليدوية. فهي الأداة أو الجسر إلى حفظ الأبجدية عن ظهر قلب وإلى الربط بين شكل الحرف وحركة اليد. وهذا الربط لا تقوم له قائمة مع لوح المفاتيح. فحين ننقر على المفاتيح، لا تنقل حركة اليد شكل الحرف إلى الدماغ.
وإذا التزمت المدارس الأميركية الكتابة بواسطة لوح المفاتيح، فقد يسعنا دراسة أثر هذه الكتابة في المطالعة. وأجرينا في فرنسا دراسة شملت مختصّي الطباعة على الطابعة الآلية ومفاتيح الكمبيوتر. وهؤلاء يمضون ساعات طويلة في اليوم الواحد طوال سنوات في نقر مفاتيح الأحرف. وطلبنا منهم التمييز السريع بين الكلمات وأشباه الكلمات (مجموعة أحرف لا تأتلف منها كلمة).
وتبين أن الكتابة «المفتاحية» أو «اللوحية» لا تؤثر في المطالعة. ولكن حين مقارنة مجموعة الكاتبين بواسطة الكمبيوتر ومفاتيحه ومجموعة الكاتبين اليدويين، ثبت أن دور ذاكرة الحركة راجح: فمن يكتب «لوحياً» يسهل عليه التعرف إلى الكلمات التي يقتضي طبعها النقر على مفاتيح باليد اليمنى ثم الانتقال إلى مفاتيح على جهة اليد اليسرى. فالذاكرة الحسية – الحركية تلعب دوراً راجحاً في القراءة، وتخلف أثراً في التعرف إلى الأحرف والكلمات.
والصلة بين الحركة والدماغ تدرس في مجال يسمى «الإدراك المتجسد»: لا فكرة من غير إخراجها الجسدي. فالحركات تساهم في نظم تمثلاتنا الفكرية والدماغية مساهمةً كبيرةً. وهذه حال الكتابة اليدوية التي تساهم في تشكيل بنى الإدراك. ولكن التكنولوجيات الحديثة والجديدة تميل إلى تقليص الدور الجسدي أو الحسي وتزيد طابع الأنشطة المجرد. وذروة هذا التطور هو التفاعل بين الدماغ والآلة: فتسجل (الآلة) النشاط الكهربائي الدماغي حين يحرك المرء مؤشر الاختيار على شاشة الكمبيوتر وينقر «زر» الأمر أو يحرك يد الروبوت. فالفكر في هذه العملية يحرك الشيء من غير واسطة الحركة الفيزيائية. وهذا التطور بالغ الأهمية وترتجى منه فائدة كبيرة في أوساط الذين يعانون من شلل حركي أو إعاقة حركية. ولكن، حين استخدامها في المجتمع الأوسع على نطاق واسع، قد تخلّف آثاراً سلبية تترتب على إلغاء حركة الجسد في تنفيذ المهمات.
جريدة الحياة
بتوقيت بيروت