ذات صباح في بداية العام الدراسّي، استهلت معلّمة اللغّة العربيّة الحصّة بإبلاغنا عن قدوم شخصيّة مهمّة لتحدثنا بمشروع مهم. وإذ بأستاذ التربية الرياضيّة يدخل صفنا السادس الأساسيّ، آخذاً الكلام من معلمة اللغة العربيّة. كدت لا أتعرّف عليه، فقد دخل مرتدياً بدلةً رسميّة، في يده حقيبة سوداء وفي اليد الأخرى ملفات كثيرة، وقد غابت كرة السلة والصفّارة.
ألقى التحيّة على المعلمة وعلينا، ووضع حقيبته على الطاولة ثم راح يبحث عن بعض الأوراق. عندما وجدها، رتبها قليلاً ثم توجّه بنظرة إلينا قائلاً:
- اسمي ''سميح عرداتي''، عضو مجلس إدارة متحف ''اللوفر'' بباريس.
من ؟! هذا الأستاذ رفيق، أستاذ الرياضة! من هو ''سميح عرداتي'' هذا، وما علاقة أستاذ الرياضة بباريس، وما هو متحف ''اللوفر'' هذا؟!
لم أتجرّأ على السؤال، كما لم يجرؤ على السؤال أحد غيري. ألقيت نظرة سريعة على رفاقي، كان الجميع منصتاً ولم أستطع تحديد مشاعرهم. هل كان يدور في خاطرهم ما يدور في خاطري أم أنهم فهموا شيئاً لم أفهمه أنا!
قررت أن أغضّ النظر، وأتابع مع ذاك الأستاذ ''سميح عرداتي'' لعلّي أفهم شيئاً.
كان أوضح لنا الأستاذ ''سميح عرداتي'' أن وقته ضيّق جداً وعليه أن يتكلم باختصار. عرض علينا مباشرة بعض الصور لمتحف ''اللوفر'' مع بعض التعليقات.
- ''إنه متحف ضخم، لم أعرف بوجوده من قبل''
ثم عرض صوراً أخرى لقرية مهجورة،
ذاكراً أنها إحدى قرى لبنان الجبليّة محدداً اسمها وموقعها.
بعد ذلك، حدّثنا عن صفقة عقدت بين الدّولة اللبنانية ومتحف ''اللوفر'' في فرنسا.
تقضي هذه الصفقة بتنفيذ مشروع إنشاء متحف في تلك القرية اللبنانيّة بالتعاون مع
إدارة متحف ''اللوفر''.
وراح يشرح لنا بعض بنود هذه الصفقة: تشترط فيها الدولة اللبنانيّة أن يحوي فريق
العمل ضمن المشروع خبراء لبنانيين بنسبة ٧٠ ٪ من أصل الفريق الإجمالي، مقابل تقدمة
الأرض - هذه القرية- لإنشاء هذا المتحف. وغيرها من البنود الأخرى...
حينها توجّه إلينا: داعياً إيانا،
كخبراء في تنفيذ مشاريع مماثلة، للعمل ضمن مشروع إنشاء المتحف.
وشدّد على عدم ضرورة اتخاذ القرار النهائيّ قبل أن نرى بعض المستندات والخرائط
والوثائق والأفلام... التي يجدر بنا الاطّلاع عليها قبل قرار الالتزام بالعمل أو
رفضه.
كما أعلمنا أن فريقاً آخر، كان قد بدأ العمل ضمن الفترة التحضيريّة للمشروع، سوف يحضر إلى هنا لمساعدتنا وراح يسمّي أسماء الفريق: جوليات، ربى، باسم... ولم تكن تلك الأسماء سوى أسماء جميع أساتذة صفيّ.
قبل مغادرته أوضح لنا أن العمل ضمن
ذلك المشروع لن يمارس إلا عندما تُقلب لوحة كان قد علّقها فوق اللّوح في الصّف حيث
تتحول تلك اللّوحة مع قلبها من اللّون الأخضر إلى الأحمر.
خرج الأستاذ ''سميح العرداتي'' لتعود معلمة اللّغة العربيّة إلى تكملة شرح الدرس
كأن شيئاً لم يكن، مستفيضة في شرح أركان المقالة التفسيرية.
لن أدخل في تفاصيل ما حدث ذلك اليوم ضمن فترات الاستراحة والأحاديث التي دارت بين رفاقي وبيني في الملعب، خصوصاً عندما رأينا أستاذ ''رفيق'' مع كرة السلّة والصفّارة في الملعب كعادته ولم يتجرأ أحد منا على الاقتراب منه أو محادثته!.
بعد مرور حوالى أسبوع على تلك الحادثة، كان قد نسي الجميع ما قد حدث، أو ربما هذا ما هُيّء لي، لأن الكلام عنه قد هدأ وزالت التساؤلات والأحاديث عنه.
لكن أستاذ الجغرافيا وضمن حصّته، توجّه إلى اللّوح وقلب '' اللّوحة من خضراء إلى حمراء.
أخرج من حقيبته بعض الخرائط، ووضعها أمامنا.
تلك خرائط القرية المنشود استعمالها كأرض لتنفيذ مشروع المتحف.
- ''وما أدراه بمشروع المتحف ذاك، كيف عرف به؟!''
كانت خريطة لبنان ما زالت معلّقة على اللّوح، إذ كنّا نحاول منذ قليل تحديد بعض المناطق المشهورة عليها كصيدا وطرابلس وزحلة...
فجأة قسّمَنا إلى مجموعات وطلب منا تحديد موقع هذه القرية على الخريطة والمقارنة بين المقاييس المعتمدة بشتّى الخرائط ومقاييس خرائط تلك الضيعة، طالباً منّا تسجيل أسماء المناطق المجاورة لها.
بعدها طلب إجراء بحث صغير عن طبيعة هذه القرية، مناخها وتفاصيلها الجغرافية، مشيراً الى أن هذه المعلومات مهمّة، كمعطيات أساسيّة'' لدراسة موقع المشروع بميزاته وسيئاته.
هذه المعلومات ستجمع ضمن ملف خاص يرسله إلى إدارة متحف ''اللوفر'' في فرنسا، كخطوةٍ أولى نحو تحقيق المشروع.
أذكر يومها أننا عملنا بجدّ،ٍ وخلال يومين كانت جميع المعلومات المطلوبة متوافرة وجاهزة، منتظرين بفارغ الصبر حصّة الجغرافيا القادمة لتقديم الملف القيّم إلى أستاذ الجغرافيا، الوسيط بيننا وإدارة متحف ''اللوفر''.
وقبل أن تأتي حصة الجغرافيا حضرت
معلّمة اللّغة الفرنسيّة في بداية حصّتها وتوجهت مباشرة إلى اللّوحة وقلبتها إلى
الحمراء. ثم وزّعت علينا أوراقاً بعنوان عقد التزام
(Contrat
d'engagement
) باللّغة الفرنسيّة وطلبت منّا قراءة النص الموضوع بين أيدينا. كان علينا
أن نملأ أوَّل الصفحة ببعض المعلومات الشخصيّة، كالاسم والعمر، مع الملاحظة أنه
كان علينا اختيار اسماً مستعاراً وتحديد عمر يتراوح بين ال ٣٠ وال ٥٠ سنة وإيجاد
توقيع له إذا رغبنا بتوقيع العقد.
كان العقد يحوي بشكل موجز جميع بنود مشروع المتحف. واجهتنا في نص العقد بعض العبارات والكلمات الصعبة ولكن المعلّمة كانت جاهزة لمساعدتنا على فهم كل شيء.
بعد القراءة والتفسير والتحليل لبعض بنود العقد، طلبت المعلّمة منّا الاحتفاظ به وتسليمه متى أصبحنا متأكدين من قدرتنا على التزام العمل ضمن المشروع.
برّرت سبب كتابة العقد باللغة الفرنسية، بأن نسخة عنه سوف ترسل إلى فرنسا، وذلك لأسباب قانونية تتعلق بالتعاون مع متحف ''اللوفر''.
بعدها أعادت قلب اللوحة إلى خضراء، وكان تذكير بأنواع lلنصوص الأدبية، بداية مع ( le texte injonctif ) مكمّلة بذلك درس اللّغة الفرنسيّة.
استمّرت الحال على هذا المنوال طوال ثلاثة أشهر التزم خلالها جميع الطلاب بالمشروع.
فرسمنا الأشكال الهندسية من مكعّبات ومربّعات و... وحددنا بها على الخرائط مواقع وأشكال أقسام المتحف.
خلال هذه الشهور، كان الأستاذ ''سميح العرداتي'' يقوم من وقت إلى آخر ببعض الزيارات، ليطمئنّ على سير مجرى الأمور وكان في بعض الأحيان ينبّ هِنا على عواقب تأخّرنا بتقديم العمل أو ينبّهنا على بعض الإنجازات التي أحرزناها.
ما زلنا نعمل ضمن ذلك المشروع، حتى يومنا هذا.
فالمرحلة التحضيريّة أشرفت على نهايتها، ولكن منذ أسبوع أبلغنا السيد ''سميح عرداتي'' رسالة من ''اللوفر''، تفيدنا علماً أن ميزانيّة المشروع قد تقلصت بعض الشيء. علينا إجراء بعض التعديلات بما يخص الحسابات، لتوفيق ميزانيتها مع الأرقام المطروحة جديداً.
كما زودونا بشروط تأهيل المتحف ليتمكن من استقبال ذويّ الاحتياجات الخاصّة، وهذا الملف قيد البحث والدرس الآن.
وعلينا فيما بعد أن نحضّر لعملية استقبال التُحف الفنيّة والأثريّة المتوقّع عرضها ضمن المتحف في لبنان. و يتطلب ذلك إجراء الأبحاث، كتابة التقارير، توجيه كتب رسميّة، القيام بالحسابات المتوقّع إنفاقها...
''عباءة الخبير'' تقنية من إعداد المربية البريطانية ''دوروثي هيثكوك''.
تدعم هذه التقنية بشكل أساسي، التوجه القائل بتداخل المفاهيم جميعها ضمن مناهج الصف الواحد( Integration) تهدف هذه التّقنيّة: إلى التّحفيز على التّعلّم، إيجاد الصّلة بين المُتعلّمَ و المعيش لدى التلميذ، دمج المعرفة و الخبرة، تطوير النّموّ المهنيّ نموّاً شخصيّاً والثقة بالنّفس، توفير هيكليّة العمل الجماعيّ، تدريب مهارات التّفكير:التّفكير المبدع، النّقديّ، المجازيّ، الاستعاريّ... تطوير المرونة الثّقافيّة، تطوير المهارات الاتّصاليّة-التّواصليّة، الرّبط ما بين التّعلّم السّابق و - الحاليّ، مستوى النّموّ الممكن/أصبح الفعليّ (Zone of the proximal development-Vygotsky ) من دون أن ننسى الدّور الّذي ، تلعبه في توسيع آفاق التّعبير الشّفهيّ و الكتابيّ و غيرها من المهارات المطلوبة في العمليّة التّعليميّة...
وتجدر الإشارة إلى أن هذه التقنيّة
تزيل الخوف من الفشل أو الرسوب عن التلميذ الذي هو العائق الأساسيّ في
العمليّة التعليميّة التربويّة، وبهذا تكون قد فُتحت أمامه مجالات الاختبار
والمحاولات. فيتحوّل التلميذ من مرحلة تنفيذ القرارات إلى مرحلة اتخاذها والالتزام
بها.
دعونا لا ننسى أن الدراما تخلق عالماً قابلاً للتصديق لدى الأطفال، يتخذون فيه
أدواراً ويستدعون فيه خبراتهم ومصادرهم المعرفية.
هذا المثل الذي طرحته بلسان تلميذ في الصف السادسّ الأساسيّ، يجسّد جزءاً أو مقدّمة للتقنيّة كتُب عنها الكثير، وهي تدرَّس ضمن شهادة ماجستير ''الدراما في التعليم'' في الكثير من الجامعات الأنكلوفونيّة.
وأخيراً أختم ببعض الأسئلة التي أطرحها على نفسي كأستاذ يومياً.
المجـلة التـربوية/ العدد42-آذار2008
المـركز التـربوي للبحوث والإنمـاء
بتوقيت بيروت