الشيـخ أكــرم بــركــات*
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وعلى آله الطاهرين.
جذبة الإختيار في الإنسان هي جذبة الفطرة:
هل للكون إدراك؟ هل للسماء نطق؟ هل للأرض لغة؟ قرآن ربّنا يجيب نعم إنّ للسماء إدراكًا لكنّه غير إدراكنا، وأنّ لها نطقًا ولكنّه غير نطقنا، وإنّ للأرض لغَة لكنّها غير لغتنا، بلغة السماء والأرض خاطبها ربّها عارضًا عليها أن تنجذب إليه جذبة الإختيار فأبت وخافت (إنّا عرضنا الأمانة على السموات والأرض فأبين أن يحملنها وأشفقن منها) عرض الله تلك الجذبة الاختيارية التي تدخل في دائرة التكليف على الإنسان وحملها الإنسان (إنّه كان ظلومًا جهولًا) وأراد الله تعالى أن يرحم الإنسان لأنّه تحمل تلك الأمانة وتلك الجذبة بأن جعل في داخله جذبة إليه هي جذبة الفطرة التي من خلالها ينجذب كل إنسان إلى الله إلى الربّ الواحد.
إنّها الفطرة التي لا يختلف فيها إنسان عن إنسان لا في أي زمان ولا في أي مكان، وهي الفطرة التي لا تحتاج إلى تعليم معلّم وتدقيق مدقّق وتربية مرب، كحبّ الأم لطفلها وكحبّ الطفل لأمّه، هل هناك أم تعلم ابنتها كيف تحب أبنها أم أنّ ذلك من الفطرة المزروعة في كل أمّ؟ وهل يختلف الطفل في حبّ أمه بين بلد وبلد وزمان وزمان أم أنّ ذلك يعود إلى تلك الفطرة المغروسة في كل إنسان؟
فالطفل المفطور على الإنجذاب إلى أمّه قد تلهيه ألعابه، ولكن ما إن يلتمس غمرة حتى يتذكر أمّه فينطق بأول كلمة ينجذب إليها "ماما" وقد خرقت كل أستاره التي لهته عنها، وهكذا الإنسان قد فطره الله تعالى في ميثاق لا نعهده بعمقه، وعن ذلك يحدّثنا كتاب الله: (وإذ أخذ ربّك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم قالوا: بلى، أن تقولوا يوم القيامة إنّا كنّا عن هذا يوم القيامة غافلين) ما أحد منكم يقول يوم القيامة يا ربّ إنّي كنت غافلًا عن تلك الفطرة، ولكن الإنسان الذي زرعت في داخله وقلبه هذه الفطرة قد تحرفه البيئة أو الذنوب والآثام عن مساره وتجعل ستائر بينه وبين تلك الفطرة فينسى ربّه وينحرف عنه ولا يعرفه، وما إن يقترب من جمرة الموت حتى تنكشف تلك الأستار.
الأنّبياء دليل الإنسان إلى الله:
جاء أحدهم إلى الإمام الصادق (ع) يقول له: "دلّني على الله، فسأله الإمام: يا عبدالله هل ركبت سفينة قال: نعم قال: قد غرقت بحيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك، قال: نعم، قال: هل تعلق قلبك بشيء أحسست أنّه قادر على الإلتجاء حيث لا منجي، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث، قال: نعم، قال: إعلم أنّ ذلك الشيء هو الله".
إنّها الفطرة التي رحم الله بها الإنسان فكان الإنسان في الكون المجذوب إلى الله بجذبة التكوين ينجذب إليه على مدماك تلك الفطرة في بحر الكون المظلم ورحم الله الإنسان مرّة أخرى فأراد أن يعرّفه على طريق الوصول إلى شاطيء النّجاة فأرسل إليه خارطة طريق تدّله كيف يسير إلى تلك الشاطىء ويتجه إليه، فأرسل الله الأنبياء والرسل معهم الرسالات التي تمثل الدلائل والخرائط التي من خلالها يستطيع الإنسان أن ينجو ويصل إلى ذلك الشاطئ فأصبح الإنسان في ظلمة الكون ينجذب بقلبه ونفسه إلى ربّه ومعه دلائل، فالذي ينجو هو الذي يتقن فنون السباحة، ولكنّ الله من بين النّاس رحم فئة من النّاس خلقوا من طينة أحبّها الله وجعل فيهم جذبة خاصّة لأنّهم تعلقوا بسفينة فركبوها واهتدوا بمصباح يوصلهم إلى ذلك الشاطئ.
الحسين(ع) مصباح جاذب للكون:
هذه السفينة وهذا المصباح هما اللذّان قرأ النبّي عنوانهما حينما عرج إلى ربّه في رحلة الكمال، هناك حدّثنا رسولنا الأكرم، "نظرت إلى يمين العرش فوجدت مكتوبًا أنّ الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة" المصباح الذي جذب الكون إليه وجذب إليه الإنسان هو المصباح الذي كانت أمه فاطمة(ع) التي كانت تقول: "إنّي حينما كنت حاملًا بالحسين ما كنت في اللّيلة الظلماء أحتاج إلى مصباح" فالإمام الحسين(ع) هو المصباح الذي جذب إليه في العاشر من محرم الكون بشمسه وقمره وهوائه وأرضه وطيره وحيوانه.
الحسين(ع) مصباح جاذب للأنبيّاء والشهداء:
وهو المصباح الذي جذب إليه الأنبياء من آدم مرورًا بالأنبياء أولي العزم لا سيما محمدًا (ص) حينما كان صغيرًا كان يحمله في يده ويجر الحسن بيد أخرى ويقول للمسلمين: "ألا من أحب هذين وأباههما وأمهما كان معي في درجتي في الجنة" وكان يحبو بهما وهما يركبان على ظهره حبو الجمل ويقول: "نعم العدلان أنتما" وعندما كان يخطب(ص) وتعثر الحسين في مشيه فترك المنبر لكي يحضنه، وأطال السجود حينما امتطى الحسين (ع) ظهره وهو يصلي فأطال حتى ظّن المسلمون أنّ الوحي نزل عليه، لكي لا يزعج حسينًا، وهو الذي افتداه بولده إبراهيم.
إنه المصباح الذي جذب إليه عشّاقه في كربلاء الذين رسموا أبهى لوحة في تاريخ البشريّة، وهو من جذب إليه عابس حينما تقدم فخاف القوم من بطولته فألقى درعه ومشى بسيفه مجردًا قيل يا عابس هل جننت قال حبّ الحسين قد أجنّني، وهو من جذب إليه تلك الأم حينما استشهد زوجها فأرسلت ولدها فوجده الحسين صغيرًا فقال له: "إرجع يا بني"، قال: أمّي هي التي أرسلتني، عندها قالت له الأم: "أتثكل أمّك الزهراء بك ولا أثكل بولدي" .
إنّه المصباح جذب إليه ذلك الأبّ الذي أسر ولده، فقال له: "أنت في حلّ من بيعتي إذهب واعمل على فكاك أسر ولدك" فنزل إلى قدميه وهو يقول: "أكلتني السباع إن أنا فارقتك" وهو من جعل ذلك الطفل حينما يرى السيف هابطّا على الحسين يأتي نحوه ويضع يده فتنقطع مجذوبا بالحسين.
إنّه المصباح الذي جذب إليه العشاق الذين جاؤوا وجاؤوا لزيارته حتى أصبحت الزيارة معلمًا للعشق ومعلمًا للقضية وأراد الحاكم أن يلغي ذلك ففرض أن يقتل واحدًا من كل عشرة يزورون الحسين، حتى جاء أحدهم فقال له السيّاف مدّ يمينك فمد له يساره، فقال له: قلت لك مدّ يمينك، قال: لقد قطعت يميني في العام السابق.
أسرار الإنجذاب في الحسين (ع):
إنّه المصباح الذي جذبكم وجذب الملايين كل سنة إلى هذه المجالس، حتى أضحينا نقدم الحسين عزاء في أيام عزائنا، ما هو سر الحسين؟ ما هو هذا السر الذي جذب إليه مئات الملايين في العالم؟ لعل السّر في تلك الجذبة هو أنّ الحسين انجذب إلى الله جذبة تختلف عن جذبة أغلب الناس.
أ ـ معرفة الله:
فالناس في معرفتها لربها أنواع، قيل للإعرابي كيف عرفت ربّك قال: "البعرة تدل على البعير والآثار على المسير أسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج ألا يدّلان على اللطيف الخبير" وقيل لتلك الحائكة كيف عرفت ربك؟ قالت: "هذا المغزل إن حرّكته تحرّك وإن تركته توقف فكيف تتحرك الكواكب في السماء دون محرّك؟" قال أحدهم للإمام الصادق(ع) دلّني على الله كان غلام يلعب بالبيضة ناولني البيضة يا غلام فناوله الغلام البيضة نظر إلى البيضة قال له: "هذا حصن مكنون عليه جلد غليظ وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق وتحت الجلد الرقيق فضة ذائبة وذهبة مائعة فلا تختلط الفضّة الذائبة بالذهبة المائعة ولا تختلط الذهبة المائعة بالفضّة الذائبة تنفلق عن مثل ألوان الطواويس ألا لها مدبرًا" قال: "أشهد أن لا إله إلّا الله".
ولكن الإمام الحسين كان يرفض أن تكون معرفته تقتصر على دلالة الأثر على المؤثر، أو أن تدل الحركة على المحرّك أو أن تدل البيضة وأمثالها على الخالق. لأنّ الحسين كان يرى الله هو أظهر من كل ذلك، كان يراه قبل كل ذلك وبرؤية تختلف عن رؤية الكثير منّا حالنا كحال السمكة التي تعيش في الماء ـ وهي لا تعلم أنّها تعيش فيه ـ سمعت يومًا أنّ الماء هو إكسير الحياة فإذا بها تبحث عن الماء ولا تجده وهي تتعجب من ذلك وبقيت كذلك حتى قذفها الموج على شاطىء البحر، هناك علمت أن الماء هو إكسير الحياة.
إنّ الكثير منّا لشّدة ظهور الله لا يعرف ربّه إلا من خلال الأثر، والحسين في عرفة كان يقول: "متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك عميت عين لا تراك عليها رقيبًا".
كان الحسين قد انجذب إلى الكمال المطلق لينجذب إليه الكون ولينجذب إليه الناس. من هنا نرى كيف كان الحسين(ع) في انجذابه إلى الله يدعو وهو في آخر لحظات حياته "اللّهم متعال المكان عظيم الجبروت شديد المحال" .
ب ـ قافلة الوجود والسعي إلى الكمال المطلق:
ولكن هناك سرّ أخر هو سر يتعلق بقافلة الوجود في قافلة البشرية بقافلة الأنبياء التي نؤمن بأن الله سبحانه وتعالى لا بد أن يجريها نحو كمالها، لأنّ الله تعالى هو الكمال المطلق وخلق الكمال لأجل الكمال، "كنت كنزًا مخفيًا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لكي أعرف" . خلق الله الخلق لكي يقتربوا من كمال الله وليتوصلوا إلى كمالهم اللّائق بهم والإنسان في عروجه نحو الله يصل إلى كمال لا يبلغه الآخرون حتى جبرائيل، ففي معراج النبيّ(ص) الذي يدّل على كماله وقف وقال للنبي لو تقدت أنملة لاحترقت توقف جبرائيل وتقدم محمد (ص) إنّه كمال فردي ولكن ألا يوجد كمال لقافلة الإنسانية وللمجتمع الانساني الذي لا بدّ أن ينتهي في ذروة إجتماعية؟ هل يمكن للمجتمع أن ينتهي بتسافل مع أنّ كل أفراد الكون تسير بكمال إلى الله تعالى حتى الجمادات والشمس تجري لمستقر لها؟
وهنا نعرف سرّ أولي العزم في كمال يشكّل فيه الحسين(ع) محطّة أساسيّة، لأنّ الله تعالى حينما أخبرنا عن نبذة من الأنبياء لهم خصوصية، ولعل خصوصيتهم في المحطّات إضافة إلى الكمالات الفردية، وذلك عبر محطات:
في المحطة الأولى: تحدث عن نوح كواحد من أولي العزم في مجرى الكمالات، لأنّه أبو البشرية وقد أراد الله سبحانه وتعالى منه أن يوصل المجتمع الانساني إلى الإيمان فرفض أن يصعد السفينة إلا من تحقق فيه الإيمان حتى ولده (إنّي سآوي إلى جبل يعصمني من الماء) (إنّه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح) لا يصعد السفينة إلّا مجتمع الإيمان واستطاع نوح بفضل الله تعالى أن يصنع مجتمع الإيمان.
وجاءت المحطة الثانيّة بأن ينقذ الله تعالى البشريّة ومجتمعها وينقلها إلى محطة التوحيد مع النبي ابراهيهم(ع) فأخذ ينقل النّاس من الأرض إلى السماء ويربطهم بالله الواحد (هذا ربّي فلمّا أتى قال إنّي لا أحبّ الآفلين)، واستطاع أن يصنع مجتمع التوحيد.
وبعدها كانت المحطّة الثالثة مع النبّي موسى(ع) الذي أراد الله تعالى منه أن يصنع مجتمع الشريعة مجتمع التشريع، لذلك طلب من فرعون أن يأخذ معه بني إسرائيل لأنّ رسالته كانت لبني إسرائيل الذين كانوا قد وصلوا إلى مجتمع التوحيد، وصنع موسى مجتمع الشريعة.
وكانت المحطة الرابعة مع النبّي عيسى(ع) حيث كانت محطة التكامل الإجتماعي هي تطبيق التشريع في هذا المجتمع الإنساني وهذا يعني الحكومة وكادت أن تكون مع نبي الله (ع) ولكن اليهود وقفوا عقبة في وجه مسيرة الحكومة، وبما أن محطته هي محطة حكومة فرفعه الله إليه ولم يمته كموت الأنبياء السابقين، لأنّ دوره هو في الحكومة ليكون بعد ذلك شريك الحاكم في تلك الحكومة.
وجاءت الحكومة في المحطة الخامسة مع سيّد الأنبياء محمد(ص) ليصوّر القرآن الكريم بأن محطته هي المحطة الأتّم هي محطة الحكومة الإلهية (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدّين كلّه ولو كره المشركون) وقف اليهود في وجه النبي، ولكنّه (ص) أخبر بكل اطمئنان بأنّ الحكومة الإلهية ستقوم حتى ولو لم تكن في حياة شخصه(ص) ولكنّها ستكون محمدّية فلو لم يبق في الدنيا إلّا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم لأنّه لا بدّ للبشريّة أن تصل إلى ذروة كمالها لأنّها إذا لم تصل إلى الذروة لن يكون هناك تكامل إجتماعي وهو الذي تقتضيه الحكمة الإلهيّة ليخرج "ولد من ولدي إسمه إسمي حتى يملأ الأرض قسطًا وعدلًا بعدما ملئت ظلمًا وجورًا".
والمسألة تتعلق بمسيرة متكاملة خطّط الله تعالى أن تسير قافلة الحسين(ع) باختيارها في سنة الواحد والستين حيث رأى الإمام الحسين (ع) أنّ قافلة الوجود تنحرف عن مسارها بما ينقض الهدف الإلهي والغاية الربّانية. من هنا أعلن الإمام الحسين (ع) الخطر "ألا أنّ السّنة قد أميتت وأنّ البدعة قد أحيت هؤلاء حرّموا حلال الله وحلّلوا حرامه وعلى الإسلام السلام إذ بليت الأمة براع كيزيد" .
من هنا كان الإنجذاب في ليلة العاشر من المحرم في مثل هذه اللّيلة حيث جمع الحسين(ع) إصحابه وحدّثهم بأنّه سيأتي شخص ليثأر للحسين ليس كشخص بل ثأر للذين قضوا كعشّاق وشهداء وإنّما هو ثار الله الذي يمثل القضيّة الإلهية، وحدّثهم بأنّ الله سيكافئهم وسيريهم تلك الحكومة وأنّه سيطلعهم عليها وهم الذين قدّموا فيها التضحيات وهم منجذبون إلى الله تعالى على ظن يصدق عليهم ما كان يعبّر عنه أمير المؤمنين(ع) "مصارع عشّاق شهداء لا يسبقهم أحدٌ قبلهم ولا يلحق بهم أحدٌ بعدهم" لأنّهم ساروا بوعي وبصيرة في مسار قافلة الوجود فانجذبوا إلى الله جذبة الحسين إليه فكان نداؤهم وهم ينادون ربّهم "اللّهم متعال المكان عظيم الجبروت شديد المحال".
السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين والسلام عليكم جميعًا ورحمة الله وبركاته.
* محاضرة ألقيت في اللّيلة العاشرة من عاشوراء 1433 هـ في قاعة الجنان(بتصرف)
بتوقيت بيروت