لو دقّقنا النظر في حادثة عاشوراء، لعلّه يمكن القول: إنّ الإنسان يستطيع أن يعدّ أكثر من مائة درس مهمّ في هذا التحرّك الّذي قام به الإمام أبو عبد الله عليه السلام في بضعة أشهر، من اليوم الّذي خرج فيه من المدينة نحو مكّة وإلى اليوم الّذي شرب فيه كأس الشهادة العذب في كربلاء. ويمكن القول آلاف الدروس، حيث تُعتبر كلّ إشارة من ذلك الإمام العظيم درساً. لكن عندما نقول أكثر من مائة درس، نعني بذلك أنّه لو أردنا أن ندقّق في هذه الأعمال لأمكننا استقصاء مائة عنوان وفصل، وكلّ فصل يُعتبر درساً لأمّة وتاريخ وبلد ولتربية النفس وإدارة المجتمع وللتقرّب إلى الله. هكذا هو الحسين بن عليّ (أرواحنا فداه وفداء اسمه وذكره) كالشمس الساطعة بين القدّيسين، أي إن كان الأنبياء والأئمّة والشهداء والصالحين كالأقمار والأنجم، فالحسين عليه السلام كالشمس الطالعة بينهم، كلّ ذلك لأجل هذه الأمور.
وإلى جانب المائة درس، هناك درس رئيس في هذا التحرّك والنهضة الّتي قام بها الإمام الحسين عليه السلام ، سأسعى لتوضيحه لكم، وتكون كلّ تلك الدروس بمنزلة الهوامش أمام هذا الّذي هو بمنزلة النصّ الأصليّ، وهو هذا هو الدرس، لماذا ثرت يا حسين رغم كونك شخصية لها احترامها في المدينة ومكّة، ولك شيعتك في اليمن؟ اذهب إلى مكان لا شأن لك فيه بيزيد ولا ليزيد شأنٌ بك، تعيش وتعبد الله وتبلّغ. هذا هو السؤال والدرس الرئيس، ولا نقول إنّ أحداً لم يشر إلى هذا الأمر من قبل، فقد حقّقوا وتحدّثوا كثيراً في هذه القضية. وللإنصاف، ما نودّ قوله اليوم وهو برأينا استنتاج جامع ورؤية جديدة للقضية هو أنّ بعض الناس يودّ أن يقول: إنّ هدف ثورة أبي عبد الله الحسين عليه السلام هو إسقاط حكومة يزيد الفاسدة وإقامة حكومة بديلة. هذا القول شبه صحيح وليس بخطأ، لأنّه لو كان القصد من هذا الكلام هو أنّ الحسين عليه السلام ثار لأجل إقامة حكومة بحيث إنّه لو رأى أنّه لن يصل إلى نتيجة لقال لقد قمنا بما علينا فلنرجع، وهذا خطأٌ. فلو كان الهدف إقامة الحكومة فإنّه يجوز للإنسان أن يمضي قدماً ما دام هناك إمكانية. ولهذا عليه أن يرجع مع فقدانها. فلو قال قائل: إن هدف الإمام من هذه الثورة هو إقامة الحكومة العلويّة الحقّة، فهذا غير صحيح، لأنّ مجموع التحرّك لا يدلّ على ذلك.
وبعضٌ على العكس من ذلك، قالوا: ما الحكومة؟ إنّ الحسين عليه السلام كان
يعلم بعدم تمكّنه من إقامة الحكومة، إنّه جاء لأجل أن يُقتل ويستشهد. لقد شاع هذا
الكلام على الألسن كثيراً لمدّة من الزمن، وكان بعضٌ يبيّن ذلك بعبارات شاعرية
جميلة، حتّى أنّني رأيت بعض علمائنا الأجلّاء قد قالوا ذلك أيضاً.
فالقول إنّ الإمام عليه السلام ثار لأجل أن يستشهد، لأنّه رأى أنّه لا يمكنه عمل شيء
بالبقاء، فقال: يجب أن أعمل شيئاً بالشهادة، لم يكن كلاماً جديداً. وبالنسبة لهذا
الكلام أيضاً، ليس لدينا في المصادر والأسانيد الإسلاميّة ما يجوّز للإنسان إلقاء
نفسه في القتل، ليس لدينا مثل هذا الشيء. إنّ الشهادة، الّتي نعرفها في الشرع
المقدّس والآيات والروايات، معناها أن يتحرّك الإنسان ويستقبل الموت لأجل هدف
مقدّس واجب أو راجح. هذه هي الشهادة الإسلامية الصحيحة. أمّا أن يتحرّك الإنسان
لأجل أن يُقتل، أو بحسب التعبير الشاعريّ أن يجعل دمه وسيلةً لزلل الظالم وإيقاعه
أرضاً، فمثل هذه الأمور لا علاقة لها بواقعةٍ بتلك العظمة. إذاً هذا الأمر وإن كان
فيه جانب من الحقيقة لكن لم يكن هدف الحسين عليه السلام .
وباختصار لا يمكننا القول إنّ الحسين عليه السلام ثار لأجل إقامة الحكومة، ولا القول: إنّه ثار لأجل أن يستشهد، بل يوجد شيءٌ آخر في البين. أتصوّر أنّ القائلين إنّ الهدف هو الحكومة أو الهدف هو الشهادة قد خلطوا بين الهدف والنتيجة. فقد كان للإمام الحسين عليه السلام هدف آخر، والوصول إليه يتطلّب طريقاً وحركة تنتهي بإحدى النتيجتين: الحكومة أو الشهادة، وكان الإمام مستعدّاً لكلتا النتيجتين، فقد أعدّ مقدّمات الحكم وكذا مقدّمات الشهادة، ووطّن نفسه على هذا وذاك، فإذا تحقّق أيّ منهما، كان صحيحاً، لكن لم يكن أيّ منهما هدفاً، بل كانا نتيجتين، وأمّا الهدف فهو شيءٌ آخر.
بشكل مختصر لو أردنا بيان هدف الإمام الحسين، ينبغي أن نقول التالي: إنّ هدف ذلك العظيم كان عبارة عن أداء واجب عظيم من واجبات الدين لم يؤدّه أحد قبله، لا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ولا أمير المؤمنين عليه السلام ولا الإمام الحسن المجتبى عليه السلام ، واجب يحتلّ مكاناً هامّاً في البناء العام للنظام الفكريّ والقيميّ والعمليّ للإسلام. ورغم أنّ هذا الواجب مهمُّ وأساس، فلماذا لم يؤدَّ حتّى عهد الإمام الحسين عليه السلام ؟ كان يجب على الإمام الحسين عليه السلام القيام بهذا الواجب ليكون درساً على مرّ التاريخ، مثلما أنّ تأسيس النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم للحكومة الإسلامية أصبح درساً على مرّ تاريخ الإسلام، ومثلما أصبح جهاد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في سبيل الله درساً على مرّ تاريخ المسلمين وتاريخ البشرية إلى الأبد. كان ينبغي أن يؤدّي الإمام الحسين عليه السلام هذا الواجب ليصبح درساً عملياً للمسلمين وعلى مرّ التاريخ.
وأمّا أنّ الإمام الحسين عليه السلام هو الّذي قام بهذا الواجب فلأنّ أرضيّة هذا العمل قد مُهّدت في زمن الإمام الحسين عليه السلام ، فلو لم تُمهّد هذه الأرضية في زمن الإمام الحسين عليه السلام ، كأن مُهّدت - وعلى سبيل المثال - في زمن الإمام علي الهادي عليه السلام لقام الإمام علي الهادي عليه السلام بهذا الواجب، ولصار هو ذبيح الإسلام العظيم؛ ولو صادف أن حدث ذلك في زمن الإمام الحسن المجتبى عليه السلام أو في زمن الإمام الصادق عليه السلام لكان على أحدهما أن يعمل به. لكن لم يحدث ذلك في زمن الأئمّة حتّى عصر الغيبة إلّا في عصر الإمام الحسين عليه السلام . إذاً كان الهدف أداء هذا الواجب، وعندها تكون نتيجة أداء الواجب أحد الأمرين، إمّا الوصول إلى الحكم والسلطة والإمام الحسين عليه السلام مستعدّ لذلك، ليعود المجتمع كما كان عليه في عصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام ، وإمّا الوصول إلى الشهادة وهو عليه السلام مستعدّ لها أيضاً. فإنّ الله قد خلق الحسين والأئمّة بحيث يتحمّلون مثل هذه الشهادة لمثل هذا الأمر، وقد تحمّل الإمام الحسين عليه السلام ذلك.
إنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم - وكذا أيّ نبيّ - عندما بُعث، أتى بمجموعة من الأحكام، بعضها فرديّ من أجل إصلاح الفرد، وبعضها اجتماعيّ من أجل بناء المجتمعات البشرية وإدارة الحياة البشرية. هذه المجموعة من الأحكام يقال لها النظام الإسلاميّ. لقد نزل الإسلام على القلب المقدّس للنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، وجاء بالصلاة والصوم والزكاة والانفاقات والحجّ والأحكام الأسرية والعلاقات الفردية، ثمّ جاء بالجهاد في سبيل الله وإقامة الحكومة والاقتصاد الإسلاميّ، وعلاقة الحاكم بالرعيّة ووظائف الرعيّة تجاه الحكومة. هذه المجموعة من الأحكام عرضها الإسلام على البشر، وبيّنها النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم : "يا أيّها الناس والله ما من شيء يقرّبكم إلى الجنّة ويباعدكم من النار إلّا وقد أمرتكم به"1. ولم يبيّن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كلّ ما يسعد الإنسان والمجتمع الإنساني فحسب، بل طبّقه وعمل به.
فقد أقام الحكومة الإسلامية والمجتمع الإسلاميّ، وطبّق الاقتصاد الإسلاميّ، وأقيم الجهاد واستُحصلت الزكاة، فشيّد نظاماً إسلامياً وأصبح النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، وخليفته من بعده، مهندس النظام وقائد هذا القطار في هذا الخطّ. كان الطريق واضحاً وبيّناً، فوجب على الفرد وعلى المجتمع الإسلاميّ أن يسير في هذا الطريق وعلى هذا النهج، فإن كان كذلك بلغ الناس الكمال، وأصبحوا صالحين كالملائكة، ولزال الظلم والشرّ والفساد والفرقة والفقر والجهل من بين الناس، ووصلوا إلى السعادة الكاملة ليصبحوا عباد الله الكمّل. لقد جاء الإسلام بهذا النظام بواسطة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وطُبّق في مجتمع ذلك اليوم، فأين حدث ذلك؟ في بقعةٍ تُسمّى المدينة واتّسع بعد ذلك ليشمل مكّة وما حولها. وهنا يطرح سؤال وهو: ما هو التكليف لو أنّه جاءت يدٌ أو حادثة وأخرجت هذا القطار الّذي وضعه النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه السكّة؟ ما هو التكليف لو انحرف المجتمع الإسلاميّ وبلغ الانحراف درجة بحيث خيف من انحراف أصل الإسلام والمبادئ الإسلامية؟
لدينا نوعان من الانحراف. فتارةً يفسد الناس، وهذا ما يقع كثيراً، لكن تبقى أحكام الإسلام سليمة، وتارة ينحرف الناس ويفسد الحكّام والعلماء ومبلّغو الدين - ففي الأساس لا يصدر الدين الصحيح عن قومٍ فاسدين - فيحرّفون القرآن والحقائق، وتبدّل الحسنات سيئات والسيئات حسنات، ويصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً، ويحرّف الإسلام 180 درجة عن الاتّجاه الّذي رُسم له. فما هو التكليف لو ابتُلي النظام والمجتمع الإسلاميّ بمثل هذا الأمر؟ لقد بيّن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وحدّد القرآن التكليف﴿مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾2، إضافة إلى آيات وروايات كثيرة أخرى. وأنقل منها هذه الرواية عن الإمام الحسين. لقد ذكر الإمام الحسين عليه السلام هذه الرواية النبويّة للناس، وكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد حدّث بها، لكن هل كان النبيّ ليقدر على العمل بهذا الحكم الإلهيّ؟ كلّا، لأنّ هذا الحكم الإسلاميّ يُطبّق في عصر ينحرف فيه المجتمع الإسلاميّ ويبلغ حدّاً يُخاف فيه من ضياع أصل الإسلام. والمجتمع الإسلاميّ لم ينحرف في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم ينحرف في عهد أمير المؤمنين عليه السلام بتلك الصورة، وكذا في عهد الإمام الحسن عليه السلام عندما كان معاوية على رأس السلطة، وإن ظهر الكثير من علائم ذلك الانحراف، لكنّه لم يبلغ الحدّ الّذي يُخاف فيه على أصل الإسلام. نعم، يمكن أن يُقال إنّه بلغ الحدّ في برهة من الزمن، لكن في تلك الفترة لم تُتح الفرصة ولم يكن الوقت مناسباً للقيام بهذا الأمر. إنّ هذا الحكم الّذي يُعتبر من الأحكام الإسلامية لا يقلّ أهميّة عن الحكومة ذاتها، لأنّ الحكومة تعني إدارة المجتمع. فلو خرج المجتمع بالتدريج عن مساره وخرُب وفسد، وتبدّل حكم الله، ولم يوجد عندنا حكم وجوب تغيير الوضع وتجديد الحياة أو بتعبير اليوم (الثورة)، فما الفائدة من الحكومة عندها؟ فالحكم الّذي يرتبط بإرجاع المجتمع المنحرف إلى الخطّ الصحيح لا يقلّ أهميّة عن الحكومة ذاتها، ويمكن أن يُقال إنّه أكثر أهميّة من جهاد الكفّار ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر العاديين في المجتمع الإسلاميّ، بل وحتّى من العبادات الإلهيّة العظيمة كالحجّ. لماذا؟ لأنّ هذا الحكم - في الحقيقة - يضمن إحياء الإسلام بعد أن أشرف على الموت أو مات وانتهى.
من كتاب انسان بعمر 250 عاما، السيد الخامنائي حفظه الله
1-
الكافي، ج2، ص74.
2- سورة المائدة، الآية: 54.
بتوقيت بيروت