التشيّع في بلاد الشام
يعود الوجود الشيعيّ في بلاد الشام إلى ما قبل القرن العاشر الميلاديّ، حيث يستفاد من مجموعة من الأدلّة والقرائن التاريخية وجود الشيعة في هذه البلاد منذ القدم، فيذكر المؤرّخون أنّ ناصر خسرو - الرّحّالة الإيرانيّ - قد مرّ حدود القرن العاشر الميلادي في هذه البلاد، فذكر أنّ سكّانها من الشيعة. وفي سنة 1184م بدأ الرحّالة إبن جبير رحلته التي وصل بها إلى دمشق، وذكر أنّ الشيعة في هذه البلاد عظيمو الشأن، قد نشروا عقيدتهم في كلّ مكان. هذا ويذكر المؤرِّخون أنّ قسماً من شيعة الشام كان يعبِّر بوضوح عن معارضة سياسية للحكّام العباسيين في بغداد.
أمّا في أوائل العصور الوسطى1 فكان سكّان لبنان من الشيعة، ما خلا بعض الجيوب المسيحية في الأودية الشمالية. وكانت حلب مركزاً للعلوم الشيعية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلاديين، رغم أنّ عدد الشيعة حينها كان في تناقص نتيجة السياسة التي اتّبعتها دولة المماليك - التي قامت على أنقاض الدولة الأيوبية - في محاربة الشيعة حيث اعتبروهم من الفرق الخارجة على الإسلام بناءً لفتوى ابن تيمية، فكانت مذابح كسروان التي سُمّيت "بالفتوح"2. ما أدّى - بعد هذه المذابح المروّعة - إلى أن يلتجىء من نجا من الشيعة إلى منطقتي بعلبك وجزّين، وبعدها أخذ الموارنة يتكاثرون في المنطقة التي أضحت شبه خالية من سكّانها (الشيعة).
ومع هذا فإنّ الجيوب الشيعية القليلة في بلاد الشام، أثناء الحكم العثمانيّ، احتَوت أسراً كبيرة من الأشراف، واستمرّت إلى يومنا هذا. إلا أنّه في المقابل انقطع التقليد القائم على التعليم الدينيّ الشيعيّ، وانقطعت سلالات العلماء، في معظم تلك المناطق.
تسمية جبل عامل
جبل عامل أو جبل الجليل أو جبل الخليل أو بلاد بشارة، تلك هي الأسماء المتعدّدة التي عُرف بها قديماً جبل عامل.
يجمع عدد كبير من المؤرّخين أنّ هذه التسمية أتت نسبةً لقبيلة عاملة بن سبأ اليمنيّة، هذه القبيلة التي هاجرت من اليمن إلى أطراف الشام بعد حادثة سيل العرم وانهيار سدّ مأرب.
وذكر المؤرّخون أيضاً أنّ عاملة هاجرت إلى بلاد الشام، وإلى الهضاب الواطئة المتصلة بشاطئ البحر المتوسّط في أواخر القرن الرابع... ويظهر من المصادر والدراسات التاريخية أنّ قبيلة عاملة حتى زمن متأخِّر لم تُلحق منطقة معنية باسمها، ولهذا كانت صفة عاملي في ذلك الوقت تعني القبيلة وليس المنطقة ولكنّه من سكان تلك المنطقة أعني بيسان في فلسطين، أو من سكان حمص أو من سكان هذه الجبال الواطئة الممتدة من تخوم وادي التيم إلى سواحل البحار...
كما عُرفت هذه المنطقة ببلاد بشارة نسبة إلى أحد الزعماء الذي تعدّدت الآراء حول نسبه، وذكر بعض المؤرّخين أنّه الأمير بشر بن معن، وقال آخرون إنّه بشارة بن مقبل القحطاني، لكنّ المشهور والأقرب إلى الصحّة أنّه الأمير حسام الدين بشارة بن أسد الدين بن مهلهل بن سليمان بن أحمد بن سلامة العاملي3.
وقد عرف هذا الجبل ببلاد (المتاولة)، لكون معظم سكّانه من (المتاولة) حسب التسمية المعروفة في لبنان، أي الشيعة4 وهذا اللقب وهذه اللفظة هي جمع لكلمة متوالي، مشتقّ على غير قياس من تولّى، أي اتخذ وليّاً ومتبوعاً، من ولائهم لأهل البيت النبوي الطاهر عليه السلام الذي هو الركن في مذهب الشيعة، أو مشتقّ على القياس من توالى، أي تتابع، من تتابعهم واسترسالهم خلفاً عن سلف في موالاة آل البيت عليهم السلام5.
تاريخ الشيعة في جبل عامل
يتّفق
المؤرّخون على انتساب العامليين إلى قبيلة عاملة بن سبأ، يقول آل صفا:
"وسكّانه (جبل عامل) عرب خلّص بنسبهم، ولغتهم
وعاداتهم متحدّرون من عاملة بن سبأ بن يشجب بن قحطان، وهي قبيلة هاجرت من اليمن
إلى أطراف الشام قبل الميلاد بثلاثمئة سنة على وجه التقريب بعد حادثة سيل العرم،
وانهيار سد مأرب وضياع مملكة سبأ المعروفة في التاريخ"6.
وعن عروبة سكّان جبل عامل يقول السيد محسن الأمين: "عريقون في العروبة، ولهم من العادات ما يكفي لتوضيح نسبهم العربي، وأمّا لغتهم فهي العربية، وألفاظها أقرب إلى الفصحى من كلّ لفظ"7.
وكانوا من معتنقي الدين الإسلاميّ بعد الفتح الإسلاميّ لبلاد الشام، وتمازجوا مع غيرهم من الوافدين، من عرب وعجم. ويذكر المؤرّخون أنّ ولاء شيعة جبل عامل للإمام عليّ عليه السلام قديم، ويعود ذلك - حسبما يذكره العلماء - إلى الفترة التي نزل فيها الصحابيّ الجليل أبو ذرّ الغفاريّ في بلاد الشام. فمنذ ذلك الزمان بدأت بذرة الموالاة لعليّ عليه السلام في تلك البلاد وما زالت حتّى يومنا هذا.
وقد أشار السيد محسن الأمين إلى هذه الرابطة الوثيقة لعاملة مع الصحابي أبي ذر الغفاري، الذي نفاه معاوية إلى جبل عامل، ولا يزال هناك مسجدان يعرفان باسمه، الأوّل في ميس الجبل، والثاني في بلدة الصرفند8.
قد مرّ في طرفه ناصر خسرو - الرّحالة الفارسي المعروف - سنة 437 هجري (1020)م. فقال عن صور: "إنّ أكثر أهلها شيعة إمامية، ومن بلدانه تبنين وهونين وقدس والشقيف، وأكبر مدنه صيدا ثمّ صور، وأكبر قراه النبطية وبنت جبيل والخيام"9.
وقد عاش أبو
ذرّ في الشام مدّة طويلة، ربّما نافت على العشر أو الأربع عشرة سنة، استطاع خلالها
نشر مذهب الحق في الموالاة لعليّ عليه السلام وأهل بيته عليهم السلام.
واستمرّ المذهب الإماميّ سائداً في جبل عامل، كما يظهر من العديد من
المسائل الشرعيّة التي كانت ترسل إلى مراجع الإماميّة. إذ إنّ هناك أكثر من تصنيف
يحمل اسم "جواب المسألة
الواردة من صيدا" أو "جوابات المسائل الصيداوية".
الأهميّة التاريخية
اكتسب جبل عامل أهمّيته التاريخية من خلال عدّة أمور، هي:
كان مهداً لدعوات الأنبياء.
قربه واتّصاله بفلسطين.
خروج العلماء العظام منه.
الأحداث الجسام التي حدثت على أراضيه.
سكّانه الأتقياء والأذكياء والأشدّاء في الحروب.
تقدّمهم في التشيّع والولاء لأهل بيت النبوة عليهم السلام.
ويضاف إلى ذلك ما روي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، حيث وُجد بخطّ الشهيد الأوّل كما ذكر الحرّ العامليّ في كتاب أمل الآمل، نقلاً عن ابن بابويه، عن الإمام الصادق عليه السلام عندما سُئِل كيف يكون حال الناس في حال قيام القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف وفي حال غيبته؟ ومَن أولياؤه وشيعته؟ ومن المصابون منهم، الممتثلون أمر أئمّتهم والمقتفون لأثارهم والآخذون بأقوالهم؟ قال عليه السلام: "بلدة الشام"، قيل: يا ابن رسول الله إنّ أعمال الشام متّسعة! قال: "بلدة بأعمال الشقيف أرنون"، وبيوت وربوع تُعرف بسواحل البحار وأوطئة الجبال، قيل: يا ابن رسول الله، هؤلاء شيعتكم؟ قال عليه السلام: "هؤلاء شيعتنا حقاً، وهم أنصارنا وإخواننا والمواسون لغريبنا والحافظون لسرّنا، والليّنة قلوبهم لنا، والقاسية قلوبهم على أعدائنا، وهم كسكّان السفينة في حال غيبتنا، تمحل البلاد دون بلادهم، ولا يصابون بالصواعق، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويعرفون حقوق الله، ويساوون بين إخوانهم، أولئك المرحومون، المغفور لحيّهم وميّتهم، وذكرهم وأنثاهم، ولأسودهم وأبيضهم، وحرّهم وعبدهم، وإنّ فيهم رجالاً ينتظرون، والله يحبّ المنتظرين"10.
كثرة قبور ومشاهد الأنبياء والأولياء والصالحين والعلماء المنتشرة في قراه
وهضابه منذ أمد طويل.
انتشار الشيعة في السواحل والجبال
كانت جبال لبنان الحصينة منذ زمن بعيد ملجأً للحركات المعارضة للسلطة، ولذا نجد بأنّ الجماعات الشيعيّة التي اضّطُهدت ولُوحِقت في مختلف العهود والأقطار، كان لديها سبب كافٍ للهجرة ناجية بنفسها إلى مكان غامر وحصين كجبال لبنان. ومن ذلك وجود الشيعة في جبال "الضنيّة" التي كانت تعرف قديماً بـ "جبال الظنين" في أعالي شماليّ "لبنان" التي يرى بعض المؤرّخين أنّها أخذت اسمها من فرقة شيعيّة عمّرتها في الماضي، وكذلك وجودهم التاريخيّ في الجبال المجاورة لمنطقة "زغرتا" حيث لا تزال أعقابهم حتّى اليوم.
كما أنّه لا شكّ في أنّ الشيعة كانوا منتشرين في السواحل اللبنانية، أو في ثلاثة من حواضرها على الأقلّ قبل قيام الدولة الفاطمية بزمن طويل (قامت: 358هـ/ 968م). وكان أهل طبريا والقدس وأكثر عمّان شيعة.
والحقّ أنّ التشيّع الذي ازدهر، وقارب أن يستكمل شخصيّته، في الساحل اللبناني خصوصاً في طرابلس، قد ضُرب على يد الصليبين دون سواهم، ومن عبث الزمان أنّ المماليك الذين دمّروا الإمارات الصليبية، التي قامت على أنقاض الشيعة، لم يكن لهم همّ بعد ذلك، إلا تجريد الحملات على المنطقة الوحيدة التي استعصت في تلك البقاع على الصليبيين، أعني بها جبال "كسروان"، فجرّوا عليها الحملة تلوَ الحملة، إلى أن دخلوها عام 1305م فخرّبوها، وقتلوا أهلها دون تمييز وقطعوا كرومها وبساتينها، وأحرقوا غاباتها، الأمر الذي أثار استنكار السلطان في مصر. نتيجة تلك التطورات السياسية جلا الشيعة عن شمال لبنان ساحلاً وجبلاً وعن كسروان، ولم يبقَ منهم إلّا الذين رابطوا في قراهم البعيدة. وظلّ جبل عامل والجبال التي تتاخمه شرقاً، جبل الشيعة الإمامية، وكذلك منطقة بعلبك والبقاع البعلبكي.
ومن حسن حظّ جبل عامل أنّ العمليات العسكرية أيّام الصليبيين كانت تجري على أطرافه وحافّاته. وهذا أمر يمكن تصوّره من توزيع القلاع والحصون التي أقيمت آنذاك، وكانت بمثابة مراكز حربية في بانياس وهونين وتبنين وشقيف أرنون. وبعد أن استعاد صلاح الدين قلعة هونين من أيدي الصليبيين في السنة 1188م، ولّى على المنطقة أميراً محلّياً، هو حسام الدين بشارة بن أسد الدين العامليّ. وكان من حسن أثره وجميل سيرته، أن حملت المنطقة اسمه، فصارت تُعرف بـ "بلاد بشارة" وظلّت سلالته في الحكم حتّى الفتح العثمانيّ، وكانوا شيعة. وقد أتاح النظام الإقطاعيّ المستقلّ إلى حدّ ما، لأهل جبل عامل أن يعيشوا في جبالهم مستقلّين استقلالاً مادّياً وثقافياً معاً.
الخصوصية الفكرية والسياسية
قامت في جبل عامل والمناطق المجاورة له من سهل البقاع مراكز علمية يمكن القول إنّها كانت مشروعاً سياسياً، أنجزته تلك المراكز العلمية، متمثّلة بالفقهاء، ثمّ حملوه مهاجرين، إلى الجوار العربيّ القريب والبعيد وإلى أقطار العالم الإسلاميّ البعيدة. وفي أعماق أسباب الهجرة تكمن الخصوصية الفكرية والسياسية معاً. ويمكننا أن نسمّي هذه الخصوصية بالمسألة الأولى.
أمّا المسألة الثانية: فهي الأرضيّة التي تفاعلت مع الأفكار أو المشروع الذي حمله المهاجرون معهم بكامل عناصره الثقافية والاجتماعية أيضاً.
أضف إلى ذلك امتياز سكّانه بالذكاء واعتدال القرائح، ولعلّ هذا ناشئ عن الأمر الأوّل لتأثير الإقليم في الطباع واعتدال الهواء في اعتدالها. ويشهد بذلك أنّه ما حلّ العامليون في قطر من الأقطار إلا و تعلّموا لغة أهله بأقرب وقت، وتكّلموا بلهجتهم بحيث لا يمتازون عنهم، ولا يظنّهم السامع غرباء، بل يخالهم من أهل تلك البلاد11.
وكَثُر من نبغ فيه من العلماء، فبعد بدايات الفتح الإسلامي بمدّة نبغ في العامليين الشعراء و العلماء والقادة والأمراء. فلقد نبغ فيه من القرن السادس الهجري أو قبله إلى اليوم علماء كبار في كلّ فنّ وعلم، هذا فضلاً عن الشعراء والأدباء والكتّاب...، وقد كثرت مؤلّفاتهم في كلّ فنّ، حتى أن أفران عكّا بقيت تشتعل منها ستة أيام في حادثة الجزار المشؤومة، ولم ينجُ منها إلا ما أخذه أهل فلسطين من نفائسها، وما حمله الهاربون إلى بلاد غير بلادهم. ولم ينقطع منه العلم من ذلك الحين إلى وقتنا هذا12.
وحسبك في فضل جبل عامل أن يجتمع في جنازة سبعين مجتهداً، (في عصر الشهيد الثاني) والعلماء هم ورثة الأنبياء. وحسبك في فضل جبل عامل أن يضع صاحب أمل الآمل كتابه في علماء جبل عامل، ويعترف بعدم الاستقصاء، وأن يقصده الطلّاب والعلماء من العراق وإيران وأن يبلغ عدد طلاب مدرسة المحقّق الميسي أربعمئة طالب13.
* كتاب منار الهدى، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- العصور
للوسطى: يطلق على الفترة الممتدة من القرن العاشر وحتى عام 1517 ميلادي.
2- سيأتي تفصيل ذلك في الدروس اللاحقة.
3- علي الزين: المرجع السابق، ص166.
4- احمد رضا: المتاولة و الشيعة في جبل عامل ،مجلة العرفان
المجلد الثاني ج2،ص241.
5- علي الزين: المرجع السابق، ص166.
6- محمد جابر آل صفا، تاريخ جبل عامل ، بيروت دار متن اللغة
(د.ت) ، ص25.
7- السيد محسن الأمين:خطط جبل عامل ص53.
8- بتصرّف: السيد محسن الأمين: خطط جبل عامل ص65و66.
9- السيد محسن الأمين: أعيان الشيعة ج1 ق2 ص240
.
10- أمل الآمل، ص 15 - 16.
11- خطط جبل عامل ص72.
12- خطط جبل عامل ص 73.
13- المرجع السابق ص 74.
جبل عاملكان و ما زال جبل عامل ذخيرة للعلم و و المقاومة معا و على مر التاريخ نلاحظ بان اهل جبل عامل مميزون دون سواهم بنصرة الحق و يرفضون الإذعان للظلم2015-01-21 18:28:06 |
بتوقيت بيروت