من دروس الإمام جعفر الصادق عليه السلام ثمانية تعلّمها منه أحد مواليه الذي سأله الإمام عليه السلام: أيّ شيء تعلمتَ منّي ؟ قال له: يا مولاي، ثماني مسائل، فقال له عليه السلام: قصَّها عليَّ لأعرفها، قال:
الأولى: رأيتُ كلَّ محبوب يفارق عند الموت حبيبه، فصرفت همّتي إلى ما لا يفارقني، بل يؤنسني في وحدتي، وهو فعل الخير.
* تطبيق من حياة الإمام الصادق عليه السلام:
مات أحد أولاده الصغار، وهو يمشي بين يديه، فلمّا أخرجه للدفن قال عليه السلام: "سبحان من يقتل أولادنا، ولا نزداد له إلا حبّاً"، فلمّا دفنه قال عليه السلام: "يا بنيّ، وسّع الله ضريحك، وجمع بينك وبين نبيّك صلى الله عليه وآله وسلم، إنّا قوم نسأل الله ما نحبّ فيمن نحبّ فيعطينا، فإذا أحبّ ما نكره فيمن نحبّ رضينا"1.
فقال عليه السلام: أحسنت والله، الثانية.
قال: رأيت قوماً يفخرون بالحسب، وآخرين بالمال والولد، وإذا ذلك لا فخر، ورأيت الفخر العظيم في قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾2، فاجتهدت أن أكون عنده كريماً.
* تطبيق من أحاديث الإمام الصادق عليه السلام:
عنه عليه
السلام: " ثلاث هن فخر المؤمن وزينه في الدنيا والآخرة: الصلاة في آخر
الليل، ويأسه مما في أيدي الناس، وولايته الإمام من آل محمد ( صلى الله عليه وآله
)"3.
قال عليه السلام: أحسنت والله، الثالثة.
قال: رأيت لهو الناس وطربهم، وسمعت قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى﴾4، فاجتهدت في صرف الهوى عن نفسي حتى استقرَّت على طاعة الله تعالى.
* تطبيق من حياة الإمام عليه السلام:
" عن مالك بن أنس: كنت آتي جعفر بن محمد عليه السلام، فكان كثير التبسّم، فإذا ذُكر عنده النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تغيّر لونه، و قد اختلفت إليه زمانا فما كنت أراه إلا على إحدى ثلاث خصال: إما مصليَّاً، وإمَّا صائماً، وإمَّا يقرأ القرآن"5.
قال عليه السلام: أحسنت والله، الرابعة.
قال: رأيت كل من وجد شيئاً يكرم عنده اجتهد في حفظه، وسمعت قوله سبحانه يقول: ﴿مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾6، فأحببت المضاعفة، ولم أرَ أحفظ مما يكون عنده، فكلَّما وجدت شيئاً يكرم عندي وجهت به إليه؛ ليكون لي ذخراً إلى وقت حاجتي إليه.
* تطبيق من حياة الإمام عليه السلام:
عن عبد الأعلى قال: "أكلت مع أبي عبد الله عليه السلام فدعا وأتى بدجاجة وبخبيص7، ثم قال: يا جارية، ائتينا بطعامنا المعروف، فجاءت بثريد خل وزيت"8.
قال: أحسنت والله، الخامسة.
قال: رأيت حسد الناس بعضهم للبعض في الرزق، وسمعت قوله تعالى: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾9، فما حسدت أحداً، ولا أسفت على ما فاتني.
* تطبيق من أحاديث الإمام عليه السلام:
عنه عليه
السلام "... إيّاكم أن يحسد بعضكم بعضاً، فإن الكفر أصله الحسد"10.
قال: أحسنت والله، السادسة.
قال: رأيت عداوة بعضهم لبعض في دار الدنيا والحزازات التي في صدورهم، وسمعت قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا﴾11 فاشتغلت بعداوة الشيطان عن عداوة غيره.
* تطبيق من حياة الإمام عليه السلام:
" كان الإمام الصادق عليه السلام يُرسل إلى من يعاديه الصدقات والصلاة من دون أن يعرِّفه بأنّه المرسل، وهو ذلك نقل لنا أحد أصحابه أنّ الإمام أرسل معه إلى أحدهم مالاً، فقال: من أين هذا جزاه الله خيراً؟ فما يزال كلّ حين يبعث بها، فيكون مما نعيش فيه إلى قابل، ولكن لا يصلني جعفر بدرهم في كثرة ماله"12.
قال: أحسنت والله، السابعة.
قال: رأيت كدح الناس واجتهادهم في طلب الرزق، وسمعت قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾13 فعلمت أنّ وعده وقوله صدق، فسكنت إلى وعده ورضيت بقوله، واشتغلت بما له عليّ عمّا لي عنده.
* تطبيق من حياة الإمام عليه السلام:
ورد عنه عليه
السلام: " كان بيني وبين رجل قسمة أرض، وكان الرجل صاحب نجوم، وكان يتوخّى
ساعة السعود، فيخرج فيها، وأخرج أنا في ساعة النحوس، فاقتسمنا فخرج لي خير
القسمين، فضرب الرجل يده اليمنى على اليسرى، ثم قال: ما رأيت كاليوم قط.
قلت:...وما ذاك ؟ قال: إنّي صاحب نجوم أخرجتك في ساعة النحوس، وخرجت أنا في ساعة
السعود، ثم قسمنا، فخرج لك خير القسمين، فقلت: ألا أحدّثك بحديث حدّثني به أبي.
قال عليه السلام: قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ): من سرّه أن يدفع الله عنه
نحس يومه فليفتتح يومه بصدقة يذهب الله بها عنه نحس يومه، ومن أحبَّ أن يُذهب الله
عنه نحس ليلته، فليفتتح ليلته بصدقة يدفع الله عنه نحس ليلته. فقلت: وإنّي افتتحت
خروجي بصدقة، فهذا خير لك من علم النجوم"14.
قال: أحسنت والله، الثامنة.
قال: رأيت قوماً يتّكلون على صحة أبدانهم، وقوماً على كثرة أموالهم، وقوماً على خلق مثلهم، وسمعت قوله تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾15، فاتّكلت على الله، وزال اتكالي على غيره.
* تطبيق من أحاديث الإمام عليه السلام:
عن ابن أبي يعفور قال: سمعت أبا عبد الله ( عليه السلام ) يقول: وهو رافع يده إلى السماء: " ربِّ، لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً، لا أقلّ من ذلك ولا أكثر " قال: فما كان بأسرع من أن تحدر الدموع من جوانب لحيته".16
خلاصة الدروس الثمانية
1- إنّ الحبّ الحقيقيّ يجب أن يكون
لله. وهو يتجلّى بفعل الخير.
2- إنّ الفخر الحقيقيّ بتقوى الله التي
تحقّق الكرامة عند الله عزّ وجل.
3- إنّ الخوف الحقيقيّ من الله يجب أن
يقارنه نهي النفس عن الهوى.
4- إن الحفظ الحقيقيّ للنفائس والأشياء
الثمينة هو بالتوجه بها إلى الله تعالى.
5- إن الاعتقاد الحقيقيّ بأن الله
مقسّم الأرزاق يطرد الحسد من المُعتقد.
6- إن العدوّ الحقيقيّ الذي يجب
الاشتغال بعداوته عن غيره هو الشيطان.
7- إن الرزق الحقيقيّ ينحصر بيد الله
دون أيدي الناس.
8- إن المعتمَد الحقيقيّ الكافي
للإنسان في جميع شؤونه ينحصر بالله تعالى.
بتوقيت بيروت