يا ايها الذين
آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون /183"
قلنا في المقال الأول إن هذه الآية تشير إلى ثلاثة امور بصفة اساسية :
الأمر الاول :ان الصّيام فريضة دينية لازمة على جميع المسلمين المكلفين،والثّاني:ان الصّوم كان مفروضا" على الامم السّابقة،والثّالث :فلسفة هذه العبادة التّربوية والغاية منها.
وقد تحدثنا في المقال السابق فيما يتعلق بالأمر الأول، ونتحدث في هذه الحلقة فيما يتعلق بالأمر الثاني :
تبين الاية ان فريضة الصوم ليست شيئاً اختصت به الشريعة الاسلامية ،اوشيئاً فُرض على المسلمين خاصة ،وانما هي عبادة الهية فرضت على اتباع الديانات الماضية التي نُسخت بالشريعة الاسلامية .وهذا ما كشف عنه قوله تعالى في الآية (كما كتب على الذين من قبلكم ) فالصيام فرض عليكم كما فرض على الأمم الماضية التي سبقتكم وسبقت ظهور الاسلام كأُمة موسى وعيسى وغيرهم .
وقد يتخيل بعض الناس ان تشبيه الصوم المكتوب علينا بما كتب على الذين من قبلنا ، يوحي بأن الصوم عندنا وعندهم واحد ، من حيث وقته وعدد أيامه وخصوصياته وأوصافه ولكن ذلك مما لا تدل عليه الآية ولا يمكن اسفادته منها ، لان التشبيه في قوله تعالى( كما كتب على الذين من قبلكم ) انما هو لبيان المشابهة في اصل تشريع الصوم فالله يريد ان يبين ان اصل الصوم الذي هو بمعنى الكف والامساك الذي فُرض علينا قد فُرض على الذين من قبلنا، فالتشبيه وارد لبيان هذه الجهة، وليس لبيان كيفية الصوم ولا وقته ولا عدد أيامه ولا لبيان نوعية الاشخاص الذين فرض عليهم الصيام من الامم السابقة .
إذاً اصل الصوم فرضه الله علينا نحن المسلمين كما فرضه على المؤمنين الذين كانوا من قبلنا من أتباع الشرائع السابقة. ولم يرد في القرآن الكريم شرح أوتفصيل عن طبيعة وخصوصيات الصوم الذي فرضه الله على السابقين في الشرائع السابقة. كما لم يعين القرآن الكريم الاشخاص او الامم الذين فرض عليهم الصيام من أتباع الديانات السابقة،فلم يبين القرآن من هم ؟ ولكننا نجد في القرآن الكريم حديثاً عن صوم الصمت فيما حدثنا الله به من قصة زكريا : ( قال آتيك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا ).وكما في قصة مريم عليها السلام : فأما تريب من البشر أحاً فقولي إني نذرت الرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسيا).ولا يوجد في التوراة والانجيل الموجودين عند اليهود والنصارى ما يدل على وجوب الصوم وفرضه وما هو موجود في التوراة والانجيل فيما يتعلق بالصيام انما هو مدح للصوم وتعظيمه وليس فرضه وجوبه.
ولكننا نجد المؤمنين بهذين الكتابين من اليهود والنصارى يصومون أياماً معدودة في السنة باشكال مختلفة ،فنجد لدى بعضهم نوعاً من الصوم الذي يمتنعون فيه عن الاكل والشرب في بعض ايام السنة ،ونجد لدى البعض الاخر نوعاً اخر من الصوم كالصوم عن اللحم والصوم عن اللبن في بعض أيام السنة .
فالصوم عند اليهود مثلاً هو :الامساك عن الاكل والشرب ولم يفرض عليهم الا صوم يوم واحد في السنة كما ورد في عهد اللاويين 29/16 . وكانوا في ذلك اليوم يلبسون المسوح اي الصوف وينثرون الرماد على رؤوسهم ويصرخون ويتضرعون وما شاكل ذلك من الممارسات التي كانوا يقومون بها اثناء الصوم في ذلك اليوم .وكان ذلك اليوم الذي يصومون فيه هو اليوم العاشر من الشهر السابع كما في عهد اللاويين. وكانت تسبق هذا اليوم تسعة ايام تسمى بايام التوبة حيث كانوا يتطهرون في تلك الايام تطهيراً يكفل لهم النقاء والطهارة في خلال السنة القادمة.
وكان اليهود يصومون بعد ذلك في مناسبات حزينة معينة، فكانوا يصومون اليوم التاسع من الشهر الرابع من كل سنة حزناً بمناسبة استيلاء الكلدانيين على مدينة القدس، ويصومون اليوم العاشر من الشهر الخامس بمناسبة احتراق الهيكل، ويصومون اليوم الثالث من الشهر السابع لمصادفته ذكرى تخريب اورشليم ،ويصومون اليوم العاشر من الشهر العاشر وهو يوم الذي ابتدأ فيه حصار القدس.والخلاصة: ان اليهود يصومون يوما في السنة وجوبا ويصومون اياما اخرى في السنة بمناسبات مختلفة لاحزانهم ومآسيهم ، وقد كان الصوم عندهم من غروب الشمس الى مساء اليوم التالي.
واما النصارى: فالصوم مفروض وواجب عندهم في اوقات معينة وهو عند اكثرهم عبارة عن الامتناع عن الاكل من نصف الليل الى ظهر اليوم التالي، فالصوم عند الكاثوليك هو الامساك عن الطعام والشراب يومهم وليلهم ولا يأكلون الا قرب المساء واذا افطروا لا يشربون خمراً ولا يتأنقون في طعامهم . والصوم الواجب عندهم هو الصوم الكبير السابق لعيد الفصح، واما الصوم المستحب عندهم فهو كثير كصوم يوم الاربعاء وهو اليوم الذي حكم فيه على السيد المسيح ، وكيوم الجمعة وهو اليوم الذي صلب فيه المسيح كما يقولون .وكذلك صوم الايام الاربعة السابقة للميلاد ،وصوم يوم عيد انتقال السيدة العذراء وعيد جميع القدسين ،هذا ما كان عليه الكاثوليك سابقاً ولكن جرت تغييرات في وجوب الصوم عندهم حتى صار صوم كثير من الايام السابقة واجباً بدل ان يكون مستحباً، فمثلاً الآن يوجبون الصوم عن اللحم في يوم الجمعة إلا اذا صادف في هذا اليوم عيد من اعيادهم.
واما الروم الارثوذكس: فالصيام عندهم اكثر من الصيام عند غيرهم من المسيحيين ، فهم يصومون اليوم السابق لعيد الفصح ويصومون خمسة عشر يوماً قبل انتقال السيدة العذراء ويصومون اربعين يوما قبل الميلاد.
واما البروتستانت: فالصوم عندهم سُنّة لا فرض واجب، وهو عندهم الامساك عن الطعام مطلقا بخلاف سائر الطوائف المسيحية فان الصوم عندهم هو الكف عن بعض المأكولات كما ذكرنا.
واما الأرمن والقبط: فهم يصومون الاربعاء والجمعة من كل اسبوع الا ما وقع منهما بين الفصح والصعود، ولهم ايضاً عشرة اسابيع يصومونها كل سنة.
هذه خلاصة ما يمكن قوله بالنسبة الى الصيام عند الامم من اتباع الديانات السابقة. وبذلك نستطيع ان نجد لدى هؤلاء المنتسبين الى هذه الديانات بالرغم من تحريف كتبهم الدينية شواهد على ما جاء في القرآن الكريم من فرض الصيام على الامم السابقة (كما كتب غلى الذين من قبلكم).
إن هذا الاندفاع نحو هذه العبادة من قبل معظم اتباع الديانات السماوية وهذا الحب الكبير لها لدى جميع الامم حتى الوثنية منها، انما يدل على قيمة وفضل هذه العبادة وعلى ان الصوم من اهم الوسائل التي تتقرب من خلالها الانسانية الى الله ومن اعظم الطرق التي ينبغي ان يسلكها الانسان لتهذيب نفسه والتحلي بالاخلاق والفضيلة والابتعاد عن الشهوات والرذيلة.
سلسلة نداء الرحمن/الشيخ علي دعموش
موقع قناة المنار
بتوقيت بيروت