376
طالبة وطالباً في لبنان مقيّدة حرياتهم العامّة. فهؤلاء يستفيدون من منح دراسية
تقدّمها الوكالة الأميركية USAID، وهي
مشروطة بجملة واسعة من الشروط والأحكام التعاقدية «المطّاطة»، وفي مقدمها عدم المشاركة
بأي نشاط أو عمل أو موقف يمكن أن يعتبره موظّفو الوكالة والسفارة الأميركية في
لبنان داعماً للإرهاب... ولكن ما هو مفهوم «الإرهاب» في عرف هؤلاء. هو باختصار كل
إطار لا يخدم المصالح والسياسات الأميركية، بما في ذلك شركات أو جمعيات يعمل فيها
مؤيدون لمقاومة الاحتلال.
بعد الانتهاء من المرحلة الثانوية، يتوجه قسم كبير من الطلاب والطالبات للبحث عن منحة دراسية لاستكمال دراستهم في جامعة خاصة. زينة (اسم مستعار) هي واحدة من هؤلاء. تقدّمت بطلب منحة من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID)، وحصلت عليها بعد استيفاء شروطها وتوقيع العقد النموذجي مع الوكالة ومرفقاته تتعاقد هذه الوكالة مع ثلاث جامعات خاصة في لبنان: الجامعة الاميركية في بيروت، الجامعة اللبنانية الاميركية، وجامعة هايكازيان.
والشروط هي نفسها تقريباً؛ فعلى مقدم الطلب أن يكون لبنانياً حاز علامة 12 على 20 كحد أدنى في الشهادة الثانوية، وأن يكون قد أتمّ دراسته في مدرسة رسمية. زينة تستوفي هذه الشروط، وقد أرفقت مع طلب التسجيل نسخة من علاماتها في السنين الثلاث للمرحلة الثانوية، إضافة الى مستند يقنع الجامعة والجهة المانحة بأنها من الفئات الأكثر عوزاً. اجتازت المراحل الثلاث، إضافة الى إجراء امتحان لغة والعديد من المقابلات.
يتوزع الطلاب المستفيدون من منح الوكالة بشكل متساوٍ جندرياً
ومناطقياً. وليس في ذلك أي تمييز بين الطلاب والطالبات، لا سيما أن مراحل القبول
والمقابلات مع الطلاب تتولاها إدارات الجامعات الثلاث بشكل مباشر. بيد أن عدداً من
الحالات التي قابلتها «الأخبار»، ومنهن زينة، أنذرت بأن حرية التعبير والرأي لدى
هؤلاء الطلاب والطالبات مقيّدة بموجب العقد ومرفقاته، فضلاً عن أن حرّية عملهم بعد
التخرّج مقيّدة أيضاً لفترة توازي سنوات الدراسة، أي 3 سنوات بعد التخرّج في
الجامعة.
كيف ذلك؟
يوقّع الطلاب المقبولون على العقد ومرفقاته مع الوكالة للاستفادة من المنحة. وغالباً لا يطّلع هؤلاء على الأحكام التي يوقّعون عليها، وليس لديهم حق تعديلها أو التحفّظ على بعضها. وبالطبع هم لا يستشيرون خبيراً قانونياً قبل التوقيع عليها. في الواقع، لا يهتم طالب المنحة بكل التفاصيل، كل ما يهمه الفوز بالمنحة نفسها التي تؤمن له دفع مصاريف دراسته كاملة، وتأمين السكن والكتب الدراسية والتأمين الصحي، إضافة الى مصروف شهري بقيمة 500 دولار على مدى 11 شهراً في السنة، وعلى مدى سنوات الدراسة.
هذه المزايا التي يحتاج إليها الطالب بشدة، في ظل عدم التزام الدولة بمبدأ حق التعليم ومجانيته، تتحوّل بذاتها الى مقيّد لحريته وحقوقه. يصبح قلقاً من خسارة منحته. يخاف الطالب الإقدام على أي عمل قد يفسره موظف الوكالة مخالفاً لأحكام العقد ومرفقاته. فكيف إذا كانت هذه الاحكام هي تقييدية بالفعل؟ وهو ما يكتشفه الطلاب والطالبات لاحقاً. يكتشفون أنهم ممنوعون من التعبير الحر على شبكات التواصل الاجتماعي أو المشاركة في النشاطات السياسية أو الانخراط في العمل الطالبي... أو حتى التدرّج لدى مؤسسة، لمجرد أنها تحمل موقفاً لا يتناسب مع مصالح وسياسات الولايات المتحدة الاميركية وإسرائيل وبعض القوى السياسية المحلية.
ليس الحديث هنا عن حالات فردية أو هامشية. فالوكالة الأميركية للتنمية الدولية تعدّ من أبرز الجهات التي تقدم المنح الى الطلاب، فهي تقدم سنوياً منحاً دراسية كاملة، ويصل عدد المستفدين منها حالياً الى 376 طالباً، سيضاف اليهم 106 طلاب بحلول أيلول 2014.
إذن، الحديث هنا عن كتلة طلاب كبيرة نسبياً، يُجبرون على توقيع
عقد ظاهره عادي يحدد الشروط الأساسية المتعلقة بالالتزام بأنظمة الجامعة لناحية
الحضور والنجاح في المواد والانخراط في نشاطات داخل الجامعة، أما باطنه فيحمل في
طيّاته ملامح القمع، وهي تبعات الورقة المرفقة مع العقد بعنوان certification regarding terrorist
financing
implementing أو «الشهادة
المتعلقة بتنفيذ الأمر التنفيذي بشأن الدعم المادي للإرهاب».
ماذا في الورقة المرفقة التي حصلت عليها «الأخبار»؟
يوقّع الطالب، بحسب الفقرة الأولى، على تعهد ينص على الآتي: «سأتحمل كامل المسؤولية لضمان أنه خلال الفترة الممتدة من تاريخ تسجيل الطالب حتى 6 سنوات، لن أقدم ــ بدرايتي ــ أي دعم مادي أو بشري لأي شخص أو مؤسسة تدعم، أو تحاول أن تدعم، تروّج، تسهّل أو تشارك في أي عمل إرهابي، أو سبق أن ارتكبت، حاولت ارتكاب، سهّلت، أو شاركت في عمل إرهابي».
قد يبدو النص مقبولاً ما دامت الجهة المانحة هي وكالة أميركية، لكنّ تفسير التعهّد يبقى مطاطياً، ولا سيما لجهة تفسير «الارهاب». فالعقد يقول إن «الارهاب» هو بحسب التعريف الذي تعتمده الأمم المتحدة. ولكن في الممارسة، كما حصل مع زينة وغيرها، يتجاوز كثيراً هذا التعريف؛ فحزب الله وكل الهيئات المساندة للمقاومة وكل الشركات والمؤسسات التي يعتبرها موظف الوكالة «إرهابية» أو «داعمة للإرهاب» ستصنّف على هذا الاساس ويجري اعتماد هذا التصنيف في التعامل مع الطلاب والطالبات الحائزين المنح من الوكالة. وهذا يشمل أيضاً تفسير «الدعم المادي والبشري»، إذ يتوسع موظفو الوكالة وموظفو السفارة الأميركية في تفسير «الدعم» ليشمل كل «أدوات العملة والخدمات المالية، التدريب، تقديم النصيحة أو المشورة أو المساعدة، التواصل، التسهيل، تقديم السلاح، التواصل الشخصي، المواصلات، أو غيرها من الدعم الجسدي، من الأموال غير المنقولة».
كيف تتم ترجمة ذلك؟
زينة في سنتها الدراسية الثانية كانت بحاجة إلى ساعات تدريب محددة في إحدى الشركات. قامت باختيار إحداها، ولم تعترض إدارة الجامعة على اختيارها لاختصاص الشركة في مجال دراسة هذه الطالبة. بعد حوالى أسبوع، تلقّت اتصالاً من أحد العاملين في الوكالة، استدعاها الى مكتبه «للضرورة»، وطلب منها الاختيار بين استكمال التدريب في هذه المؤسسة وبين المنحة المعطاة اليها، وهي بطبيعة الحال اختارت المنحة، ولم تنجح محاولاتها للاستفسار عن سبب رفض هذه الشركة المسجلة قانوناً في السجل التجاري اللبناني وتقوم بعملياتها مثل سائر الشركات المماثلة. اكتفى الموظف بالقول «إنكم وقّعتم على عقد وعليكم الالتزام به». ولكن أين خالفت العقد؟ تسأل زينة. يشير الموظف الى «الورقة المتعلقة بدعم الارهاب».
تستغرب زينة هذه الإجابة، فهي تعلم أن الشركة التي اختارتها ليست مملوكة أو تابعة أو مدارة من قبل حزب الله أو أي منظمة تعتبرها الادارة الاميركية إرهابية أو داعمة للارهاب. ولكنها، كما تقول، تعلم بأن هذه الشركة يعمل فيها أشخاص يؤيدون المقاومة ضد إسرائيل وينتقدون سياسات الادارة الاميركية. والمفارقة، بحسب زينة، أن معظم هؤلاء الاشخاص يزورون الولايات المتحدة، وبالتالي ليسوا ممنوعين من زيارتها، أي إنهم ليسوا مصنفين إرهابيين لدى السلطات الاميركية. حال زينة كحال غيرها من الطلاب الذين تم استدعاؤهم لدى اختيارهم لمؤسسات لا تعجب العامل في الوكالة، خصوصاً طلاب الجامعة اللبنانية الأميركية، أو الجامعة الأميركية في بيروت، حيث تعتمد الوكالة «توجيه» الطلاب للعمل والتدريب في مؤسسات «تتناسب» مع الوكالة وأهدافها. أما في جامعة هايكازيان فالحال هي الأسوأ، إذ لا يمتلك أي من طلابها نسخاً عن العقود، وهم ممنوعون من أي نشاط سياسي بحجة أن العقد يمنعهم من ذلك. قيود كثيرة تفرض على هؤلاء الطلاب، من خلال توجيه مدبّر من قبل الوكالة وموظفيها، ومن خلال إبعاد العديد من المؤسسات بتصنيفها «إرهابية» رغم عدم إدراجها على لائحة الارهاب وهي مؤسسات اجتماعية، اقتصادية، وحتى إنسانية أحياناً!
كيف تفسّر الوكالة ممارساتها بحق الطلاب؟
لم يكن سهلاً التواصل مع المسؤولين في الوكالة الأميركية للتنمية الدولية. بعد اتصالنا بالوكالة، طلبوا منا إرسال بريد إلكتروني بطلب إجراء مقابلة مع أسبابها، وكان لهم ذلك. بعد إرسال البريد والمتابعة عبر الاتصالات الهاتفية، انتظرنا من 7 تشرين الثاني (تاريخ إرسال البريد) حتى آخر الشهر نفسه. ولدى المتابعة كان ردّ موظف الهاتف أن البريد أصبح لدى العلاقات الدبلوماسية في السفارة، ولم يتم تحويلنا لدى اتصالنا في أي من المرات الى الشخص المسؤول، لذا أبلغناهم أننا سننشر الموضوع من دون رأي أو ردّ من السفارة. وفي اليوم نفسه من الرسالة، قامت إحدى المسؤولات من السفارة بالتواصل معنا طالبةً إعطاء السفارة يوماً لمعاودة الاتصال بنا للإجابة عن الاسئلة، وكان لهم ما أرادوا، إذ عاودت روبين هولزهور مسؤولة العلاقات الدبلوماسية في السفارة في الرابع من الشهر الماضي إرسال بريد فيه تفاصيل عن البرنامج، اضافة الى أنها طلبت مهلة ثانية للرد على الحالات التي قابلتها الأخبار، ليأتي الرد من هولزهور أن الطلاب لهم حرية اختيار المؤسسة أو الجمعية المراد التوجه اليها للتدريب أو العمل، إضافة الى أنهم أحرار في أن ينخرطوا في العمل السياسي «كما يحلو لهم»، مضيفة أن الواقع اللبناني أساساً بأكمله مسيّس. وأشارت إلى أن أي حالة منع من قبل السفارة أو الوكالة مردّها الى أن الطالب قد يكون توجه الى جمعية مملوكة من منظمة إرهابية أو داعمة لها، أو لديها من يموّلها من أفراد يدعمون الارهاب بالموارد البشرية أو المادية، أو أن عدداً من الأفراد المنضمين اليها أو العاملين فيها هم من داعمي الإرهاب، خصوصاً أن العقد يعرّف «الكيان» أو المجموعة المصنفة داعمة للارهاب بأنها كل «شراكة أو تعاون أو منظمة أخرى أو مجموعة أو مجموعة منضوية داخل مجموعة»، مضيفة هولزهور أنه لا يوجد أي حظر أو منع، بل إنهم «يوجهون الطلاب الى بدائل» في حال كانت خياراتهم غير مناسبة لتحسين مستواهم الأكاديمي والمهني. والمستغرب أنها بررت النقطة الاخيرة (وهي التي تفتح الباب واسعاً أمام الاستنسابية التي تقيّد حريات الطلاب) بأنهم يشترطون معدلاً مرتفعاً كشرط للمنحة، في حين أن العقد واضح في هذا المجال، وهو يشترط أن يكون المعدل الوسطي للنجاح هو 2ــ4 أي 50ــ100. أليست هذه ذريعة للتقييد والتحكم في خيارات الطلاب؟
ليس هذا فحسب، فلدى عرض العقد على خبراء قانونيين فوجئوا بمدة العقد، إذ توازي ضعف عدد سنوات الدراسة، أي إن هذا العقد لا يؤثر في حرية الرأي والتعبير للطلاب على مدى ثلاث سنوات دراسية فحسب، بل يمتد الى ثلاث سنوات غيرها، تستطيع خلالها الوكالة أن تتحكم في المستقبل المهني للطالب حتى بعد الانتهاء من الدراسة، ويبقى مفعول العقد سارياً لثلاث سنوات إضافية تستطيع الوكالة أيضاً منعهم من العمل لدى مؤسسات معينة إذا ما أرادت. يقول محام استشارته «الأخبار» إن مدّة العقد تعدّ من «الشروط التعسفية»، إذ يستطيع بسهولة الطرف الأول أن يتحكم في الثاني.
أهداف الوكالة الأميركية
الوكالة الأميركية للتنمية الدولية هي إحدى المؤسسات التابعة لوزارة الخارجية الأميركية، وفي لبنان تديرها مباشرة السفارة الأميركية في بيروت، وتملك العديد من البرامج التي تموّل من خلالها العديد من المؤسسات العامة أو الخاصة، إضافة الى بعض «المنظمات غير الحكومية»، فضلاً عن برنامج المنح الدراسية. فما هو المقابل التي تنتظره السفارة الأميركية من خلال الأموال الضخمة التي تقدمها؟
عدا عمّا تقوله الوكالة عن أن الهدف من هذه المساعدات المقدمة «من الشعب الأميركي» هو لصون الكرامة الانسانية حول العالم، وتطبيقاً للسياسة الخارجية الأميركية المساندة لذلك، لا تقدم أي أجوبة مقنعة حول الأهداف غير المباشرة أو الأجندة السياسية وراء ذلك، غير أن هناك العديد من التحليلات التي تضعها تحت خانة التهرب من الضرائب، فيكون «التبرع المشروط» حلاً لهذه المبالغ الضخمة التي توزّع في أكثر من مئة دولة، فضلاً عن «أجندة» سياسية مخفيّة وراء المشاريع التي تتولى بعض مؤسسات الدولة (حتى العسكرية منها) ومنظمات المجتمع المدني تنفيذها.
حسين مهدي/جريدة الأخبار
09-01-2014
بتوقيت بيروت