·قصة
واقعية رواها السيد القائد آية الله الخامنئي في صلاة الجمعة
يقع دارنا وسط سوق صغير، وهو مؤلف من غرفتين
مؤجرتين نعيش فيهما أنا وأخي حميد وأبي وأمي. وعلى الرغم من أن حميد قد بلغ
الحادية عشرة من عمره إلاّ أنه إلى الآن يفكّر كالأطفال (لعليّ كنت أفكّر مثله
حينما كنت في مثل عمره).
قبل عدة أيام طلب حميد من أبي دراجة وأخذ
يلحُّ عليه في شرائها حتى وعده أبي بالحصول عليها في حال نجح في دراسته وترفّع إلى
الصف الرابع. ومن تاريخ هذا الوعد، بدأ أبي يأتي متأخراً ساعةً عن موعد مجيئه
ليلاً ويخرج من البيت قبل ساعة من خروجه صباحاً، وعندما سألته أمي عن السبب أجابها:
"علي أن أعمل إضافةً حتى أستطيع شراء دراجة لحميد".
كان قد مضى من السنة الدراسية حوالي الثلاثة
أشهر قبل أن يقطع والدي وعده لحميد، ولم تكن علامات حميد حتى هذا الوقت جيدة، إلاّ
أنه حين أخذ الوعد بالدرّاجة بدأ يهتم بدراسته أكثر. ومع توالي الأيام تحسنت
دراسته بشكل ملحوظ. وبدا التعب والإرهاق أيضاً على والدي الذي كان يعمل في مخبز
مجاور لبيتنا، ولكنه كان يبدو مستأنساً بهذه الحالة، لأننا عندما كنا نطلب منه أن يعطي
نفسه بعض الراحة كان يجيب "عندما يدّعي شخص ما أنه مسلم، فيجب عليه أن يفي
بوعده إن وعد" وبهذا لم يترك لنا مجالاً للكلام. علامات حميد كانت أفضل في امتحاناته اللاحقة، وقد قال لي وهو
يريني شهادته:
"أنا أيضاً وعدت أبي أن أنجح في دراستي وسأفي
بوعدي" لقد سررت كثيراً بكلمة حميد مع علمي أنه لم تخلُ الدراجة من تأثير في
هذا الأمر. وقد اتضح لي مدى تعلّق أخي بالدرّاجة من خلال دفتر رسمه الذي لم يحوِ
إلاّ رسوماً لدراجات متنوعة، كان يلتقطها وهو جالس على عتبة الدار يراقب الراكبين،
حيث كان يمضي في ذلك كل يوم حوالي الساعة. مرت الأيام التالية بهدوء، حتى جاء أبي في إحدى الليالي
مبكراً على غير عادته، وقد كان مسروراً جداً حتى أن سروره هذا خفف من صفرة وجهه.
نادى حميد وقال له: "أبشِّرك، لقد حصلتُ على ثمن الدّراجة، ستذهب غداً مع
أخيك - علي - إلى
السوق لتشتري الدراجة التي تحب".
نام حميد ليلته تلك بدون عشاء، وعندما
استيقظتُ صباحاً وجدته قائماً يصلي على غير عادته، "لعلّ هذه أفضل هدية
أهديها لأبي - الصلاة في أوّل وقتها" قال حميد. وهو لم ينم بعد
الصلاة بل أمضى وقته بقراءة القرآن. وكان حميد أول من ارتدى ملابسه، وأنا أيضاً
كنت مستعداً للذهاب إلى السوق. قال لنا أبي وهو يتّجه نحو ملابسه "إشتريا
دراجة جيدة ليرتاح بال الجميع" ضحك حميد، وتابعت أمي قائلة:
"نعم يا ولدي، البضاعة الرخيصة ضررها أكبر.."وكانت
هذه آخر عبارة قيلت بخصوص الدراجة... ولم نذهب إلى السوق أبداً... يوم ذاك لم أفهم من دروسي شيئاً، كان كل تفكيري منحصراً
بالحافلة المزدحمة بالناس التي استقلّها والدي في مجيئه إلى البيت والتي أضاع فيها
ثمن دراجة حميد، حتى أنني في عودتي من المدرسة لم أنتبه إلى أن الحافلة التي ركبت فيها
قد تجاوزت حيّنا إلاّ بعد حين. وها قد مضى أسبوع ولم يتكلم أحد حول الدراجة حتى أوشكنا
أن ننسى هذه القضية. نهار الأحد التالي، كنت أتوضأ عند الحوض عندما رنّ الجرس في
البيت، وإذا بالباب أحمد صديق أخي حميد، أعطاني رسالة وابتعد عني بسرعة. فضضت
الرسالة وما إن وقع نظري عليها حتى شعرت بالعرق البارد يتصبب على وجهي. كانت أمي واقفة
خلفي ولم استطع إخفاء الرسالة عنها: "حميد صدمته سيارة تاكسي وهو الآن في
المستشفى".
عندما وصلنا إلى المستشفى وجدنا أبي قد
سبقنا وكانت حالة حميد قد تحسّنت قليلاً. كان معصوب الرأس وقد أخبرنا الطبيب أن
يده اليسرى مكسورة، وأن عليه أن يمضي عشرة أيام في المستشفى. كانت المستشفى مزدحمة
كثيراً، وعرفنا أن جرحى الحرب يعالجون فيها.
تجولت قليلاً لرؤية الجرحى وشيئاً فشيئاً
نسيت أخي وشعرت أيضاً بصغر نفسي وحقارتها. فهؤلاء الجرحى قدّموا أيديهم وأرجلهم
وأبدانهم المجروحة فداءً للإسلام، وتصديقاً لقولهم "نحن جند الإمام
الخميني"، فهم قد أطاعوا أمر الإمام حقاً.
بعد خمسة أيام تحسّنت حالة حميد كثيراً. كنا
كلما ذهبنا إليه وجدنا عنده سائق التاكسي الذي صدمه، حيث كانا يمضيان وقتاً في
الحديث، أو كنا نجده في زيارة لأحد جرحى الحرب الذين صادفهم. ثمّ مرت الأيام
العشرة وحان وقت رجوعه إلى البيت. تنفّس سائق التاكسي الصعداء وهو يودّعه، وقبلّه
وسجّل أيضاً عنوان بيتنا ثم ودّعنا وذهب. بعد أسبوع من ذلك، أخذنا حميد إلى المستشفى لنزع جبيرة يده،
وعندما عدنا إلى البيت وحوالي الساعة الثانية ظهراً سمعت طرقاً على الباب، فتحته
وإذا به سائق التاكسي (سيد أحمدي). سلمت عليه وسألته ضاحكاً: "كيف جئت على
هذه الدراجة الصغيرة؟" فضحك وقال: "هذه ليست دراجتي، إنها دراجة
حميد!" وقبل أن أنطق يشيء أخبرني أنه تحدث مع حميد بأمور كثيرة عندما كان في
المستشفى، وقد عرف بقصة الدراجة، وأحب أن يهدي حميد بمناسبة سلامته هذه الهدية
راجياً تقبّلها. ثم ودّعنا دون أن يدخل البيت. في الحقيقة سررنا جميعاً لسرور حميد. وهو في اليوم التالي ذهب
إلى السوق واشترى بالمال القليل الذي كان قد جمعه في صندوق توفيره، ضوءاً وجرساً وشرائط
لدرّاجته. وأصبح يذهب إلى المدرسة كل يوم عليها. وهكذا مضت الأيام التالية هادئة
بالنسبة إلى حميد، وصاخبة من ناحية أخرى، حيث كانت الحرب تستعر يوماً بعد يوم.
كنّا أنا وحميد نذهب في بعض الليالي إلى دار
أحد الجيران لنسمع ونرى أخبار الحرب على التلفاز، وكنا نرى كيف يحارب جنود الإسلام
العدو، وكيف كان أهالي المدن والقرى يبذلون المساعدات للجنود ومشرّدي الحرب. رأينا
امرأة عجوز تبذل كل ما تملك - ثماني بيضات - مساعدةً منها للجنود وهي تلتمس قبول
ذلك منها. ورأينا أطفال إحدى المدارس وقد أحضر كلٌّ منهم ما وفّره مساعدةً لمشرّدي
الحرب. وفي إحدى الليالي رأينا أحد أبناء القرى يبذل سبعين توماناً كان قد وفّرها
خلال سنة مساعدةً منه لجنود الإسلام، وقد كان في مثل عمر حميد.في
الطريق عندما عدنا من بيت الجيران، قال لي حميد "ليتني لم أصرف ما جمعته في صندوق
توفيري على الدراجة". وفي تلك الليلة بقينا
مستيقظين حتى ساعة متأخرة من الليل. عندما علمت أمي سبب عدم ارتياح حميد، قررت أن
تعطيه حلقتي أذنيها ولكنه لم يقبل بذلك. ثم نظر إلينا فجأة وقال:
"لدي فكرة أفضل، سأقولها لكم غداً".
في الصباح الباكر ارتديت ثيابي وهممت
بالخروج لشراء الخبز، فتناهى إلى سمعي صوت أخي حميد يتحدث مع أحد ما. اقتربت قليلاً
لأتأكد من ذلك، نعم، لم أشتبه، كان حميد يخاطب دراجته قائلاً: "صديقتي العزيزة، هذا آخر لقاء
بيني وبينك، يجب أن ننفصل هذا اليوم عن بعضنا، ومع أنّي أحبك كثيراً إلاّ أن هذا
الأخ الذي أعطى يده ورجله في سبيل الإسلام أحبه أكثر، وهؤلاء الذين شردوا بسبب
الحرب أيضاً أحبهم أكثر منك.."انقطع صوت حميد فجأة لأنه شعر بوجودي، فقام
عن دراجته، وقال لي مباشرة:"يجب أن تأتي معي هذا اليوم لكي
نبيع هذه الدراجة، أريد أن أعطي ثمنها لمتضرِّري الحرب" حرّكت رأسي بالإيجاب ولم
أنطق بشيء. وفي الطريق فكّرت مليّاً، هل هذا هو نفس حميد الذي كان قبل ثلاثة
أشهر؟ لا بالطبع لم يكن هو!
بعد يومين، وحينما ذهبنا لأداء صلاة الجمعة،
تقدم حميد نحو إمام الصلاة وأعطاه ثمن الدراجة. لقد كان سروره كبيراً جداً، إلى
درجة يمكنني أن أقول أنه لن يغتمّ أبداً لعدم رؤية درّاجته إذا ما عدنا إلى البيت.